يجمع الكاتب الألباني إليت أليشكا (مواليد 1951)، بين الأدب والدبلوماسية في ثنائية لافتة حقق في كليهما إنجازات لافتة. فدبلوماسياً وصل إلى منصب سفير لبلاده لدى فرنسا، وأدبياً حصد كثيراً من الجوائز في القصة القصيرة والرواية والسينما. أثارت روايته الأخيرة «الدوليون» التي صدرت ترجمتها العربية عن دار «العربي» بالقاهرة، بعنوان «الدبلوماسي» جدلاً واسعاً؛ كونها تتناول الوجه الآخر المسكوت عنه للمنظمات الدولية الغربية التي تعمل في بلاده.
واتسعت دائرة الجدل حين بدا أن المؤلف يستفيد من تجربته المباشرة في العمل الدبلوماسي، الأمر الذي كاد يضعه في دائرة الاتهام بـ«إفشاء أسرار المهنة». ومع ذلك تمت ترجمة العمل إلى لغات عدة، منها: الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والصينية.
أسهم أليشكا بحظ وافر في مجال كتابة السيناريو؛ حيث قُدِّم كثير من الأعمال المأخوذة عن مؤلفاته، مثل «شعارات» وهو فيلم فرنسي- ألباني حاز جائزتين في كل من مهرجانَي «كان» و«طوكيو» السينمائيين.
هنا حوار معه، حول هذه الرحلة بضفتيها الأدبية والدبلوماسية، وروايته التي أثارت كل هذا الجدل.
> إلى أي مدى يمكن اعتبار رواية «الدبلوماسي» نوعاً من السيرة الذاتية؟
- أغلب الرواية كذلك في الواقع، فهي إلى حد بعيد «سيرة ذاتية عاطفية» إن جاز القول. وصحيح أن حياة المؤلف تنعكس غالباً بدرجة ما، بشكل أو بآخر، على العمل الذي يكتبه أياً كان موضوعه، إلا أن تلك الرواية تتقاطع مع سيرتي الذاتية بشكل كبير، واستفدت فيها من خبرتي المهنية والإنسانية.
> بينما يتسم العمل الدبلوماسي بالتحفظات والمجاملات وقواعد البروتوكول، تبدو الرواية منغمسة في كشف الأسرار. كيف ترى هذا التناقض؟
- هذا التناقض ذاته له جذوره في الواقع الألباني نفسه، ويلخص -على وجه الخصوص- واقع البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية، والتي ثبت أنها أكثر تعقيداً وتجزئة من مبادئ المنظمات الدولية نفسها. في كثير من الحالات تظل المبادئ المحظورة، أو القواعد العالمية التي تحكم أسس هذه المنظمات نفسها، غير واقعية وغير مناسبة عند مواجهة مواقف محددة في الواقع المعقد. حتى في حالات قليلة، يتم تفسيرها وفقاً للأذواق والمشاعر الفردية للممثلين الدوليين.
في بلد مثل ألبانيا، الذي خرج من فترة طويلة وقاسية من العزلة في ظل الديكتاتورية، استوعب الناس نوعاً من عقدة النقص الممزوجة بحس الضيافة التقليدي. في كثير من الأحيان، كان مثل هذا السلوك ولا يزال يساء فهمه من قبل الأجانب الذين يزورون ألبانيا، ما أدى إلى شعور هؤلاء الأجانب بنوع من التفوق الزائف على المواطن المحلي. بعد خبرة طويلة في العمل مع الأجانب، بوعي أو بغير وعي، كان دافعي في هذه الرواية هو إزالة الغموض عن هذا الإحساس الظاهر بالتفوق، وإظهار صورة حقيقية للأشخاص العاديين، مع رذائلهم وقيمهم أيضاً، مع التأكيد على فكرة أننا جميعاً متساوون في هذا العالم.
بالنسبة لبلد صغير ليس له وزن كبير على المسرح الدولي، سيكون هناك دائماً وقت ومساحة للمناقشات المتعلقة بعلاقة ألبانيا بالأجانب. إضافة إلى ذلك، فإننا نواجه معضلات تتعلق بالمصلحة الدولية في ألبانيا التي كانت ولا تزال تنظر إلينا باعتبارنا حالة طارئة.
