وزير عدل لبنان.. برتبة «لواء»

أشرف ريفي يتمتع بشعبية بين فقراء طرابلس.. ودفاعه عن «قادة محاورها» أغضب خصومه

أشرف ريفي
أشرف ريفي
TT

وزير عدل لبنان.. برتبة «لواء»

أشرف ريفي
أشرف ريفي

آخر ما كان يتوقعه رئيس الحكومة اللبنانية السابق، نجيب ميقاتي، أن يسقط حكومته بنفسه، مقدما استقالته احتجاجا على رفض حزب الله تمديد ولاية المدير العام لـ«قوى الأمن الداخلي» السابق اللواء أشرف ريفي، أسوة بباقي القادة العسكريين، وأن يدخل الأخير بعدها بشروطه إلى حكومة خلفه الرئيس تمام سلام من بابها العريض، متوليا حقيبة العدل بعد وضع «فيتو» على تسلمه حقيبة «الداخلية».
خرج ميقاتي ووزراء طرابلس الأربعة من السراي الحكومي، ودخلها ريفي ديكا مزهوا، مسلحا بقاعدة شعبية في طرابلس لم تتردد في إطلاق الرصاص ابتهاجا عند توزيره، وبدعم من فريقه السياسي الذي لم يمانع اشتراطه الحصول على حقيبة العدل أو الاتصالات، وإلا الإطاحة بتأليف حكومة الرئيس تمام سلام في اللحظات الأخيرة.
ورغم أن اسمه تصدر قائمة «الوزراء الاستفزازيين»، وأثار غضب جمهور فريق «8 آذار» بوصفه وزميله نهاد المشنوق، الذي تسلم حقيبة «الداخلية» بدلا عنه، من صقور قوى «14 آذار»، مما أشعل مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات لم تستبعد إفراج ريفي في المرحلة المقبلة عن الموقوفين المتورطين في تفجيرات الضاحية الأخيرة - بدت لافتة مسارعة قياديي «8 آذار» إلى تبرير موافقتهم لجمهورهم، تزامنا مع زيارة تهنئة قام بها رئيس وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا إلى منزل ريفي قبل يومين، تخللها بحث جملة من الملفات، يتداخل فيها الشق الأمني بالسياسي.
وبذلك، لم يعد مستغربا أن يطمئن الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في إطلالته مساء الأحد الماضي غداة تأليف الحكومة، مؤيديه بالقول: «عندما يعترف الشخص فلا أحد يستطيع إطلاق سراحه أيا كان وزير العدل»، في حين غرد رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون، مساء الاثنين الماضي، عبر موقع «تويتر»، ردا على أسئلة مناصريه، قائلا: «مسجونو الإرهاب بعهدة القضاء، وهو الذي يقرر إطلاقهم، ولا أحد آخر»، مؤكدا أن «الوزير ريفي سيسهر على إحالة الإرهابيين الموقوفين إلى القضاء».
وكان لحلفاء سوريا في لبنان موقفهم أيضا من ريفي، فأعلن المدير العام لـ«الأمن العام» السابق اللواء جميل السيد، أحد الضباط الأربعة الذين أوقفوا في قضية اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق رفيق الحريري، قطع علاقته التشاورية بفريق «8 آذار»، اعتراضا على قبوله بريفي وزيرا للعدل. وقال: «كان من الأفضل أن يكون ريفي وزيرا للداخلية وليس للعدل»، عادا أنه «مقابل تسمية ريفي وزيرا، كان من المفترض على الفريق الشيعي أن يسمي وفيق صفا وأحمد بعلبكي للتوزير».
تدرج حزب الله في مواقفه الحكومية من رفضه تشكيل أي حكومة يشارك فيها ريفي وصولا إلى قبوله بتوليه حقيبة «العدل»، التي يقع تحت نظرها إدارة ملفات قضائية كبرى، ليس أولها التجاوب مع طلبات المحكمة الدولية ولا آخرها محاكمة المتورطين في شبكات التفجيرات، بموازاة امتعاض قاعدة الحزب الشعبية تحديدا، لا يأتي ذلك كله من فراغ. فاللواء المتقاعد لم يوفر الحزب من انتقادات حادة، وصلت إلى حد مساواته بين «جبهة النصرة» وتنظيم داعش من جهة وحزب الله، من جهة ثانية.
وكان ريفي قد قال في حديث إذاعي، مطلع العام الحالي، إن حزب الله هو «الوجه الآخر لـ(داعش) و(جبهة النصرة)، انطلاقا من أنه عندما يعلن حزب الله أنه يقاتل في سوريا جهادا، عليه أن يتوقع الجهاد المضاد، ومن يزرع الريح يحصد العاصفة. وللأسف حزب الله يحصد العاصفة، ونحن نحصد العاصفة معه». وشدد في الوقت ذاته على أن «لبنان لا يحميه إلا الاعتدال والتنوع والدولة».
مواقف ريفي التي كبلتها «البدلة» العسكرية خلال مسيرته الطويلة في «قوى الأمن الداخلي»، بدت أكثر وضوحا ومباشرة بعد تقاعده، لا سيما تلك المتعلقة بمدينة طرابلس، التي يتحدر منها، بعد تفجيري مسجد السلام والتقوى خلال شهر أغسطس (آب) الماضي، وتكرار جولات الاقتتال الدموية بين منطقتي باب التبانة السنية وجبل محسن العلوية، في ضاحية المدينة الشمالية.
كان يكفي أن يقول ريفي في شهر مايو (أيار) الماضي، تزامنا مع جولة قتال شهدتها مدينته على وقع معارك القصير السورية: «لا نستطيع أن نرتدي تنانير وسندافع عن شرف طرابلس»، ومن ثم وصفه «قادة المحاور» في التبانة، الذين يتصدرون وسائل الإعلام عند كل جولة قتال (أكثر من 20 جولة اشتباكات بعد أحداث السابع من مايو 2008 في بيروت)، بأنهم «أهلنا وأنا أفاخر بهم، وأحد لن يجعلني أخجل من أهلي»، لتنطلق بعد تصريحاته شرارة انتقادات عاصفة، وصلت إلى حد وصفه من قبل خصومه بـ«قائد ميليشيا» حينا، و«أمير المحاور» حينا آخر. لكن مقربين من ريفي يبررون مواقفه هذه بقولهم إنه وأهالي مدينته كانوا يقفون أمام حالة اعتداء غير مبررة، من قبل مقاتلي جبل محسن، الذين يجاهرون بانتمائهم وولائهم لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، ولا ينفكون عن جعل المدينة «صندوق بريد» لتبادل الرسائل «العابرة للحدود». ويذهبون إلى حد القول إنه أمام تكرار الاعتداءات، وعجز الدولة عن سوق المرتكبين إلى العدالة، لا خيار آخر إلا دفاع أبناء المدينة عن أنفسهم، عادين ما فعله ريفي هو «تسمية الأشياء أسماءها لا أكثر ولا أقل، وهو ما لم يكن قادرا على قوله أثناء قيامه بمهام رجل المؤسسة والدولة».
