الهندسة الوراثية... بين طموح العلم وحدود القدرات الإنسانيةhttps://aawsat.com/home/article/4038071/%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%86%D8%AF%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%AB%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%B7%D9%85%D9%88%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85-%D9%88%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9
الهندسة الوراثية... بين طموح العلم وحدود القدرات الإنسانية
د. محمد خير ندمان
TT
TT
الهندسة الوراثية... بين طموح العلم وحدود القدرات الإنسانية
الهندسة الوراثية (وتسمى أيضاً التعديل الجيني)، هي عملية تعديل صناعية للتركيب الجيني لكائن حي. وتتضمن هذه العمليات نقل الجينات من كائن لآخر ليكتسب الكائن الذي تم نقل الجينات إليه صفات معينة من جينات الكائن الأول، وتُسمَّى الكائنات التي تم تعديل جيناتها صناعياً بـ«الكائنات المعدَّلة وراثياً». ويتم أيضاً من خلال الهندسة الوراثيَّة تغيير في المادة الوراثيَّة للكائن الحي، وذلك عن طريق التدخل المباشر في العمليات الجينيَّة، ويتم هذا التغيير لأكثر من هدف سواء لإنتاج مواد جديدة، أو تحسين وظائف الكائن الحي الموجودة فيه.
فتح تطور الهندسة الوراثية فرصاً هائلة في الطب والزراعة. لكن هذا المجال العلمي فتح أيضاً باباً لطرح عديد من الأسئلة الحساسة التي تتعلق بمستقبل الجنس البشري، والمدى الذي يمكن السماح فيه للعلم بالتلاعب بطبيعة الجينات البشرية من دون أن يؤدي ذلك إلى كارثة قد تهدد استمرار الكائنات الحية بصورتها الحالية.
كتاب «كالآلهة: تاريخ أخلاقي للعصر الجيني»، من تأليف المؤرخ وعالم الأحياء ماثيو كوب، يثير قضايا وأسئلة أخلاقية واجتماعية وثقافية متعددة حول هذه القضية.
في عام 2018، تلاعب العلماء بالحمض النووي للأطفال الرضع لأول مرة. كان هذا العمل أحد الإنجازات التي خشيها عديد من العلماء منذ بداية العصر الجيني. خلال الخمسين عاماً الماضية، دعا علماء الوراثة، الذين كانوا يخشون من نتائج استخدام تقنياتهم الخاصة، عدة مرات، إلى وقف مؤقت لتجاربهم. وكان من حقهم أن يكون لديهم مثل هذا الخوف، فالهندسة الوراثية يمكن استخدامها للقضاء على الآفات، أو تغيير الجينات البشرية، أو إنشاء نسخ جديدة خطيرة من الأمراض أثناء محاولة منع الأوبئة في المستقبل.
لذلك يرى كثير من العلماء أن هذه التكنولوجيا الثورية مهمة للغاية، بحيث لا يمكن تركها للعلماء فقط؛ لأنه ليس هناك ما يضمن بأن الوثوق ببراعتهم العلمية فقط يمكن أن يحمي البشرية من احتمال تطورات قد توجد واقعاً جهنمياً في المستقبل.
منذ اكتشاف جيمس واتسون وفرنسيس كريك في عام 1953 البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي (مادة الجينات)، أصبحت الأمور واعدة من أكثر من ناحية، وأكثر خطورة مما كانت عليه منذ آلاف السنين.
وفي جميع الأحوال، يرى العلماء أن هناك جوانب إيجابية وأخرى سلبية للهندسة الوراثية.
ومن أبرز فوائد الهندسة الوراثية منع انتقال الأمراض الفتاكة، مثل السرطان مثلاً، كما يمكن الحد من العدوى بالأمراض التي تنقلها الحشرات، مثل حمى الضنك والملاريا، وذلك من خلال تعقيم هذه الحشرات، مثل البعوض.
كما يرى العلماء أن الهندسة الوراثية تساعد على الحد من المجاعات في جميع أنحاء العالم، من خلال تحسين جودة المحاصيل الزراعية وزيادة غزارة إنتاجيتها، حيث يساعد هذا على تنمية البلدان.
من ناحية أخرى، يمكن التخلص من السمات الشخصية غير المرغوبة، حيث تُمكننا تقنيات الهندسة الوراثية من اختيار وتصميم السمات المفضلة جينياً لدينا، مثل الذكاء والجمال ونمو العضلات، ويؤدي هذا بطبيعة الحال إلى إلغاء مفهوم الانتقاء الطبيعي.
كما يمكن الاستفادة من الهندسة الوراثية في استنساخ الحيوانات للحفاظ على الأنواع المهددة بالانقراض، كما حدث مع النمس ذي الأرجل السوداء، وهو النمس الوحيد الأصلي في أميركا الشمالية.
في عام 2020، تمكن العلماء من إكمال مشروع الاستنساخ الذي بدأ في عام 2013، وأسفر عن ولادة أنثى نمس مستنسخة.
من ناحية ثانية، لو أن كل إنسان حقق رغبته في تفضيل سمة معينة، سننهي - نحن البشر - نافذة تنوعنا الجيني الواسعة بأيدينا! كما أن استخدام الهندسة الوراثية للقضاء على الأمراض بشكل نهائي قد يؤدي إلى فقدان السيطرة على النمو السكاني نظراً لأن المرض عامل رئيسي في التحكم في عدد السكان، فإن إطالة عمر البشر من خلال استخدام الهندسة الوراثية، ستؤدي لا محالة إلى زيادة أعدادهم. نتيجة لذلك، قد تنشأ مشكلات خطيرة تهدد أمن واستقرار الجنس البشري كله، مثل مشكلات توافر الوظائف، والتفاوت الاقتصادي، وضرورة توفير مستويات من الرعاية الطبية أعلى من تلك الموجودة حالياً، بالإضافة إلى نقص المنتجات الزراعية لتغطية وتلبية احتياجات الجميع.
