في خمس وعشرين آية قرآنية كريمة، حكت «سورة النمل» قصة نبي الله سليمان عليه السلام مع «الملكة بلقيس» ملكة سبأ.
بدأت بدعوته إياها - وشعبها - إلى عبادة الله تعالى وحده، والتوقف عن عبادة الشمس، وانتهت بإعلانها إسلامها لله رب العالمين، وزواج سليمان عليه السلام منها.
حاولت استخدام دهائها في إثناء سليمان عن دعوته ببعض الهدايا التي رفضها، وسخر منها، وخاطب موفد بلقيس بما حكاه القرآن الكريم: «... قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ».
أدركت «بلقيس» حقيقة أنها أمام «نبي» يدعو إلى عبادة الله تعالى وحده، ولا تغريه الهدايا، ولا يؤثر فيه المال، فلعبت بذكائها وفطنتها وقدرتها على التمييز بين الحق والباطل دورا كبيرا في تحوّل شعبها من السجود للشمس إلى عبادة الله تعالى وحده.
تقول الدكتورة بلقيس إبراهيم الحضراني في كتابها «الملكة بلقيس.. التاريخ والأسطورة والرمز»: جاءت في القرآن الكريم في سورة النمل قصة زيارة ملكة سبأ للنبي سليمان، وقصة إسلامها، وقد صورها القرآن حكيمة مقتدرة، ووصف شعبها بالبأس والقوة، وعرشها بالعظمة، كما أحاط سليمان بالكرامات.
استهل القرآن قصة نبي الله سليمان عليه السلام مع الملكة «بلقيس» بمشهد مهم خارج مملكتها «سبأ».. بحديث القرآن الكريم عن واحدة من أهم خصائص «مُلْكِ سليمان» عليه السلام.
سخّر الله تعالى له الطير، وعلمه لغته، ضمن مزايا أخرى كثيرة فريدة، استجابة لدعائه عليه السلام: «رَبِّ هَبْ لي مُلْكًا لا ينبغي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى».
تصدّر نبي الله سليمان عليه السلام المشهد متفقدا الطير، متسائلا - كما حكى القرآن الكريم على لسانه : «... مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ».
احتمالان طرحهما سليمان عليه السلام في تساؤله، الأول يتعلق به «لا أَرَى الْهُدْهُدَ».. والثاني يتصل مباشرة بالهدهد «كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ».
السياق القرآني يوضح أن الهدهد «كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ» ساعة تفقد النبي سليمان الطير، الأمر الذي جعله يتوعد الهدهد قائلا: «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أو لَأَذْبَحَنَّهُ أو لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ».
ثلاثة احتمالات وضعها سليمان عليه السلام لمصير الهدهد:
- لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا.
- أو لَأَذْبَحَنّهُ.
- أو لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَان مُبِين.
أفلح الهدهد في النجاة من الاحتمالين الأول والثاني، محتميا بالاحتمال الثالث مقدما «سلطانا مبينا» يعتذر به عن غيابه.
اعتذار الهدهد حمل مفاجأة «غير سارة».. قال مخاطبا نبي الله سليمان: «.. أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأ بِنَبَأ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أعمالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ».
هذا هو السلطان المبين الذي أكره الهدهد على الغياب عن موعد نبي الله سليمان، أما المرأة التي وصفها الهدهد بأنها «.. تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ» فهي الملكة «بلقيس» التي أسرع الهدهد عائدا إلى مملكتها «سبأ» حاملا رسالة من النبي سليمان يدعوها وقومها إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الشمس.
يقول الكاتب والإعلامي جابر الشال في كتابه «قصص النساء»: أخذ الهدهد الكتاب وحمله بمنقاره وطار من الشام إلى اليمن، ومضى إلى مأرب، وكانت بلقيس في قصرها، وقد استلقت في فراشها تستريح من عناء يوم حاشد قضته في معبد الشمس الكبير.
ويضيف أن الهدهد دخل عليها حجرتها من النافذة التي تركتها مفتوحة ونسائم رقيقة تهب عليها منها، وألقى الكتاب عليها، فهبت مذعورة.. مَنْ هذا الذي دخل عليها ولم تشعر به؟
رأت الهدهد يقف بالقرب من النافذة، ونظرت إلى خاتم الكتاب الذي ختم به فعرفت أنه من سليمان.
ويسجل الدكتور شعيب الغباشي الأستاذ بجامعة الأزهر في كتابه «أعلام النساء في القرآن الكريم» قول ابن عباس رضي الله عنهما: إن عرشها كان طوله ثمانين ذراعا، وعرضه أربعين ذراعا، وارتفاعه في السماء ثلاثين ذراعا، مكلل بالدر والياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، وقوائمه لؤلؤ وجوهر، وكان مسترا بالديباج والحرير عليه سبعة مغاليق، وكان يخدمها النساء، وكان معها لخدمتها ستمائة امرأة، وكانت كافرة من قوم كافرين.
وأضاف الغباشي أن هذه الأمة كانت من الزنادقة، ممن يعبدون الشمس من دون الله، وزين لهم الشيطان كفرهم، وأبعدهم عن طريق الله وتوحيده، وكان الأولى بهم أن يعبدوا الله الواحد الأحد، ويسجدوا لله الذي ينزل الماء من السماء، ويخرج الكنوز والنبات من الأرض، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال.
ويشير الغباشي إلى أن سليمان عليه السلام عندما سمع مقالة الهدهد قال: «سننظر في مقالتك ونتأملها لنرى هل كنت صادقا في إخبارك هذا أم كنت من الكاذبين». ثم كتب سليمان عليه السلام كتابا إلى بلقيس وقومها وأعطاه للهدهد وأمره أن يحمله إلى بلقيس.
ويقول الكاتب محمد علي قطب في كتابه «زوجات الأنبياء وأمهات المؤمنين»: وجدت «بلقيس» الكتاب فوق سريرها فارتاعت، ثم دعت كبراء دولتها إلى الاجتماع العاجل، وعرضت عليهم الأمر للتشاور.
* ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة