دراسة تشير إلى «غياب» آلية التنافس الحر بين العرض والطلب في أسواق النفط

نتيجة استخدام السلاح الجديد «سقوف الأسعار»

ناقلات نفط تنتظر عند مرسى في البحر الأسود قبالة كيليوس بالقرب من إسطنبول تطبيقاً لقرار «تسعير النفط الروسي» (رويترز)
ناقلات نفط تنتظر عند مرسى في البحر الأسود قبالة كيليوس بالقرب من إسطنبول تطبيقاً لقرار «تسعير النفط الروسي» (رويترز)
TT

دراسة تشير إلى «غياب» آلية التنافس الحر بين العرض والطلب في أسواق النفط

ناقلات نفط تنتظر عند مرسى في البحر الأسود قبالة كيليوس بالقرب من إسطنبول تطبيقاً لقرار «تسعير النفط الروسي» (رويترز)
ناقلات نفط تنتظر عند مرسى في البحر الأسود قبالة كيليوس بالقرب من إسطنبول تطبيقاً لقرار «تسعير النفط الروسي» (رويترز)

قللت دراسة بحثية متخصصة من أثر قرار مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي، بوضع سقف سعري للنفط الروسي عند 60 دولارا للبرميل، للضغط على بوتين في حربه على أوكرانيا. غير أنها أشارت إلى أن «آلية التنافس الحر بين قوى العرض والطلب قد غابت عن هذه السوق».
وخلصت الدراسة، التي قدمها الدكتور محمد يوسف والباحثة موزة المرزوقي، من مركز «تريندز» للبحوث والاستشارات، إلى أن «جانب الطلب في هذه السوق دائمًا ما يعيد ترتيب نفسه وتنظيم صفوفه للوقوف أمام قوى العرض، وبالشكل والمقدار اللذين يضمنان له تحقيق أقصى منافع ممكنة، اقتصادية كانت أو غير اقتصادية».
وأضافت الدراسة، التي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها: «يدفعنا ذلك للقول إن احتمالات نجاح سياسة سقوف الأسعار سوف تعني تقدمًا جديدًا وتطورًا نوعيًا لقوى جانب الطلب في هذه السوق، عبر استخدام سلاح جديد تحت اسم (سقوف الأسعار)، وهو السلاح الذي يمكن إشهاره في الزمان والمكان المناسبين لمصالح جانب الطلب. ولذلك تحديدًا؛ فإن قوى العرض عليها التعلم جيدًا من هذا الدرس لكي تضمن هي الأخرى تحقيق مصالحها الاقتصادية وغير الاقتصادية، ولكن من دون الإضرار بمصالح أيٍّ من الأطراف الدولية، أو حتى التأثير على مقتضيات النمو الاقتصادي العالمي في المستقبل».
ومنذ الاثنين الماضي، حظر الاتحاد الأوروبي عمليات تسليم النفط الروسي المنقول بحرًا، بالإضافة إلى آلية تحديد سقف لسعر النفط الروسي صادق عليها الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وأستراليا، تنصّ على مواصلة تسليم النفط المبيع بسعر أقصاه 60 دولارًا للبرميل فقط. وفي حال كان السعر أعلى من هذا السقف، يُمنع على الشركات التي تتخذ من هذه الدول مقرّات لها، توفير الخدمات التي تسمح بالنقل البحري، لاسيما التأمين.

