إسلام القرآن وإسلام الحديث

معتمرون يطوفون بالكعبة مع نهاية الحج وبداية موسم العمرة (أ.ب)
معتمرون يطوفون بالكعبة مع نهاية الحج وبداية موسم العمرة (أ.ب)
TT

إسلام القرآن وإسلام الحديث

معتمرون يطوفون بالكعبة مع نهاية الحج وبداية موسم العمرة (أ.ب)
معتمرون يطوفون بالكعبة مع نهاية الحج وبداية موسم العمرة (أ.ب)

إنه لمن المبهج حقاً أن أنشأت القيادة السعودية مجمع الملك سلمان للحديث النبوي الشريف في 2017 لدراسة كل القضايا والمشكلات المتعلقة بتدوين الحديث، وقد جاء في مواد الإعلان عن قيام هذا المجمع أن من وظائفه حماية السنة النبوية من أي تجاوزٍ في الفهم أو الاستدلال، وتعزيز مفاهيم الوسطية والاعتدال ومكافحة مسببات الغلو والتطرف والإرهاب

ثمة كتاب للباحث الجادّ دكتور جورج طرابيشي، اسمه «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة»، صدر عن دار الساقي في 2010. لكنه ليس موضوعنا، ولن أناقش هذا الكتاب في هذه المقالة، ولن أستعير منه إلا العنوان، لحاجتنا إليه.
لطالما مزجت الكتب الدينية من تفاسير وشروح للسنة بين القرآن والحديث. الحديث يتلو الآية في السطر نفسه، لتصور قضية ما. وحجة هذا الجمع لا غبار عليها حين يجاب تساؤلنا عن سببه، بأن السنة مكملة للقرآن وشارحة له. لكن، هل كل ما في كتب الحديث سنة؟ وهل كانت هذه السنة التي لم تتحدد بشكل واضح ونهائي، مقصورة على هذه الوظيفة، الشرح والإكمال، أم أنها عارضت القرآن في مواضع ليست بالقليلة، مما دعا علماء الأصول لعقد فصول حول حاكمية السنة على القرآن، وهل هي مقبولة أم لا؟
ماذا سيحدث لو أننا جربنا لمرة واحدة أن نفصل بينهما؟ ثمة محاولة قريبة وليست مطابقة لما أتحدث عنه، قام بها من حاولوا استخراج أحكام من القرآن دون اعتماد يذكر على السنة، ممن قاموا بهذه المحاولة، الكيا الهراسي، تلميذ أبي المعالي الجويني، الذي عاش بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر.
لو أننا نظرنا إلى كل واحد منهما بمعزل عن الآخر، بمعنى أن ندون قضايا القرآن العقدية الكبرى، وبرنامجه الأخلاقي، وأحكامه الفقهية، دون استشهاد بحديث، وفعلنا الشيء نفسه مع الحديث، بحيث ندون قضاياه الكبرى وبرنامجه الأخلاقي وأحكامه الفقهية دون استشهاد بآية، فسنجد أننا في المحصلة النهائية قد خرجنا بإسلامين لا إسلام واحد. لماذا حكمت بهذا الحكم؟ لأن التناقضات بين إسلام القرآن وإسلام الحديث ليست بالقليلة. نحن أمام بارادايم مختلف. هناك أحكام كثيرة وليست بالقليلة، يختلف فيها حكم القرآن عن حكم الحديث. ولا يتوقف الأمر عند اختلاف الأحكام، بل إن التصور العام الذي يخرج به دارس القرآن يختلف عن التصور العام الذي يخرج به دارس الحديث. سأسوق لذلك أمثلة تدعم ما ذكرت.
عندما ننظر في حديث المرأة التي سألت النبي عن بنت لها وأدتها في الجاهلية، فقال: «الوائدة والموؤدة في النار». هذا الحديث رواه أحمد بن حنبل، وهو لا يروي النصوص المنكرة، وإن كان قد يروي عن الرجل الصالح ضعيف الحفظ، إذا كان نصّه مقبولاً، وكان يشطب الأحاديث التي تعارض نصوصها ما استقر عنده، حتى وإن كانت أسانيدها صحيحة. أي أنه رضي بهذا النص ولم ير فيه أي نكارة. ورواه أيضاً تلميذه السجستاني أبو داود الذي كتب رسالة مشهورة عند أهل الحديث إلى أهل مكة، قال فيها إن ما سكت عنه في كتابه «السنن» فهو صالح للاحتجاج. والأغرب من ذلك أن الشيخ الألباني صحح هذا الحديث أيضاً ولم يجد فيه غرابة.