وارتفعت نبرة المدافعين عن ريفي بعد تفجيرين استهدفا في الوقت نفسه مسجدي السلام والتقوى بطرابلس في شهر أغسطس الماضي، وأسفرا عن سقوط 50 قتيلا وجرح أكثر من 500 شخص، وادعاء القضاء اللبناني على النائب السابق العلوي علي عيد، زعيم جبل محسن، بتهمة تهريب متورطين في التفجيرين من لبنان إلى سوريا. وكان ريفي - ولا يزال - من أشد المطالبين بسوق عيد إلى العدالة، ومعاقبة عناصر حزبه المتورطين في التفجيرين.
ورغم التململ العابر من توزير ريفي ومن مواقفه المناهضة لحزب الله والداعمة لـ«قادة المحاور» في مدينة طرابلس، لكن كثيرين من عارفي ريفي، من أصدقائه وخصومه، يثنون على شخصيته، وأدائه وإنجازاته المهنية، خلال سنوات تدرجه الطويلة من رتبة ضابط إلى رتبة لواء، وصولا إلى تعيينه مديرا عاما لـ«قوى الأمن الداخلي»، نهاية شهر أبريل (نيسان) 2005، بعد شهر ونصف الشهر على اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، وتوقيف سلفه اللواء علي الحاج مع ثلاثة ضباط آخرين قبل أن يفرج عنهم في وقت لاحق.
إن الوزير السابق وئام وهاب، على سبيل المثال، وهو من أبرز حلفاء سوريا في لبنان، اكتفى بعد تشكيل الحكومة اللبنانية بانتقاد خيار فريق «8 آذار» لوزرائه، محيدا ريفي بقوله: «اللواء ريفي صديقي وأنا أغفر لأصدقائي إذا ارتكبوا بعض الأخطاء»، علما بأن وهاب نفسه وفي موقف سابق له قبل إحالة ريفي إلى التقاعد وصفه بأنه «صديق صدوق»، متوقعا له «دورا كبيرا في المستقبل وقد يكون مرشحا لرئاسة الحكومة اللبنانية».
على صعيد «قوى الأمن الداخلي»، تمكن ريفي منذ عام 2005، تاريخ وصوله إلى إدارة هذا الجهاز الأمني التابع لوزارة الداخلية اللبنانية، من بناء جهاز متماسك، بعد أن نجح النظام السوري، خلال سنوات وصايته على لبنان، من خلق تركيبة موالية له في صفوفه.
ويقول مواكبون لعمل ريفي داخل مديرية قوى الأمن الداخلي، إنه رغم كونه محسوبا على «تيار المستقبل» الذي يتزعمه رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، لكنه نجح في «عصرنة» أداء «الأمن الداخلي» وجعله مؤسسة خاضعة للدولة اللبنانية بشكل أساسي. وتسهب المصادر ذاتها في تعداد نجاحات ريفي المهنية من خلال «تفعيل عمل فرع المعلومات وتطويره»، بعد أن ساهم في عودة وسام الحسن عن استقالته ومن ثم ترؤسه هذا الفرع، الذي كان له دور فاعل في كشف أكثر من 27 شبكة تجسس لصالح إسرائيل، ثلاث منها داخل صفوف حزب الله.
كما أن لريفي بالتنسيق مع اللواء الحسن، الذي اغتيل نهاية عام 2012، الفضل في امتلاك «قوى الأمن الداخلي» و«فرع المعلومات» معدات وتقنيات وأجهزة حديثة لا تحوز باقي الأجهزة الأمنية في لبنان مثيلا لها. وساهما في إرسال عشرات الضباط إلى الخارج للمشاركة في دورات تدريبية حول تقنيات التحقيق وتتبع الاتصالات ومعاينة مسرح الجريمة وكشف الجرائم العابرة للحدود.
ومن أبرز ما يمكن وضعه في إطار «إنجازات الرجلين»، كشف مخطط «سماحة - المملوك»، في إشارة إلى الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة، ورئيس مكتب الأمن القومي السوري اللواء علي المملوك، ومدير مكتبه المعروف بـ«العقيد عدنان»، الذين طلب لهم المدعي العام العسكري رياض أبو غيدا تطبيق عقوبة الإعدام خلال شهر فبراير (شباط) الماضي، «بتهمة التحضير لتفجيرات تستهدف معارضين سوريين وسياسيين لبنانيين مؤيدين للمعارضة السورية». ويعد فريق «14 آذار» كشف هذا المخطط عجل باغتيال الحسن، باعتبار أنه لامس «المحظور».
ورغم أن عمر الحكومة المفترض لا يتعدى الثلاثة أشهر، لكن ملفات عدة تنتظر في أدراج وزارة العدل، أبرزها وفق مصادر في «العدلية»، مسألة التعاون مع المحكمة الدولية والتجاوب السريع مع الطلبات التي ترسلها إلى وزارة العدل والنيابة العامة التمييزية، مع انطلاق المحاكمات، علما بأن ريفي وفريق عمل المديرية ساهما في تهيئة ظروف عمل لجنة التحقيق الدولية ومواكبة تأسيس المحكمة الدولية. وتبين أن تحليل بيانات الاتصالات الذي أجراه الرائد في «قوى الأمن الداخلي» وسام عيد، قبل اغتياله في شهر يناير (كانون الثاني) 2008، شكل أساس عمل المحكمة الدولية التي بدأت الشهر الماضي جلسات المحاكمة في قضية اغتيال الحريري في 14 فبراير 2005.
ومن الملفات التي تنتظر ريفي في وزارة العدل، إحالة قضايا الاغتيالات والتفجيرات الأخيرة إلى المجلس العدلي وفق ما سبق وطلب الرئيس اللبناني ميشال سليمان، من دون أن تصدر مراسيم إحالتها بعد، إضافة إلى توفير الغطاء السياسي للقضاء من أجل البت في ملفات حساسة، في مقدمها تفجيرا طرابلس، وإن كانت مصادر «العدلية» تؤكد أن ريفي ليس بوارد «الصدام» مع أي فريق، وليس بوارد «تغطية المجرمين أيا كان انتماؤهم».
وكان ريفي وفي أول تصريحاته بعد تعيينه وزيرا، قال إنه سيتعاون مع وزير الداخلية نهاد المشنوق باعتبار أن «العدل والأمن يتكاملان»، موضحا أن «التعاون مع حزب الله في وزارة العدل سيكون كأي مكون لبناني». وقال: «كما كنت في (قوى الأمن الداخلي)، فأنا لا أميز بين لبناني وآخر في الملفات الوطنية، إنما بالسياسة، وحكما، لدي رأيي الخاص، فأنا من دعاة العودة إلى الدولة والدولة فقط في وجه الدويلة».
وإلى جانب اتهام مصادر مقربة من ميقاتي لريفي بـ«قلة الوفاء»، لكن كثيرين من أهالي طرابلس ينوهون بوفاء ريفي الذي «لا ينسى أهله وأصدقاءه، ولم تغير المناصب من مبدأيته وأخلاقه»، على حد تعبير أحدهم. وتقول سيدة طرابلسية إن ريفي «يتمتع بشعبية لدى أهل المدينة، لا سيما الفقراء منهم، نظرا لخدمات كثيرة قدمها لأبنائهم خلال سنوات تدرجه في السلك الوظيفي». ويشير طرابلسي ثالث إلى أن ريفي لا يتردد في مساعدة كل من يقصده، وآخرهم عائلة سورية لم تجد مأوى لها، فتطوع إلى دفع إيجار منزل تقطنه في طرابلس.

