تُعد مدرسة الكتب النادرة بجامعة فرجينيا أقرب ما تكون إلى الجنة بالنسبة إلى عشاق الكتب. ففي كل صيف، يحتشد عشاق الكتب من كافة أرجاء العالم في دورات دراسية تستمر أسبوعاً تغطي كل جانب من جوانب تاريخ الكتاب تقريباً، في مناخ يجمع بين الانغماس العميق في أغلب الجوانب الغامضة من الطباعة، والتجليد، والفهرسة مع الصداقة الحميمة لأداء كل شيء بجودة فائقة في المخيم الصيفي.
لكن في الأثناء ذاتها، يقدم معرض «غرولير كلوب» في مانهاتن للبقية منا لمحة راقية عن الأساليب العملية المميزة في المدرسة، إلى جانب تاريخ حافل وعريق لأكثر من 2000 سنة من العمل في مجال صناعة الكتب.
يستند معرض: «صناعة الكتاب من العالم القديم إلى العصر الحاضر»، قيد العرض حتى 23 ديسمبر (كانون الأول)، إلى أكثر من 100 ألف مادة من مجموعة التعليم في المدرسة. هناك قوالب الطباعة، وأدوات التجليد، وفراشي الحبر، وعينات الورق، وبراهين الطابعات، والحروف الغريبة، وبطبيعة الحال، الكثير من الكتب، من سوترا البوذية اليابانية (كتاب مقدس) إلى نسخة منمقة من آخر كتاب لمادونا. إن كان هناك درس عميق يختفي وراء عنوان العرض الجاف المخادع، فهو أن كل كتاب، سواء كان ذا ندرة فاتنة أو أكثر الكتب بساطة ذات الأغلفة الورقية المهترئة، يروي قصة ما - حتى قبل شروعك في قراءته.
تقول السيدة بربارة هيريتيج، المديرة المساعدة لمدرسة الكتب النادرة، التي أشرفت على المعرض رفقة السيدة روث إلين سانت أونغي، في مقابلة، «هناك الكثير من التاريخ والعديد من القصص التي تكمن أمام ناظريك. هناك روايات مدهشة تحملها أوعية هذه الكتب».
تتراوح العناصر المعروضة في الحجم ما بين المجلد الصغير من خطب آبراهام لينكولن، الذي يبلغ طوله أقل من بوصة، صنع عام 1929 تقريباً في إحدى مطابع تينيسي، إلى ورقة من طبعة ضخمة مزدوجة من حجم أذن الفيل لكتاب جون جيمس أودوبون «طيور أميركا» - ما يُعد نصباً تذكارياً حرفياً لصناعة الكتب.
كما هناك أيضاً كتاب مذكرة من القرن التاسع عشر مصنوع من العاج شبه الشفاف (للمسح السهل)، وهو عبارة عن تقويم مُصغر مخبأ في صندوق خشبي منحوت ومطلي حتى يبدو مثل لفافة الخبز (استخدم كبطاقة تعريف بورشة مجلد كتب يدوي من فيينا في القرن الثامن عشر)، وكذلك لُفافة من جلد الرنة الجاهزة للتجليد التي حصدتها «قومية سامي» (أو اللابيون) في شمال أوروبا في القرن الثامن عشر، وفُقدت في حطام سفينة، ثم أنقذت بعد قرنين من الزمان، ولا تزال تحمل أريج زيت البتولا العطر.
تقول السيدة سانت أونغي، التي كانت القيمة المساعدة للمجموعة حتى وقت قريب، «لدينا صور فوتوغرافية لطلاب يشمون هذه الرائحة فقط».
ثم هناك كتاب «ما فوق الألواح»، الكتاب التجريبي من تأليف كلارك كوليدج عام 1992، ويتألف من قصائد مطبوعة على أوراق بحجم ورقة الدولار، التي تُطوى في أوراق نقدية حقيقية مطبوعة مع عنوان المطبعة، ومضمومة سوياً برباط حذاء مع دسها داخل حذاء رجالي بالٍ وموضوعة في صندوق أحذية.
- هل هذا كتاب حقاً؟
تقول السيدة هيريتيج، «أحد الأمور التي نقصدها من وراء العرض هو تحدي فكرة: ماهية الكتاب».
