وداع هادئ ومتواضع لعمر الشريف في القاهرة

تقدم المشيعين ابنه طارق من «سيدة الشاشة العربية» فاتن حمامة

TT

وداع هادئ ومتواضع لعمر الشريف في القاهرة

بشكل هادئ ومتواضع، ووسط حضور من عشرات الفنانين والفنانات والمئات من عشاق فنه، شيع جثمان الممثل المصري عمر الشريف أمس الأحد من أحد مساجد شرق القاهرة. تقدم المشيعين ابنه طارق الذي أنجبه من سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، وبعض أفراد العائلة. كما حضر وزير الثقافة المصري عبد الواحد النبوي، ونقيب المهن التمثيلية أشرف زكي، والممثلون حسين فهمي وفاروق الفيشاوي وجميل راتب وخالد النبوي ومجدي كامل ومها أحمد، وفنان الأوبرا حسن كامي.
وقال النبوي، في تصريحات للصحافيين بعد تشييع الجثمان: «كلنا في حالة حزن شديد.. اتصل للعزاء فيه وزراء ثقافة من عدة دول ومن فرنسا على وجه التحديد». وأضاف «ترك بصمة داخل مصر وخارجها لا يمكن لأحد أن ينكرها.. وسنبحث مع نقابة الممثلين الوجه الأمثل لتكريمه».
وأحضر جثمان الشريف في نعش ملفوف بعلم مصر وقماش داكن مطرز بآيات قرآنية. ثم صلى المشيعون وأغلبهم من الفنانين المصريين صلاة الجنازة عليه، قبل أن يُحمل الجثمان في سيارة خاصة ليوارى الثرى في مقابر السيدة نفيسة في جنوب القاهرة.
وفاق عدد الصحافيين والمصورين عدد المشيعين بشكل كبير، بحسب ما لاحظ صحافي وكالة الصحافة الفرنسية الذي كان موجودا في المسجد الفخم والكبير الذي أصبح أخيرا مقصدا لتشييع جنازات كبار رجال الدولة والمشاهير المصريين. وبدا على أفراد أسرة عمر الشريف، وعلى رأسهم ابنه طارق، التأثر أثناء الجنازة التي خيم الصمت والهدوء على مجرياتها.
وقال الفنان المصري حسين فهمي، لوكالة الصحافة الفرنسية، قبل صلاة الجنازة إن «عمر الشريف مثل مصر أمام العالم بأحسن صورة ممكنة».
وقال الممثل ومقدم البرامج بالتلفزيون المصري سمير صبري: «هو رمز للزمن الجميل في السينما المصرية والعالمية أيضا.. صنع دعاية جيدة جدا لمصر بعد خروجه للعالمية ومشاركته في أفلام لورنس العرب ودكتور زيفاغو». وأضاف: «قال لي في آخر لقاء تلفزيوني معه مطلع هذا العام إنه عاد إلى مصر ليموت فيها».
وصرح وزير الآثار المصري الأسبق عالم المصريات المعروف زاهي حواس بتأثر: «فقدت صديقا مقربا لي. لقد كان أخا. العالم خسر ممثلا عظيما».
وعبرت الفنانة اللبنانية مادلين طبر عن حزنها لفقدان شخص بقيمة «أحد أهرامات مصر». وقالت طبر التي اتشحت السواد: «إنها خسارة كبيرة. كنت محظوظة أنني عملت معه وعرفته كصديق».
وجاءت وفاة الشريف بعد نحو ستة أشهر من وفاة الفنانة المصرية فاتن حمامة، السيدة الوحيدة التي تزوجها الشريف والتي طالما وصفها بأنها «حب عمره».
وعبر الرجل السبعيني محمد البسيوني عن تأثره لفقدان شخص «بقيمة عمر الشريف». وقال البسيوني: «هذا الثنائي (عمر الشريف وفاتن حمامة) ذو قيمة عالية جدا. إنهما شخصيتان تاريخيتان والكل يحبهما».
ورغم الوداع الهادئ، تصدر خبر وفاة عمر الشريف وسائل الإعلام المصرية، وحظي بمتابعة كثيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، وانتشرت صور عمر الشريف في مختلف حقبات عمره على الصفحات الشخصية لعدد كبير من مستخدميها المصريين.
وتوفي الشريف الجمعة الماضية في مستشفى في حي حلوان بالقاهرة، حيث نقل منذ شهر جراء إصابته بمرض الزهايمر. وكان المرض اضطره إلى الابتعاد عن الشاشات في عام 2012 بعد آخر ظهور له في الفيلم المغربي «صخرة القصبة».
ولد عمر الشريف في العاشر من أبريل (نيسان) عام 1932 في الإسكندرية مسيحيا، واسمه الحقيقي ميشال شلهوب، من أب لبناني وأم لبنانية - سورية. لكنه اعتنق الإسلام عام 1955 ليتزوج من الممثلة المصرية سيدة الشاشة العربية الراحلة فاتن حمامة التي أنجب منها ابنه الوحيد طارق. ولم يتزوج الشريف مجددا بعد انفصاله نهائيا في عام 1974 عن فاتن حمامة التي ظل يقول عنها إنها «حب حياته»، والتي توفيت في يناير (كانون الثاني) الماضي. وحصل عمر الشريف في عام 2003 على جائزة الأسد الذهبي عن مجمل أعماله في مهرجان البندقية السينمائي. وأثناء حياته، أقام عمر الشريف، الذي كان يتقن لغات عدة، في أماكن مختلفة منها فرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا. وكان مدير أعمال الفنان المصري أعلن في مايو (أيار) الماضي إصابته بمرض ألزهايمر منذ فترة.
بدأ الفنان الراحل مشواره في السينما مع المخرج المصري يوسف شاهين في فيلم «صراع في الوادي» عام 1954. وقبل انطلاقه إلى السينما العالمية، شارك الشريف في عشرين فيلما مصريا في الفترة من 1954 حتى 1962. وكان دور «الشريف علي» في الفيلم البريطاني «لورنس العرب» نقطة تحول في حياته إذ أصبح بعده ممثلا عالميا.
وحاز أداؤه في «لورنس العرب» ثناء النقاد، ورشح للفوز بجائزة الأوسكار عن فئة أفضل ممثل في دور مساعد، ليكون بذلك أول ممثل عربي يُرشح للأوسكار. وفاز عن الدور نفسه بجائزة الكرة الذهبية (غولدن غلوب). لكنه وصل إلى القمة في السينما العالمية بأداء الدور الرئيسي في فيلم «دكتور زيفاغو» في عام 1965. وفاز عن دوره في الفيلم بجائزة الكرة الذهبية للمرة الثانية لكن هذه المرة كأفضل ممثل في دور رئيسي.
وبعد تنقله لسنوات طويلة خارج مصر عاد واستقر فيها مطلع تسعينات القرن الماضي. ومن أشهر أفلامه في السينما المصرية «صراع في الوادي» و«صراع في الميناء» و«إشاعة حب» و«في بيتنا رجل» و«نهر الحب» و«سيدة القصر».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)