- تدخل دولي نادر
وصفت الدراسة هذا الإجراء، بأنه تدخل دولي «يندر حدوثه سوى في أوقات الأزمات العالمية الكبرى ... ويعني أن آلية التنافس الحر بين قوى العرض والطلب قد غابت عن هذه السوق، ناهيك من كونه يعكس القوة التي يمتلكها المشترون في هذه السوق في مواجهة البائعين».
أشارت الدراسة، إلى حصة روسيا من الاحتياطيات النفطية المؤكدة عالميا التي تبلغ نحو 6.2 في المائة، والتي تضع الاقتصاد الروسي في المنزلة السادسة عالميًا من حيث حجم الاحتياطيات النفطية الدولية؛ الذي يأتي تاليًا في الاحتياطيات المؤكدة لكل من فنزويلا والمملكة العربية السعودية وكندا ثم إيران والعراق.
وقالت إنه «بينما يشكل النفط للاقتصاد الروسي مكانة بالغة الأهمية، سواء في توليد الناتج المحلي الإجمالي أو في توليد النقد الأجنبي، فإن ريع (إيرادات) النفط الذي يتحصل عليه الاقتصاد الروسي، والمتمثل في الفرق بين تكاليف الإنتاج النفطي والأسعار الإقليمية للنفط، بات يشكل حاليًا نحو عشر الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصاد الروسي».
وعلى صعيد الإيرادات الروسية من صادرات النفط، أوضحت الدراسة، أن «المتحصلات التي جناها الاقتصاد الروسي من الصادرات النفطية الخام ومشتقاتها زادت من نحو 151.8 مليار دولار في عام 2017 لتصل لنحو 180.8 مليار في عام 2021. وكان عام 2019 هو العام الأعلى في الحصيلة النفطية الروسية بقيمة تناهز 188.3 مليار دولار». وأشارت إلى دور روسيا في مجموعة أوبك بلس، بقولها: «إن الدور الروسي في رسم سياسات الإنتاج النفطي العالمي لا يرتبط فحسب بقدراته الإنتاجية السنوية، بل يعتمد بصفة أساسية على مرونة الإنتاج النفطي».

- مكانة النفط الروسي
وإجمالًا، وفق الدراسة، فإن جميع المؤشرات توضح بما لا يدع مجالًا للاختلاف أن للاقتصاد الروسي مكانة دولية مؤثرة في سوق النفط العالمية، إما عبر تأثيره على المعروض النفطي العالمي أو عبر التأثير في التنظيمات الدولية لمنتجي النفط عبر تجمع أوبك بلس.
وترى الدراسة، أن «قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود في مواجهة العقوبات الغربية كانت – ولا تزال – سببًا رئيسيًا في لجوء الدول الغربية بقيادة G7 إلى تطوير أنواع مختلفة من العقوبات لتحقيق الهدف الأساسي لفرضها، والمتمثل في رفع فاتورة الحرب الروسية على أوكرانيا، وللدرجة التي تدفع الاقتصاد الروسي إلى التراجع، سلمًا أو حربًا».