> هل كان من الممكن أن تنشر مثل هذا العمل عندما كنت سفيراً لبلدك في باريس؟
- في الواقع، لقد نشرتُ الرواية قبل أن أصبح سفيراً. ومع ذلك، يجب أن أعترف بأنه بعد نشر الرواية، كان هناك كثير من المناقشات الرسمية والعامة المتناقضة حول حرية التعبير وأخلاقيات الموظفين العموميين، ودور الأدب، وما إلى ذلك. ربما كان هذا هو السبب وراء ترجمة الرواية ونشرها بعدة لغات أخرى، مثل: الفرنسية، والإيطالية، والنرويجية، والفارسية، والصينية، والإنجليزية. على المستوى الشخصي، عندما كنت في منصب سفير، كنت خائفاً من أن أصبح أنا نفسي موضوعاً أو شخصية لأي من روايات كاتب آخر.
> تكشف الرواية عن الجانب الذي لا يتحدث عنه أحد في عالم المنظمات الدولية، وتركز على اختلاط الباطل والادعاءات بما تدعي هذه المنظمات تقديمه لدول العالم الثالث. إلى أي مدى تعكس هذه الرؤية الأدبية حقيقة موجودة بالفعل على الأرض؟
- إنها مشتقة من الواقع نفسه. ثم إن هناك كثيراً من الموظفين والمسؤولين الدوليين الذين غالباً ما يكونون مجهولي الهوية في بلدانهم، والذين عند قدومهم إلى ألبانيا، في أثناء العمل لمساعدة هذا البلد أو لإظهار طريق التقدم للسكان المحليين، تأخذ حياتهم معنى جديداً، وذلك بفضل الاهتمام والضيافة من السكان الأصليين للبلد المضيف. في الوقت نفسه، على المستوى الاقتصادي، فإن الخدمة في مثل هذه البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية تتزامن مع بعض الامتيازات المالية غير الموجودة في أي مكان آخر. بينما على المستوى الروحي، يسير هذا الاتجاه لصالح العقلية النرجسية للأجانب الذين يوصفون عادة بأنهم «شجعان وأبطال» يعملون ويخاطرون بحياتهم في هذا البلد المفقود.
> يلاحظ أن نبرة السخرية تبدو عالية في النص، بحيث يمكن تصنيفها على أنها نوع من «الكوميديا السوداء». فهل تعمدت ذلك؟
- هذا هو أسلوبي في الكتابة عموماً، وربما تأثرت بالكتاب العظماء، مثل خوسيه ساراماغو وهاينريش بويل. بمعنى آخر: إنها طريقتي في رؤية كيف يواجه الإنسان الحياة، كما أنني أفضل هذا الأسلوب في التعبير عن المصائر السيئة للبشر، بشكل أقل دراماتيكية أو مأساوية.
> إذن، كيف جمعت بين مهنة السفير التي تتطلب قدراً كبيراً من الانضباط والرصانة، ومهنة التأليف الإبداعي التي تتطلب قدراً كبيراً من التمرد وإطلاق طاقة الخيال؟
- مرة أخرى، يمكن أن يكون الأمر نتيجة للواقع الألباني نفسه أو انعكاساً له. إن التمرد يختلف عن الشجاعة، وهو شيء ينبع من الانطباع بأن الحساسية الدولية تجاه بلدنا تميل إلى نوع من الإجلال الشكلي؛ لكن غالباً ما يقلل من شأنها الخطب البالية. هناك كثير من التحيزات، حتى الدينية منها والكليشيهات والصور النمطية للأجانب، وغالباً ما يؤدي ذلك إلى توليد مواقف سلبية تجاه الألبان وألبانيا. أعتقد بأننا ما زلنا مجهولين كثيراً بالنسبة للمواطنين الغربيين العاديين. هناك تناقض بين هويتنا الحقيقية والمعقدة (على الأقل مثل كل أمة) وكيف أنها تبدو مثيرة أو غريبة في نظر المؤسسات الدولية، التي غالباً ما توفر مساحة للآراء المشوهة. كان الألبان يملكون صورة نمطية مفرطة في المثالية والتفاؤل في نظرتهم للغرب، ثم سرعان ما جاءت مشاعر خيبات الأمل بعد المعايشة المباشرة. لقد عشنا طويلاً نملك الصورة الوهمية للحرية والصورة المشوهة للواقع الغربي، ثم جاءت الصدمة مؤخراً.
