تنبثق الاستراتيجيات الكبرى للدول عادة من مسلّماتها الجيوسياسيّة، التي بدورها تتشكّل نتيجة تأثير العامل الجغرافي، وذلك خلال التفاعل مع المحيط المباشر، المحيط الإقليمي أو حتى العالميّ.
يلعب القرب الجغرافي بين القوى العظمى دورا مهمّا في تشكيل الاستراتيجيات الكبرى ورسمها. وكّلما كان هناك تماس جغرافي مباشر بين هذه القوى، كان احتمال التوتّر والحرب مرتفعاً. فعلى سبيل المثال، لعب القرب الجغرافي لألمانيا مع كلّ من روسيا وفرنسا دوراً أساسياً في وضع الاستراتيجيّات الكبرى، وحتى إلى وقوع الحربين العالميتيّن.
تشكّل الهاجس الألماني الاستراتيجي الأكبر، في كيفيّة القتال على جبهتين وتحقيق النصر، مع كلّ من روسيا وفرنسا. وبسبب عدم القدرة على تأمين الوسائل لحربين على جبهتين في الوقت نفسه، كانت كلّ المخططات الألمانيّة تعتمد على المقاربة التاليّة: تثبيت جبهة، والقتال على الجبهة الأخرى. هكذا كانت روحية مخطّط شليفن الألماني في الحرب العالميّة الأولى.
- اليابان والصين قديماً!
لا يخدم التاريخ أبداً العلاقة بين هذين الجبارين المتجاورين. فالصين كانت مسرحاً للعمليات اليابانيّة في بدايات الحرب الثانية. لكن الصين أيضاً حاولت احتلال اليابان مع الإمبراطور كوبلاي خان المغولي، عندما أرادت عبور المضيق الكوري (220 كيلومتراً) لغزوها في القرن الثالث عشر، لكنّ محاولتها باءت بالفشل بعدما تسببت الرياح المقدّسة (كاميكاز) في إغراق أسطوله.
- التسريع (Fast - forward) إلى اليوم!
الصين ثاني اقتصاد في العالم. تملك أكبر أسطول بحري عسكريّ. تتبوأ مركز الصدارة في عدد السكان. لديها استراتيجيّة كبرى واضحة تقوم على ما يلي: أن تكون قبلة العالم وفي كلّ الأبعاد. من هنا مشروع الرئيس تشي جينبينغ: الحزام والطريق. تسعى الصين لتكون لاعباً أساسياً في النظام العالمي المُتخيَّل، ومع نموذج يقوم على الاشتراكيّة لكن بخصائص صينيّة. وإذا كان يحقّ لأميركا أن تخلق منطقة نفوذ في المحيط المباشر، كما فعل الرئيس الأميركي جيمس مونرو في العام 1823، فلماذا لا يحق للصين بمنطقة نفوذ في محيطها المباشر؟
تسعى الصين أيضاً إلى زيادة ترسانتها النوويّة من 300 رأس إلى 1500.
- إدخال (Enter) اليابان إلى المعادلة!
ما تريده الصين من مسلمات جيوسياسيّة وتسعى إلى تحقيقه في استراتيجيّتها الكبرى، سيكون حتماً على حساب المسلمات الجيوسياسيّة اليابانيّة. ويعود هذا الأمر إلى القرب الجغرافي بين البلدين كعامل أساسيّ. تطالب الصين بملكيّة جنوب بحر الصين (Nine Dashes). لكنَّ هذا البحر يدخل في أهمّ المسلمات اليابانيّة. فهو الممرّ الأساسي للتصدير والاستيراد لليابان حتى إشعار آخر، أو حتّى توفّر بديل. تريد الصين استرداد جزيرة تايوان. لكن اليابان ترى أن أمنها من أمن الجزيرة.
ترى الصين أن جزر السنكاكو (Senkaku) مِلكٌ للصين. لكنّ اليابان تعدها يابانيّة.
تتراكم المشكلات على الأمن القومي لليابان على الشكل التالي:
- هناك الخطر الصيني، كما الخطر من كوريا الشمالية، خصوصا السلاح النوويّ.
- تحتلّ روسيا منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية أرضاً يابانيّة (Kuril Islands) ولا حل قريباً في الأفق خصوصاً مع الرئيس فلاديمير بوتين. وبعد الحرب الأوكرانيّة، شكّل التقارب الروسي - الصيني تهديداً مباشراً للأمن القومي اليابانيّ. تَجسّد هذا التقارب عبر لقاءات بين البلدين على مستوى رئاسي، كما في إجراء مناورات عسكرية مشتركة بين البلدين وفي محيط اليابان.
- ما خيارات اليابان؟
الأول، أن تقبل بالأمر الواقع لتصبح ضمن منطقة نفوذ الصين، وإذا ما استردّت الصين تايوان، فإن الباب الأساسي للمحيط الهادي سيكون مفتوحاً على مصراعيه، كما سيؤدّي إلى سقوط خط الجزر الأول والممتد من اليابان شمالاً حتى إندونيسيا جنوباً. إذا قبلت اليابان بالأمر الواقع، فهي اللاعب الجونيور (الصغير) إلى جانب الصين وليست اللاعب الأساسيّ. وذلك على غرار كندا والمكسيك في محيط العملاق الأميركيّ.
الثاني، أن تفعّل كل التحالفات مع أميركا وتستغلّ الموقف الأميركي من الصين. في هذا الخيار، تكون اليابان مركز ثقل التحالفات الأميركيّة في الشرق الأقصى، وحولها ستدور الدول الصغيرة التي تعارض الاستراتيجيّة الصينيّة. وفي هذا الخيار، سيتمّ الربط المباشر بينها وبين تايوان. في هذا الخيار، تكون أميركا الراعي الأكبر، مع التكليف لدول المنطقة كلّ فيما خصه، وذلك على غرار ما قد يحدث في أوروبا مع حلف الناتو.
الثالث، وهو الذي بدأته اليابان عبر زيادة موازنة الدفاع، وعبر شراء صواريخ توماهوك (2400 كيلومتر) من أميركا، وعبر تفعيل قطاع الأمن السيبرانيّ، وغيرها من الأمور التي قد تأتي لاحقاً، تحديداً فيما خص السلاح النوويّ. إذ تعد اليابان دولة مُصنّفة على العتبة النوويّة، أي لديها القاعدة العلميّة والإمكانيّات لصنع القنبلة النوويّة متى شاءت، لكن يبقى الأمر في القرار السياسيّ.
في الختام، قال المفكّر الفرنسي الراحل آلان بيرفيت: «عندما تستيقظ الصين، سيهتزّ العالم». كما وصف نابليون الصين بأنها العملاق النائم. يبدو حالياً أن الصين استيقظت، وتريد الخروج من قرن الذلّ. وكي نُقيّم التأثير السلبي للنهوض الصيني على اليابان، يكفي أن نقرأ الكتاب الأبيض الياباني الذي صدر في أغسطس (آب) الماضي. في هذا الكتاب ذُكرت الصين ألف مرّة.