* أشرف ريفي في سطور
* ولد في منطقة الحديد بطرابلس (شمال لبنان) عام 1954. متزوج بالمحامية سليمة أديب، وله أربعة أولاد: أحمد، وكريم، وأمل وهناء.
* حائز شهادتي ماجستير في علم اجتماع الجريمة، وإجازة في العلوم الاجتماعية من الجامعة اللبنانية.
* دخل المدرسة الحربية عام 1973 وتخرج فيها برتبة ملازم عام 1976، متدرجا في الرتب إلى أن بلغ رتبة لواء، وعين مديرا عاما لـ«قوى الأمن الداخلي» بتاريخ 30 أبريل (نيسان) 2005.
* تولى مهمات وظيفية عدة، أبرزها رئيس مكتب العلاقات العامة (1981 - 1988)، قائد سرية حرس رئاسة الحكومة (1988 - 1990)، تولى رئاسة فرع المعلومات (1995 - 1999)، وقيادة مدرسة الرتباء في معهد قوى الأمن الداخلي (1999 - 2001)، وتسلم رئاسة شعبة أمن الدولة الداخلي (1990 - 1993)، ومنصب مدير أمن الدولة الإقليمي في محافظة الشمال (1993 - 1995).
* تابع دورات تدريب وتأهيل في بلدان عدة، وشارك في مؤتمرات وندوات حول مواضيع كثيرة، أبرزها التحقيق في الجرائم المالية والتزوير، وتكنولوجيا المعلومات، ومكافحة الإرهاب الدولي، والإعلام الأمني، وجرائم تبييض الأموال وطرق مكافحتها.
* حائز أوسمة «الاستحقاق اللبناني بدرجاته الأولى والثانية والثالثة، وسام الحرب، وسامي فجر الجنوب والوحدة الوطنية، وسام الأرز الوطني من رتبة فارس، وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط، وسام الأرز الوطني من رتبة كوموندور، وسام جوقة الشرف الفرنسية، وسام التقدير العسكري – الدرجة الفضية، وسام الاستحقاق من وزارة الداخلية في جمهورية إستونيا».
* حائز أكثر من خمسين تنويها صادرا عن وزير الداخلية والبلديات، وزير الدفاع الوطني، قائد الجيش، المدير العام لـ«قوى الأمن الداخلي» والمدير العام لأمن الدولة.



«الضبعة»... «الحلم النووي» المصري يدخل مرحلة حاسمة

جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
TT

«الضبعة»... «الحلم النووي» المصري يدخل مرحلة حاسمة

جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)
جانب من أعمال إنشاء محطة «الضبعة» النووية في يونيو الماضي (هيئة المحطات النووية المصرية)

تقف مصر على مقربة من تحقيق «الحلم النووي»، الذي راودها منذ خمسينات القرن الماضي، عقب خطوات جادة وثابتة لتنفيذ «مشروعها الاستراتيجي»، وإنشاء أول محطة لتوليد الكهرباء بالطاقة النووية في مدينة الضبعة بمحافظة مطروح على ساحل البحر الأبيض المتوسط على بعد نحو 289 كيلومتراً شمال غربي القاهرة، بتمويل وتكنولوجية روسيين. وبينما يأتي المشروع في سياق خطة مصر لتنويع مصادر الطاقة ورؤيتها الاستراتيجية لامتلاك الطاقة النووية السلمية، فإن مشروع «محطة الضبعة النووية» تتجاوز أبعاده حدود الاقتصاد، لتمتد إلى السياسة والبيئة والمجتمع.

بالتزامن مع الاحتفال بالعيد السنوي الخامس للطاقة النووية، الذي يوافق التاسع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، شارك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، عبر تقنية «الفيديو كونفرانس»، في مراسم تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى بمحطة الضبعة النووية، وتوقيع أمر شراء الوقود النووي، ليدخل «الحلم النووي» المصري مرحلة حاسمة.

وعد الرئيس الروسي، في كلمته حينها عبر تقنية «الفيديو كونفرانس»، التعاون القائم بين مصر وروسيا في بناء المفاعل النووي «نجاحاً بارزاً»، مشيراً إلى أن «المشروع سيوفر الكهرباء اللازمة لدعم الاقتصاد المصري المتنامي».