> هل هذه التناقضات أو التباينات في مرايا الصورة التي عشتها، كانت حافزاً للجمع بين العمل الدبلوماسي والنشاط الأدبي؟
- نعم، في واقع الأمر، فإن صورة الدولة نفسها تقوم على الثقافة والسياسة. كما أنه من المقبول عموماً أن الدبلوماسية ليست فقط حماية وتعزيز المصالح الاستراتيجية أو التجارية، ولكنها أيضاً ناقلة للتمثيل الذاتي ونظام القيم الذي يقوم عليه المجتمع. هذا المزيج من النشاط الدبلوماسي والأدبي يدعم مكونات متعددة الأوجه، منها التاريخية والاجتماعية والثقافية، وحتى «الأنساب». من هنا يمكن النظر في التآزر بين الثقافة السياسية والرؤية الإبداعية على أساس كل حالة على حدة. إذا أشرنا إلى أمثلة من التاريخ، فهذا موضوع له أثر رجعي ومستقبلي على حد سواء؛ لأن تصنيف الكاتب الدبلوماسي نفسه واسع، لذلك لا توجد صورة فريدة. أعتقد بأن ظاهرة الكاتب الدبلوماسي تساعد على فهم السياق الآيديولوجي بشكل أفضل، والجمع بين تاريخ الأدب وتاريخ العلاقات الدولية.
> في هذه الرحلة، بمن تأثرت من الأدباء العالميين؟
- على سبيل المثال لا الحصر، هؤلاء مجموعة من المؤلفين الحاصلين على جائزة «نوبل» الذين تأثرت بهم: سانت جون بيرس، رومان غاري، بول موراند، بول كلوديل، مالابرت، سيفريس، إيفو أندريتش، بابلو نيرودا، ميغيل أنجيل أستورياس، تشيسلاف ميلوش، كارلوس فوينتيس، روبرتو إتشيفريا، غابرييلا ميسترال، أوكتافيو باز.
> لديك تجارب مهمة في السيناريو، ما الفرق بين الكتابة الأدبية والكتابة للسينما؟
- كلاهما له الهدف نفسه: أي اكتشاف بلاء الإنسان وتحدياته الوجودية والمجتمع البشري نفسه. يستخدم الأدب الكلمات، بينما تستخدم السينما الموسيقى والكلمات والأصوات، وقبل كل شيء الصورة. كلاهما يساهم بقوة في المجتمع. إلى جانب أدوات أخرى، يعتبر الاثنان أكثر ناقلات أو أدوات المعرفة امتيازاً ومصدراً للمعلومات الحقيقية للمجتمع. أما عندما ينتقدان، أو عندما يقومان بإضفاء الطابع الرومانسي على الواقع، كما في حالتي، يكون ذلك من خلال رسم الأبعاد الحقيقية لألبانيا المعاصرة والمجتمع الألباني.
> ماذا تمثل لك الجوائز وقد فزت بكثير منها في الأدب والسينما؟
- بالنسبة لأي كاتب، من الأفضل الحصول على جوائز، فعدم الحصول عليها يثير دائماً مشاعر الإحباط.
> أخيراً، ماذا تعني لك ترجمة رواية «الدبلوماسي» إلى العربية؟ وكيف ترى استقبال القارئ العربي لها؟
- مع خالص التقدير، كان من دواعي سروري أن تترجم روايتي إلى تلك اللغة العظيمة، والثقافة العظيمة؛ لا سيما في بلد مثل مصر؛ حيث ترتبط به ألبانيا بكثير من الروابط التاريخية. وقد ساهم في ذلك بعض المصادفات والظروف السعيدة التي بفضلها جعلتني ألتقي مدير دار «العربي» شريف بكر، في أحد المعارض الدولية للكتاب.