كما يمكن أن تؤدي هذه التقنية إلى ارتفاع خطر زيادة الحساسية، حيث إن المواد المسببة للحساسية تنتقل بسهولة من محصول إلى آخر في الأطعمة المعدلة وراثياً. ومن ثم، فإن النساء الحوامل اللائي يتناولن الأطعمة المعدلة وراثياً قد يعرضن نسلهن للخطر من خلال تغيير بنيتهم وخصائصهم الجينية. ويعد التعديل الجيني عملية لا رجعة فيها، فبمجرد حدوثه، لا نتمكن من عكسه.
إن التغييرات التطورية الفورية التي تقوم بها تقنيات الهندسة الوراثية لدينا قد تظهر تأثيرات غير مرغوب فيها، ويمكن أن يصل بعض هذه التأثيرات إلى إحداث عديد من السيناريوهات الحرجة، أي إن تفاعلات الحساسية قد تؤدي إلى تطوير نوع من التفاعلات التلقائية التي يمكن أن تعرض كوكبنا ووجودنا برمته للخطر.
إن المخاوف التي تحيط باستخدام الهندسة الوراثية ليست ثانوية، لذلك فإن ما نحتاجه الآن هو قواعد معقولة وقابلة للتنفيذ حول كيفية الاستفادة من قدرات الهندسة الوراثية الإيجابية وتجنب سلبياتها الكارثية في الوقت نفسه.
يتتبع ماثيو كوب في كتابه «كآلهة» تاريخ عمالقة التكنولوجيا الحيوية، بدءاً من «Genentech»، إحدى الشركات الأولى من هذا القبيل، التي صنعت الإنسولين في عام 1976، وشركة «Monsanto»، المهيمنة على هندسة مصانع الأغذية من ثمانينات القرن العشرين.
فيما بعد، تم شراء «Genentech» من قبل شركة «Hoffman-La Roche» السويسرية العملاقة في عام 2009، كما أصبحت شركة «Monsanto» جزءاً من شركة «Bayer» في عام 2018.
ويلاحظ مراقبون أن سرية التجارب والعمل في مجال الهندسة الوراثية ازدادت مع بدء المنافسة التجارية، وأصبحت براءات الاختراع هي التي توجه الأبحاث بدلاً من القضايا الإنسانية. وليس من المفاجئ أن عدم ثقة الناس في مثل هذه الشركات يتزايد تقريباً مع تضاؤل الشفافية العلمية.
في ظل هذه التطورات، اكتسب مجال التلاعب الجيني إحدى أقوى أدواته، وهي التقنية المعروفة باسم «CRISPR». يرمز الاختصار إلى «التكرارات العنقودية المتباعدة بانتظام»، في إشارة إلى تكرار تسلسل الحمض النووي في البكتيريا التي تتحكم بالإنزيمات التي يمكن أن تؤدي نوعاً من عمليات نقل المادة الوراثية.
بعبارات بسيطة، إنها أداة فعالة وغير مكلفة نسبياً لتعديل الجينات، وقد تم بالفعل القيام بكثير من الأمور عن طريق هذه التقنية، مثل تكوين مجموعات عقيمة من البعوض، إلى تجربة صينية مثيرة للجدل في تغيير جينات الأجنة البشرية.
في عام 2020 وحده، تم تقديم نحو 6 آلاف مقترح لتطبيق «CRISPR» إلى الوكالات في شتى أنحاء العالم.
وهكذا، فإن التكنولوجيا والتقنيات العلمية الجديدة سلاح ذو حدين، حيث يكمن جانبها الإيجابي في فوائدها العديدة، وتدخلاتها المباشرة التي يمكنها تحسين حياة جنسنا البشري وتسهيلها، أما إذا استخدمناها بشكل مفرط وغير عقلاني، فإن بإمكانها أن تقودنا نحو الهاوية والموت المحقق بشكل أسرع وأخطر من ذلك الذي يمكن لجنسنا مجابهته، أو السيطرة عليه.
وبشكل عام، فإن هذا الموضوع، وأبعاده، يعتبر ذا أهمية كبيرة في مناقشات المجتمع المدني ودوائر حقوق الإنسان.
* باحث ومترجم سوري
إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»https://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5088685-%D8%A5%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D8%B3-%D9%85%D9%84%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A6%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%82%D8%AA-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%81%D9%82%D8%A9
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
غزة:«الشرق الأوسط»
TT
غزة:«الشرق الأوسط»
TT
إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.
الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.
وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟
هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً
في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.
ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.
وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».
وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».
ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.
ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.
وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.
وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.
وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».
وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».
وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.
تكتيكات «حماس» قبل وبعد
منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».
ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.
وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.
وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».
وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.
وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.
إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.
وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».
لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.
وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.
فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.
خارج التوقعات
بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.
وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».
وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».
لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.
وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.
ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».
وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».
جدل عام وتهم جاهزة
هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.
فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.
وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.
ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».
وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».
ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.
وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».
وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.
ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.
وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.
وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.
وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.
ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.
وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».
وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».
ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.
ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.
وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.
صفقات تبادل سابقة
ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.
وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.
ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.
وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.
وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.
وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».
وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.
وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.
لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.
ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.