وقال السيسي في كلمته إنه «في ظل ما يشهده العالم من أزمات متلاحقة في قطاع الطاقة، وارتفاع أسعار الوقود الأحفوري، تتجلى بوضوح أهمية وحكمة القرار الاستراتيجي، الذي اتخذته البلاد، بإحياء البرنامج النووي السلمي، باعتباره خياراً وطنياً، يضمن تأمين مصادر طاقة مستدامة وآمنة ونظيفة، دعماً لأهداف رؤية مصر 2030».

وتقدر الطاقة الكهربائية المتوقع توليدها من محطة الضبعة النووية بنحو 4800 ميغاواط، عبر أربعة مفاعلات من الجيل الثالث من طراز VVER-1200، وهو ما يمثل 10 في المائة من إنتاج الكهرباء في مصر.

وخطت مصر أولى خطواتها الجادة نحو تنفيذ المشروع في نوفمبر 2015 بتوقيع اتفاقية مبدئية بين الرئيسين المصري والروسي لإقامة أول محطة نووية لتوليد الكهرباء، تنفذها شركة «روساتوم» الحكومية الروسية، لتتخذ مصر من يوم التوقيع عيداً وطنياً للطاقة النووية.

وبعد عامين، وتحديداً في نوفمبر 2017، تم التوقيع على العقود الرئيسية لبناء الوحدات الأربع للمحطة، بطاقة 1200 ميغاواط لكل وحدة، لتنطلق بعدها الأعمال التحضيرية والإنشائية للمشروع بتكلفة إجمالية تقدر بنحو 28.75 مليون دولار، 85 في المائة منها قرض حكومي روسي ميسّر بفائدة 3 في المائة سنوياً يبدأ سداده عام 2029، والباقي تمويل ذاتي مصري.

«تشيرنوبل» جمد الحلم

الرغبة في امتلاك الطاقة النووية السلمية «حلم راود المصريين منذ منتصف القرن الماضي»، بحسب السيسي. حيث بدأت طموحات مصر النووية بعد فترة قصيرة من اكتشاف القدرة على توليد الطاقة السلمية من الانشطار النووي. ففي أعقاب مؤتمر جنيف الأول للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، أنشأت مصر هيئة الطاقة الذرية (AEA) عام 1955. وبعد ست سنوات افتتحت مركز البحوث النووية في أنشاص وشغّلت أول مفاعل بحثي (من طراز WWR-S ) بقدرة 2 ميغاواط، بالتعاون مع «الاتحاد السوفياتي» آنذاك، لإجراء الأبحاث والتدريب وإنتاج النظائر المشعة.

وفي عام 1964 أعلنت مصر عن خطط لبناء أول محطة لتوليد الكهرباء النووية، واختارت مبدئياً موقع «سيدي كرير» في الساحل الشمالي أيضاً، لكن الظروف الاقتصادية والسياسية في المنطقة أرجأت المشروع.

وبعد حرب 1973، عاد الحلم النووي يراود المصريين وتم وضع خطة لبناء محطات نووية بقدرة 10 آلاف ميغاواط بحلول عام 2000، وخصصت منطقة «الضبعة» بعد مفاضلة بين أماكن عدة على سواحل البحر الأحمر والبحر المتوسط.

وشهدت الفترة بين 1983 و1968 المناقصة الدولية الثانية للمشروع وتلقت فيها مصر عروضاً من شركات أميركية وألمانية وسويدية. وكانت القاهرة على وشك توقيع العقد لكن «كارثة مفاعل تشيرنوبل» (أوكرانيا التي كانت آنذاك جزءاً من الاتحاد السوفياتي) في أبريل (نيسان) 1986 جمّدت الحلم.

وبعد هدوء المخاوف من المفاعلات النووية السلمية، قررت مصر إحياء برنامجها النووي عام 1999، وفي عام 2007 تم تشكيل هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء (NPPA) كهيئة مستقلة تكون مسؤولة عن تنفيذ وإدارة المشروع النووي. وأعلن الرئيس الأسبق حسني مبارك عام 2008 عن إعادة تفعيل دراسات موقع الضبعة. لكن مرة أخرى تعطّل المشروع بفعل أحداث 2011، قبل أن يعيد السيسي إحياءه بالتوقيع على اتفاق مبدئي مع روسيا عام 2015.

عوائد اقتصادية

تدخل مصر النادي النووي بطموحات اقتصادية كبيرة، مستهدفة تعزيز أمن الطاقة وتحقيق التنمية، ويقول السيسي إن المشروع «سيعزز مكانة بلاده كمركز إقليمي للطاقة، ويحدث نقلة نوعية في مسار توطين المعرفة والاستثمار في الكوادر البشرية».

رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي يشهد مراسم توقيع أمر شراء الوقود النووي في نوفمبر الماضي (مجلس الوزراء المصري)

ويعد دخول مصر إلى ميدان التطوير الصناعي والتكنولوجي للطاقة النووية من العوائد المهمة للمشروع، بحسب دراسة نشرها نائب رئيس وحدة دراسات الاقتصاد والطاقة بـ«المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية»، أحمد بيومي، العام الماضي، حيث من المتوقع أن تكون نسبة تنفيذ نحو 20 في المائة من المشروع بالتعاون مع الشركات المحلية، ومن المستهدف أن تصل نسبة المكون المحلي من 20 إلى 25 في المائة عند تشغيل المفاعل الأول في 2028، تزيد إلى 35 في المائة عند تشغيل المفاعل الرابع في 2031، كما ستتولى شركة «روساتوم» الحكومية الروسية تدريب ما يقرب من ألفي شخص من موظفي التشغيل والصيانة للعمل في المحطة.

وفقاً لهيئة الاستعلامات المصرية الرسمية، فإنه «من المتوقع أن تبلغ القيمة المضافة للمشروع في الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة الإنشاء نحو 4 مليارات دولار سنوياً». وتوفر المحطة مصدراً ثابتاً للكهرباء يعمل على مدار الساعة، ما يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري ويضمن استقرار الشبكة.