- العرض والطلب
وعمومًا، فقد تفاعلت جميع العناصر على جانبي العرض والطلب في سوق النفط العالمية لتصل بسعر النفط في مطلع ديسمبر (كانون الأول) الحالي لما دون خط 85 دولارًا للبرميل لسلة أوبك.
وإزاء هذا التقلب في سوق النفط، فقد استمرت قوى التضخم النقدي في الاشتعال في جميع أسواق العالم. وكان ذلك إما استجابة لأسعار النفط المرتفعة – ناهيك من أسعار الغاز الطبيعي – ولعوامل اقتصادية وجيواستراتيجية إضافية حدثت في الأسواق العالمية وفي سلاسل الإمداد وخطوط التجارة العالمية. وفق الدراسة. ويرى الدكتور محمد يوسف والباحثة موزة المرزوقي، في الدراسة أن «التقييد الفعال والكامل للصادرات الروسية يعني بالنسبة إلى سوق النفط العالمية وبالنسبة للدول الغربية، ارتفاعًا غير مرغوب فيه في الوقت الحالي في أسعار النفط، ويعني أيضًا مزيدًا من التضخم الذي ما انفكت السياسات النقدية المحلية في أميركا وأوروبا تجاهد للنزول به لمستويات ما قبل الحرب الروسية على أوكرانيا».
قالت الدراسة: «إذا غضضنا الطرف حاليًا عن موقف الاقتصادين الصيني والهندي من التجارة النفطية مع روسيا، فإن التغلب على معضلة النفط الروسي باتت هدفًا رئيسيًا لصانع السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها الاقتصادان الأوروبي والياباني. وكانت الفكرة الأساسية للتغلب على معضلة النفط الروسي أن يتم الجمع بين الحسنيين: إتاحة المجال وفتح قنوات التجارة أمام صادرات روسيا من النفط، وتقييد قدرات الاقتصاد الروسي لزجره عن الاستمرار في الحرب على أوكرانيا».
وحددت الدراسة آثار قرار وضع سقوف سعرية على النفط الروسي في أنها «تضمن أسعار السقوف الموضوعة أن تغطي تكاليف الإنتاج النفطي بهامش الأرباح العادية، وبما يعني استمرار صمود قطاع النفط الروسي ودوران عجلات الإنتاج النفطي».
أضافت: كما «تضمن فتح الأسواق الدولية أمام النفط الروسي بتدابير وإجراءات تحافظ على هذه السقوف السعرية، وبما يعني تجنب انخفاض العرض النفطي من الأسواق العالمية، وبما يحافظ على التوازن الحاصل حاليًا في هذه السوق». و«تحفز الشركاء التجاريين الأساسيين من خارج الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا على التعامل الشفاف في التجارة مع روسيا بعيدًا عن الأسواق النفطية الموازية، وبما يحقق مصالح شركات الشحن والنقل والتأمين التي تمتلكها الاقتصادات المعاقبة للاقتصاد الروسي».
وترى الدراسة أنه في حال تداول النفط الخام بسعر 60 دولارًا أو أقل، فإن الدول المشاركة في سقف السعر، والتي تتضمن مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي وأستراليا، ستتيح الحصول على الخدمات الأساسية، بما فيها التأمين.


مقالات ذات صلة

صربيا تحذر من عقوبات أميركية على شركة تمدها بالغاز مدعومة من روسيا

الاقتصاد مصفاة نفط نيس جوغوبترول في بانشيفو صربيا (أ.ب)

صربيا تحذر من عقوبات أميركية على شركة تمدها بالغاز مدعومة من روسيا

كشف الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش أن الولايات المتحدة تخطط لفرض عقوبات على المورد الرئيسي للغاز لصربيا الذي تسيطر عليه روسيا.

«الشرق الأوسط» (بلغراد)
الاقتصاد شعار «إينيوس» في المقر الرئيس للشركة (رويترز)

«سينوك» الصينية للنفط تبيع أصولها في الولايات المتحدة لـ«إينيوس» البريطانية

باعت شركة «سينوك» الصينية المحدودة شركتها التابعة في الولايات المتحدة إلى مجموعة الكيميائيات البريطانية «إينيوس».

«الشرق الأوسط» (بكين)
الاقتصاد منشأة لويندل باسل لتكرير النفط في هيوستن بولاية تكساس الأميركية (رويترز)

النفط يسجل أول مكاسب أسبوعية منذ نهاية نوفمبر

ارتفعت أسعار النفط قليلاً يوم الجمعة متجهة صوب تسجيل أول مكاسب أسبوعية منذ نهاية نوفمبر الماضي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد منظر عام لمقر شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) في أبوظبي (رويترز)

رئيس الإمارات يوافق على تشكيل مجلس إدارة ذراع الاستثمار العالمية لـ«أدنوك»

وافق رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان على تشكيل مجلس إدارة شركة «إكس آر جي (XRG)»، الذراع الاستثمارية الدولية الجديدة لشركة «أدنوك».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
الاقتصاد لوحة عليها شعار شركة «روسنفت» الروسية في المنتدى الاقتصادي في سانت بطرسبرغ (رويترز)

«روسنفت» و«ريلاينس» تتفقان على أكبر صفقة بين الهند وروسيا لتوريد النفط

قالت 3 مصادر إن شركة النفط الحكومية الروسية «روسنفت» وافقت على توريد ما يقرب من 500 ألف برميل يومياً من النفط الخام إلى شركة التكرير الهندية الخاصة «ريلاينس».

«الشرق الأوسط» (موسكو - نيودلهي)

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».