هذا مثال صارخ على التعارض الحقيقي بين إسلام القرآن وإسلام أهل الحديث. كيف تكون الوائدة في الجاهلية في النار، ونحن نقرأ في القرآن (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)؟ وكيف نقرأ في القرآن (وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قُتلت) ثم نقول إن الموؤدة أيضاً من أهل النار؟
حديث آخر يعارض القرآن هو حديث «أنتم شهود الله في الأرض»، أي أن من شهد له المسلمون بالنار فهو في النار، ومن شهدوا له بالجنة فهو في الجنة. هذا الحديث كان حجة لجموع غفيرة من العامة، أيام ما يسمّى بالصحوة الإسلامية، فصاروا يطلقون ألسنتهم تكفيراً وتبديعاً، في حق كل من يخالفهم من أهل الثقافة والفكر. الجرح والتعديل جرأهم على أعراض الناس. مع أن كل هذا لا يستقيم مع الآية الكريمة التي نزلت فيمن أعلنوا الكفر برسالة النبي والمنافقين الخالصين، فدعا عليهم فنزلت: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون). إذا كان رسول الله ليس له من الأمر شيء، ولا يحكم على أحد معين بأنه من أهل النار، إلا ما كان عن طريق الوحي، فكيف يستبيح عامة الناس مثل هذا الأمر؟
ويصحح بعض المحدّثين حديث الرجل الذي أكره على أن يذبح قرباناً للآلهة فلم يجد إلا ذباباً فذبح الذباب، فدخل النار، مع أننا نقرأ في القرآن الكريم (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فالآية تعدّ الإكراه عذراً يجوز لمن وقع عليه أن يعلن الكفر. أما الرواة الذين رووا حديث الذباب فمن الواضح أنهم كذبوا هذا الحديث ليجردوا المُكره على الكفر من عذره.
القائمة تطول وتصلح موضوعاً لكتاب، لكثرة ما في الباب من أمثلة تكشف أن إسلام أهل الحديث له هوية تختلف عن هوية إسلام أهل القرآن، مثلما أن أخلاق أهل القرآن وسكينتهم تختلف عن أخلاق أهل الجرح والتعديل وقسوتهم. ثمة خطأ تاريخي وقع، عندما قرر المسلمون أن تلك المرويات الكثيرة هي كلها سنة. مع أن السنة حقاً هو ما تواتر، باللفظ أو المعنى، أنه سنة، وليست أحاديث الآحاد التي توالدت ووصل تعدادها إلى مئات الآلاف، ولم تكن تُعرف في قرن الإسلام الأول، ولا يزال المحدثون يختلفون اختلافاً كبيراً في الحكم عليها بالتصحيح والتضعيف.
إنه لمن المبهج حقاً أن أنشأت القيادة السعودية مجمع الملك سلمان للحديث النبوي الشريف في 2017 لدراسة كل القضايا والمشكلات المتعلقة بتدوين الحديث، وقد جاء في مواد الإعلان عن قيام هذا المجمع أن من وظائفه حماية السنة النبوية من أي تجاوزٍ في الفهم أو الاستدلال، وتعزيز مفاهيم الوسطية والاعتدال ومكافحة مسببات الغلو والتطرف والإرهاب.
السنة، بلا شك، مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، وستبقى العناية والاهتمام بها كأحد الوظائف الدينية التي تقوم بها الدولة، لكن تمييز الصحيح من المدسوس، وتصحيح الطريقة التي يتم تعامل المسلمين بها مع الروايات، كل هذا مطلوب أيضاً، ولا شك أن مهمة المجمع لن تكون سهلة، وستتعلق بها التحديات، لكن يحدونا الأمل في إصلاحات يكون فيها صلاح لحال الأمة ككل.
- باحث سعودي


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!