ويأتي إنشاء محطة الضبعة النووية في إطار خطة مصرية لتنويع «سلة الطاقة»، بحسب أستاذ هندسة البترول والطاقة، الدكتور جمال القليوبي، الذي يوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «مصر تسعى لأن تكون لديها مصادر متعددة من الطاقة، لا تعتمد فقط على الشق الحراري واستخدام الوقود الأحفوري». وقال: «طوال 50 عاماً كان الوقود الأحفوري مصدراً لنحو 98 في المائة من الطاقة في مصر، لكن الأمر تغيّر منذ عام 2018 مع زيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة من الرياح والشمس والهيدروجين الأخضر»، مشيراً إلى أن «محطة الضبعة مع اكتمال تشغيل مفاعلاتها قد تسهم في نحو 16 إلى 18 في المائة من الكهرباء في مصر».

وتستهدف مصر، وفقاً للتصريحات الرسمية، الوصول بمساهمة الطاقة المتجددة ضمن مزيج الطاقة إلى نحو 42 في المائة من إجمالي الطاقة بحلول عام 2030.

لا تقتصر العوائد الاقتصادية على توفير الكهرباء وتوفير جزء من فاتورة استيراد مصر للوقود الأحفوري التي تجاوزت 12 مليار دولار العام الماضي، بحسب تصريحات لوزير البترول المصري السابق، طارق الملا.

ويشير القليوبي إلى أن فاتورة استيراد الوقود لتشغيل محطات الكهرباء تبلغ نحو 50 في المائة من القيمة الإجمالية لفاتورة استيراد الوقود. وقال: «محطة الضبعة ستوفر جزءاً كبيراً من فاتورة الاستيراد، كما أن عوائدها الاقتصادية تمتد إلى مناح أخرى تتعلق بتحلية مياه البحر وإنتاج النظائر المشعة المستخدمة في عدد من الصناعات الطبية والزراعية». وأضاف: «لدى مصر خطة واضحة. خطة تؤازر الدولة اقتصادياً وتتماشى مع أهداف الدول الصناعية، عبر تحسين ملف الصناعة واستخدام الطاقة النووية في كثير من المناحي الاقتصادية».

خيار استراتيجي

يسهم مشروع الضبعة في توفير العملة الصعبة، كما يوفر نحو 6 آلاف فرصة عمل في أثناء الإنشاء، وآلاف فرص العمل في أثناء فترة التشغيل التي تمتد لـ60 عاماً. كما تعد محطة الضبعة النووية مصدراً نظيفاً وخالياً تماماً من انبعاثات الكربون، ويدعم استراتيجية مصر للطاقة 2035، بحسب هيئة الاستعلامات المصرية.

دخول مجال الطاقة النووية هو «خيار استراتيجي»، بحسب دراسة نشرها رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة بـ«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، الدكتور أحمد قنديل، مشيراً إلى أن «الضبعة ليست مجرد محطة كهرباء»، إذ إنها تحقق أهدافاً عدة، من بينها؛ «بناء أمن طاقة مصري مستقل نسبياً عن تقلبات الأسواق العالمية للبترول والغاز الطبيعي، وتحرير جزء من الغاز المصري للتصدير أو الاستخدام الصناعي، خاصة في البتروكيماويات والأسمدة، ودعم الصناعات الثقيلة والتوجه نحو الهيدروجين الأخضر، وتوفير مصدر مستقر للكهرباء على مدى عقود».

يسهم المشروع أيضاً في تعزيز مكانة مصر الإقليمية، بحسب قنديل الذي قال: «مصر اليوم لاعب رئيسي في الغاز الطبيعي في منطقة شرق المتوسط، وقوة صاعدة في الطاقة المتجددة، وتعمل على مشروعات للربط الكهربائي مع ثلاث قارات، وحين تكتمل وحدات الضبعة، ستمتلك مصر برنامجاً نووياً سلمياً واسع النطاق، يمنحها وزناً إضافياً في معادلات الطاقة الإقليمية».

أما القليوبي فيشير إلى أن مشروع الضبعة يُدخل مصر إلى «نادي الدول الصناعية الكبرى التي تستخدم الطاقة النووية لأغراض سلمية».

أبعاد سياسية

وبينما ستسهم محطة الضبعة في تلبية احتياجات مصر من الطاقة على المدى الطويل، فإن هناك دوافع أخرى لإقدام البلاد على هذه الخطوة، من بينها «تعزيز المكانة السياسية للحكومة في الداخل وتوسيع علاقاتها الأجنبية إلى ما يتجاوز واشنطن»، بحسب مقال نشره إيريك تراجر في «معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» عام 2016.

أشار تراجر وقت ذاك إلى أن «المشروع يستهدف إعطاء أمل للمصريين وتعزيز الدعم الداخلي للحكومة، بعدّه مشروعاً قومياً»، كما أنه يأتي في إطار مساعي القاهرة لـ«توسيع نطاق التواصل الخارجي ليتجاوز علاقتها الثنائية بواشنطن، ما يُظهر مصر بصورة المنفتحة على العالم أجمع». وقال تراجر إن المشروع «يوطد علاقات مصر وروسيا».

وهو أمر أكده بالفعل الرئيسان المصري والروسي أخيراً، حيث قال السيسي إن المشروع «يعدّ برهاناً عملياً على أن شراكتنا لا تقتصر على التصريحات السياسية البراقة، بل تتجسد في مشروعات واقعية، تترجم إلى تنمية حقيقية، تعود بالنفع المباشر على شعبينا»، بينما أكد بوتين دعم بلاده «طموحات مصر التنموية في إطار الشراكة والتعاون الاستراتيجي الممتد بين البلدين». وقال: «هذه الشراكة مستمرة وتتجلى في ارتفاع حجم ومعدل التجارة بين البلدين، وتكثيف التعاون الصناعي، فضلاً عن مضي روسيا قدماً في إنشاء منطقة صناعية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس».

ويشير تراجر، في هذا الإطار، إلى أن المشروع يعزز نفوذ موسكو في القاهرة، ما قد يثير قلق الولايات المتحدة نظراً لاهتمام واشنطن بالاستقرار الاقتصادي في مصر وبآفاق سياستها الخارجية.

وفي هذا الإطار، يرى مستشار «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، الدكتور عمرو الشوبكي، أن «مصر حريصة ومنفتحة على قوى وأقطاب أخرى دون المساس بالعلاقة الاستراتيجية مع واشنطن»، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن «القاهرة لديها علاقات تجارية واقتصادية وسياسية مع روسيا والصين».