من المؤكد أن ماهية الكتاب قد تغيرت مع مرور الوقت، حيث إن الألواح الطينية، ولفائف البردي، والرقوق، والقصاصات قد أفسحت المجال للمخطوطات والمدونات، والأنماط المتحركة، وعمليات الطباعة الآلية، والقارئ الإلكتروني الحديث. بيد أن تاريخ الكتاب ليس مجرد قصة للتقدم الخطي، كما يؤكد المعرض، وإنما رواية تقانات، وأشكال، وأنماط مختلفة، متعايشة ومتداخلة.
كما أنه ليس سرداً أوروبي المنشأ والمنطلق فحسب. إذ يتضمن المعرض (بنسخته الإلكترونية على الإنترنت كذلك) «السامتا التبتية» (لوح خشبي بسطح للاستعمال المتجدد)، ومخطوطة من ورق «الهولا» السريلانكية، ومجموعة من مخطوطات الأناجيل الإثيوبية المغلفة بالخشب، فضلاً عن الكتب المبكرة المطبوعة من شرق آسيا، حيث تطور نمط الكتابة المتحركة قبل قرون من ظهور مطبعة غوتنبرغ الألمانية.
ومن الجوانب المميزة لمدرسة الكتب النادرة تفانيها في «التعلم باللمس»، كما يُعبر عن ذلك المجلد المصاحب للمعرض. إذ عوضاً عن النظر عبر الزجاج، يتعامل الطلاب مع الأشياء مباشرة - لما يصل أحياناً إلى 500 في الدورة الواحدة.
يُسلط هذا المعرض الضوء على روح الاكتشاف المدرسية، والطريقة التي يتعلم بها الطلاب كيف (ومتى، وأين) صُنعت الكتب - حرفياً أو مجازياً - بتناول كل منها منفرداً على حدة.
هناك عينات من أطقم المواد التعليمية التي جمعها تيري بلانغر، المدير المؤسس للمدرسة، والتي تضم عينات من النوع أو من الرسوم التوضيحية المطبوعة التي أعدت عبر عمليات مختلفة. وهناك نسخة طبق الأصل من قالب ورقي يرجع للقرن الثامن عشر، يُستخدم لتعليم الطلاب كيفية تدوين تاريخ الورق من خلال تحليل العلامات المائية، والخطوط، وغير ذلك من خصائص التعريف.
يتعلم الطلاب تمييز النصوص المطبوعة في القرون الوسطى من المخطوطات، والطباعة الأصلية من النسخة المنضبطة، والنسخة الحقيقية من المزيفة. ومن بين عروض الدورة الدراسية العادية «الفاكسميلي، والتزوير، والنسخ المتطورة»، التي يدرسها السيد نيك وايلدينغ، الباحث العصري المبكر، الذي أقر مؤخراً أن مخطوطة غاليليو الثمينة والمحفوظة في جامعة ميشيغان هي مخطوطة مزورة من القرن العشرين.
يتحدث المعرض عن القوة الدائمة للكتاب كحجر أساس للذاكرة الثقافية، ولكافة أشكالها المتحولة. لكنه يتضمن أيضاً بعض الكتب التي لن تُقرأ أبداً، لأنها صارت حرفياً: غير قابلة للقراءة.
لنأخذ على سبيل المثال كتاب «غوتنبرغ»، الذي ألفه الفنان إدوارد بيتمان عام 2002، ويتألف من ثماني صفحات مطبوعة على حروف، بين أغلفة مصنوعة من أسطوانتين مضغوطتين للكومبيوتر، ويحملان نسخاً رقمية من «الأوديسا»، و«حكايات كانتربري»، و«هاملت»، وغيرها من الأعمال المعروفة.
أو على الأقل كانوا كذلك. إذ يوضح النص المطبوع، أنه في غضون 5 سنوات، سوف تبدأ الأسطوانات بالتفكك، ثم «تبدأ الكتب في الاختفاء».
ثم هناك «ألبوم الصداقة» المثير للمشاعر، المُنتج في نبراسكا حوالي عام 1892 باستخدام دفتر مُشترى من المتجر، ومثبت بغطاء مخملي مخيط يدوياً. تطوى كل صفحة وتغلق بخيط، وأزرار، وشريط، وحتى عود أسنان، مع توجيهات مكتوبة بخط اليد مثل «افتح عندما تشعر بالإحباط» أو «افتح عند وصولك إلى كاليفورنيا». لا تزال صفحات كثيرة مغلقة، وستبقى كذلك. وهناك قصة لذلك أيضاً.
تقول السيدة هيريتيج، «إنه كمثل الباب غير المفتوح. لماذا لم يفتحه القارئ؟ ماذا حدث؟ لا يسعنا إلا التخمين».