وبالفعل أكد عضو «المجلس المصري للشؤون الخارجية»، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير رخا أحمد حسن، أن «هذا المشروع يربط مصر وروسيا بعلاقات في قطاع مهم للغاية ولسنوات طويلة مقبلة». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «المشروع يحقق أهدافاً اقتصادية وسياسية عدة تتراوح ما بين توفير الكهرباء وتنمية الكوادر الوطنية إلى تعزيز المكانة الإقليمية والدولية».

وهنا يلفت الشوبكي إلى أن «حرص مصر على امتلاك الطاقة النووية السلمية - إضافة إلى أهميتها الاقتصادية - نابع من رغبتها في تأكيد حضورها في الملفات الكبرى». وقال: «الدول التي تمتلك وتستخدم الطاقة النووية السلمية لديها مكانة وتأثير وحضور دولي».

وتؤكد مصر حقها في امتلاك الطاقة النووية بموجب «معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية» التي وقّعت عليها عام 1968 وصدّقت عليها عام 1981. وتعوّل القاهرة على القيمة الاستراتيجية لمشروع الضبعة، ووفق السيسي فإن «المشروع سيضع مصر في موقع ريادي، على خريطة الاستخدام السلمي للطاقة النووية».

«المحطة النووية»... عشر سنوات على طريق التنفيذ

طوال أكثر من نصف قرن سعت مصر إلى امتلاك محطة لاستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، لكن الأحداث السياسية والظروف الاقتصادية وكارثة مفاعل تشرنوبل عام 1986 وقفت في طريق «الحلم النووي» المصري لعقود، حتى أعيد إحياء المشروع بخطوات عملية لإنشاء محطة الضبعة النووية. وفيما يلي أبرز المحطات:

- 1955 أنشأت مصر هيئة الطاقة الذرية (AEA).

-1961 افتتاح مركز البحوث النووية في أنشاص وتشغيل أول مفاعل بحثي.

- 1964 اختيار موقع سيدي كرير على ساحل البحر المتوسط لبناء أول محطة لتوليد الكهرباء النووية، (لم ينفذ).

- 1983 مناقصة دولية لإنشاء المحطة.

- 1986 كارثة تشيرنوبل... توقف المشروع.

- 2007 تشكيل هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء (NPPA).

- 2008 استئناف البرنامج النووي السلمي، وإعادة تفعيل دراسات موقع الضبعة.

- 2015 توقيع الاتفاق المبدئي مع روسيا (روساتوم).

- 2017 توقيع العقود النهائية للمشروع.

- 2018 بدء إعداد البنية التحتية للموقع وإنشاء الرصيف البحري التخصصي لاستقبال المعدات الثقيلة.

- 2022 أصدرت هيئة الرقابة النووية والإشعاعية (ENRRA) إذن إنشاء الوحدة النووية الأولى.

- 2024 تركيب مصيدة قلب المفاعل.

- 2025 تركيب وعاء ضغط المفاعل للوحدة النووية الأولى.


روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا
TT

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

روب يتن... هزم اليمين المتطرف ويستعد ليصبح أصغر رئيس حكومة لهولندا

تطلب الأمر شاباً مفعماً بالحياة ومليئاً بالأمل لهزيمة اليمين المتطرف في هولندا. فقد نجح روب يتن، السياسي الشاب الذي لم يدخل بعد عقده الأربعين، بإعادة حزب «الديمقراطيين 66» الليبرالي الوسطي الذي تأسس عام 1966، إلى واجهة الحياة السياسية في هولندا وقاده إلى تحقيق أفضل نتائج له منذ تأسيسه. ورغم أن الحزب لم يفز فعلياً بالانتخابات التي جرت نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بل تعادل مع حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة خيرت فيلدرز، فإن النتائج تعدّ فوزاً للديمقراطيين وخسارة لأقصى اليمين؛ وبتحقيق كلا الحزبين 26 مقعداً من أصل 150 داخل البرلمان، يكون الديمقراطيون قد ضاعفوا مقاعدهم بـ3 مرات تقريباً من 9 مقاعد في الانتخابات التي سبقت إلى 26 مقعداً، فيما خسر حزب الحرية 11 مقعداً وانخفض تمثيله من 37 نائباً إلى 26 نائباً. ورغم أنه ما زال غير واضح ما هي الأحزاب التي قد تشارك في الائتلاف الحاكم، فمن المؤكد أن حزب الحرية سيكون خارج الحكم. إذ تعهدت الأحزاب الأخرى بعدم العمل مع خيرت فيلدرز من جديد بعد تجربة الحكم الأخيرة التي لم تدم أكثر من 11 شهراً.

أثبت روب يتن (38 عاماً) أن هزيمة أحزاب أقصى اليمين ممكنة، ليعطي فوز حزبه في الانتخابات العامة في هولندا، أملاً للكثير من الأحزاب الأوروبية الوسطية التي تكافح هي نفسها للبقاء أمام مد اليمين المتطرف الذي يلف القارة العجوز. يتن نفسه هلل فور صدور النتائج بأن هولندا «أغلقت فصل خيرت فيلدرز»، متعهداً بالعمل على تشكيل «ائتلاف متين يقود هولندا إلى الأمام». وأضاف أن فوز حزبه أثبت أن «الأحزاب الوسطية أظهرت أنه من الممكن هزيمة الأحزاب الشعبوية وأقصى اليمين». وقاد يتن حملة انتخابية شعارها «التغيير والإيجابية» مستعيناً بشعار باراك أوباما «يمكننا التغيير»، في إشارة إلى استبدال حزب معتدل باليمين المتطرف. ولاقت إيجابيته صدى لدى الناخبين الهولنديين الذين يبدو أنهم تعبوا من السلبية التي طبعت الحياة السياسية منذ الانتخابات التي سبقت أن أوصلت حزب الحرية إلى الطليعة ولكن من دون فوز كاسح، ما يعني أن فيلدرز لم يكن قادراً على الحكم بمفرده، وعجز عن إقناع الأحزاب الأخرى التي شكلت معه الحكومة مشترطة ألا يترأسها هو شخصياً، باعتماد سياسته المتطرفة حول الهجرة، وهو ما تسبب في النهاية بانهيار الحكومة. ونقلت وسائل إعلام هولندية إحصاءات تشير إلى التأييد الواسع لتولي يتن رئاسة الحكومة بين مؤيدي الأحزاب اليمينية. ونقلت شبكة أخبار «آر تي إل» الهولندية عن أحد الناخبين قوله إنه «لا يوافق دائماً على سياسات الديمقراطيين ولكن روب يتن رجل (عادي) يمكنه أن يؤدي وظيفة تمثيل البلاد بشكل جيد». وقال عن فيلدرز إنه لو تولى رئاسة الحكومة فإن الأمور «لن تنجح معه وإنه سيريد على الأرجح أن يمرر سياسته، وفي حال لم ينجح بذلك فسينسحب مرة جديدة».

اغتيال مخرج... وإحراق مدرسة إسلامية

ويأتي فوز يتن على اليمين المتطرف وصعوده السريع وهو ما زال في عقده الثلاثين، متناغمين مع دخوله عالم السياسة في سن فتيّة أيضاً وهو في الـ17 من العمر. بداية قصته في السياسة كانت مرتبطة أيضاً باليمين المتطرف؛ ففي عام 2004 شكل اغتيال المخرج السينمائي تيو فان غوخ على يد متطرف هولندي من أصل مغربي، لحظة مفصلية تسببت بتداعيات دفعت بيتن إلى دخول عالم السياسة. وكان إحراق مجموعة من الشبان المنتمين إلى اليمين المتطرف لمدرسة ابتدائية تعلّم الدين الإسلامي في بلدته في أودن، سبب توجهه إلى النضال ضد اليمين المتطرف. وقال مؤخراً عن بداياته إن الشبان الذين أحرقوا المدرسة كانوا من رفاقه في فريق كرة القدم وكان يعرفهم جيداً، ولكنه أراد أن يُظهر صورة مختلفة للعالم وأن بلدته ليست مجرد مكان مليء بشبان «لا يعرفون ماذا يفعلون».وبقي كفاح يتن ضد اليمين المتطرف أساسياً خلال مسيرته السياسية. وحتى في الحملة الانتخابية التي قادها، اعتمد يتن استراتيجيات تستهدف اليمين المتطرف، مثل جعله العلم الهولندي محورياً خلال الحملة، وقوله إنه يريد «استعادته» من اليمين المتطرف الذي غالباً ما يستخدم العلم. ولم يتردد كذلك بجعل مسألة الهجرة التي أوصلت فيلدرز للفوز في الانتخابات التي سبقت، محورية خلال حملته. ورغم ليبراليته، وارتباطه بلاعب هوكي محترف أرجنتيني سيعقد قرانه عليه العام المقبل، فقد أكد للناخبين أنه سيعتمد سياسة هجرة متشددة تجاه المرفوضة طلباتهم وسيعتمد حداً أقصى لأعداد المهاجرين. ويبدو أن تعهداته هذه لاقت تجاوباً من الناخبين، إذ أكد لاحقاً متحدث باسم حزبه أن 7 في المائة من ناخبي حزب الحرية صوتوا هذه المرة للديمقراطيين.

وحتى قبل الانتخابات وبدء الحملات الانتخابية، كان يتن يدعو لاعتماد سياسة هجرة جديدة في هولندا والخروج من عباءة الاتحاد الأوروبي. وروّج لاعتماد نظام مبني على النظام الكندي ينقل البحث والبت بطلبات اللجوء إلى خارج دول الاتحاد الأوروبي ورفض استقبال من يصلون خارج هذا النظام إلى هولندا.

تشديد قوانين الهجرة

ودعا كذلك إلى مراجعة المعاهدات الدولية الخاصة باللاجئين «لكي تعكس الواقع الجديد» في خلاف للسياسة التي كان يعتمدها الديمقراطيون. ونقلت عنه وسائل إعلام هولندية قوله إن «قانون الهجرة المعتمد حالياً لم يعد صالحاً، علينا أن ننتقل من هجرة تتحكم بنا، إلى هجرة نحن نتحكم بها، ليس فقط بسبب مواطنين هولنديين قلقين من الأعداد الوافدة ولكن أيضاً للأشخاص الذين يهربون من العنف والملاحقة». وبحسب خطة يتن، فإن هولندا لن تقبل إدخال لاجئين إلا أولئك الذين يتقدمون للحصول على لجوء من خارج الاتحاد الأوروبي ويتم قبولهم. ويعدّ أن نظاماً كهذا سيساعد على وقف طرق التهريب الخطيرة وينقذ أرواحاً.وحالياً، يتم إدخال بعض اللاجئين إلى أوروبا عبر نظام شبيه تعتمده الأمم المتحدة لتوزيع اللاجئين ولكن أعداد هؤلاء قليلة جداً مقارنة بالذين يدخلون بشكل غير قانوني ويتقدمون بطلبات لجوء. ويريد يتن توسيع هذا النظام بشكل كبير لكي يصبح الطريقة الأساسية لاستقبال اللاجئين في هولندا. ولكنه يعي أن هذه الخطط تستغرق وقتاً طويلاً. وحتى ذلك الحين، وفي المرحلة القصيرة المدى يطالب بقوانين أشد لطالبي اللجوء الذين يعدّون عبئاً، خاصة أولئك القادمين من دول مصنفة «آمنة» أي لا خوف من ملاحقات بحق القادمين منها الذين لا يتمتعون أصلاً بحظوظ كبيرة في الحصول على لجوء. ومن أقواله عن هؤلاء إن «الذين يأتون ويتسببون بمشاكل ولا يتوجب عليهم أن يكونوا هنا، يجب أن يتم إرسالهم إلى ملاجئ مغلقة، ويفهموا أنهم يدخلون بلداً بقيم ليبرالية، وإذا كانوا لا يحترمونها فسيخسرون بعض الحقوق».

في المقابل يروّج يتن لاندماج أفضل لطالبي اللجوء الناجحين ويدعو إلى إدخالهم في صفوف تعلّم اللغة «منذ اليوم الأول» ومساعدتهم في العثور على وظيفة «بأسرع وقت ممكن». وقبل الانتخابات ومنذ ترأسه حزبه عام 2023، حذّر بأن إبقاء الأشخاص على نظام الإعانات من دون دمجهم في المجتمع وسوق العمل «مؤذ لهم وللمجتمع بشكل عام، ويغذي الإحباط لدى الهولنديين». ويعدّ يتن أن على الأحزاب الوسطية أن «تقود الخطاب السياسي عوضاً عن أن تترك ذلك للأحزاب اليمينية المتطرفة».

حل أزمة السكن... بناء جزيرة جديدة

سياسة الهجرة هذه التي يروج لها يتن منذ ترأسه حزبه، قد تكون أكسبته أصواتاً من اليمين واليمين المتطرف، ولكن الأصوات الأخرى التي نجح بإضافتها لحزبه جذبها من خلال خطاب أوسع يتناول مخاوف الناخبين بشكل مباشر من قضايا تتعلق بالسكن التي كانت أيضاً من القضايا الأساسية في الانتخابات الهولندية. فهولندا، مثل الكثير من الدول الأوروبية، تعاني من نقص 400 ألف وحدة سكنية ما يؤدي إلى رفع دائم في أسعار العقارات والسكن ما يزيد من العبء على السكان. ورغم أن كل الأحزاب التي خاضت الانتخابات جعلت من مسألة البناء أساسية في معركتها، فإن طروحات الديمقراطيين كانت الأكثر ثورية. وفيما كانت الأحزاب الأخرى تقترح إغلاق مطارات للبناء على أراضيها، أو توسيع مجمعات موجودة أصلاً، اقترح يتن بناء جزيرة جديدة على أرض مغطاة حالياً بالمياه، في بلد ربعه يقبع تحت مستوى البحر. وتعهد ببناء مدن جديدة تضم 60 ألف وحدة سكنية مع مساحات خضراء ومياه وأماكن ترفيه.

ما إذا كان سينجح بتحقيق أي من طروحاته تلك، إن كانت المتعلقة بالهجرة أو تلك المتعلقة بالسكن، غير واضح ومرتبط بالائتلاف الذي سينجح بتشكيله في النهاية والخطط التي يتفق عليها مع الأحزاب الأخرى. ولكن على الأقل هي خطط طموحة لاقت صدى لدى الناخبين وأوصلت من قد يصبح أصغر رئيس حكومة في هولندا إلى رأس السلطة. والواقع أن صعوده السريع وهو في سن يافعة، دفع البعض للتشكيك بقدراته أحياناً.

أما سياسته الأخرى، فهي مناقضة تقريباً لسياسات فيلدرز واليمين المتطرف في هولندا المشكك في الاتحاد الأوروبي وفي التأييد الأوروبي لأوكرانيا ومعاداة روسيا. ويعدّ يتن مؤيداً للاتحاد الأوروبي ولدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا. وعندما كان وزيراً للطاقة في حكومة مارك روته التي سبقت حكومة فيلدرز، دفع يتن بسياسة طاقة لا تعتمد على الغاز الروسي. وقد خدم في حكومة روته الرابعة وزيراً للمناخ والطاقة بين عامي 2022 و2024. ودخل يتن البرلمان الهولندي للمرة الأولى عام 2017 وكان متحدثاً باسم كتلته عن المناخ والطاقة. وفي عام 2018 انتخب زعيماً للكتلة النيابية للديمقراطيين ليصبح أصغر زعيم للكتلة في تاريخ الحزب. وفي عام 2020 انتخب حزبه الدبلوماسية المخضرمة سيغريد كاخ لزعامته في معركة لم يترشح فيها يتن. ولكنه لم ينتظر كثيراً، إذ وجد فرصة سانحة بعد استقالة كاخ في صيف عام 2023 وانتخب لزعامة الحزب.

اقرأ أيضاً


هولندا... حكومات ائتلافية منذ الحرب العالمية الثانية

Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
TT

هولندا... حكومات ائتلافية منذ الحرب العالمية الثانية

Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY
Dutch Prime Minister Mark Rutte leaves the Parliament building, amid the coronavirus disease (COVID-19) lockdown, in The Hague, Netherlands January 15, 2021. REUTERS/Piroschka van de Wouw REFILE - CORRECTING CITY

> منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحكم هولندا حكومات ائتلافية مكونة من حزبين أو أكثر في أحيان كثيرة، بسبب القانون الانتخابي المعتمد الذي يجعل من المستحيل على حزب واحد أن يفوز بالأغلبية. وطغى مارك روته وحزبه حزب «الشعب للحرية والديمقراطية» المحافظ الليبرالي، على الحياة السياسية في السنوات الـ14 الأخيرة تقريباً. فهو ترأس 4 حكومات متتالية بين العامين 2010 و2024، ضم معظمها أكثر من حزبين، حتى استقالته عام 2023 وانتقاله ليصبح أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو). وحظيت حكومته الأولى التي كانت حكومة أقلية وشكَّلها مع حزب «نداء الديمقراطية المسيحي»، بدعم من حزب «الحرية» اليميني المتطرف من دون أن يشارك الأخير في الحكومة.

ولكن الحكومة لم تدم أكثر من عامين بعد خلافات مع خيرت فيلدرز الذي سحب دعمه لها، مما أدى إلى سقوطها. وشكَّل روته حكومته الثانية التي ضمت 4 أحزاب بينها حزب «العمال»، مما سمح لها بأن تحكم طوال فترة ولايتها لخمس سنوات، وكانت الأكثر استقراراً في تاريخ هولندا الحديث. وشكَّل روته حكومته الرابعة عام 2017 لتحكم لمدة 3 سنوات، وضمت 4 أحزاب ولكنها سقطت مبكراً بعد تداعيات أزمة كورونا. وكانت الحكومة الأخيرة التي شكَّلها روته من 4 أحزاب عام 2022، الأقصر عمراً، واستغرق تشكيلها وقتاً قياسياً وصل إلى 299 يوماً، ولكنها انهارت سريعاً بعد خلافات حول الهجرة، ولم تحكم فعلياً أكثر من عام ونصف، ولكنها بقيت حكومة تصريف أعمال لنصف عام إضافي.

وفي عام 2024، حقق حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة فيلدرز فوزاً تاريخياً، ولكن فيلدرز نفسه لم يصبح رئيس حكومة بسبب اشتراط الأحزاب الأخرى التي وافقت على دخول الائتلاف الحكومي معه، على تعيين شخصية أخرى. وتوافقت الأحزاب في النهاية على ديك شوف لرئاسة الحكومة التي ضمت 4 أحزاب من بينها حزب «الحرية» الذي خاض تجربته الأولى في الحكم، ولكنه سرعان من انسحب من الحكومة في صيف العام الجاري بعد خلافات مع الأحزاب الأخرى حول سياسات هجرة متشددة ومخالفة للقانون أراد تطبيقها.