بعد لقائه الشخصي الأول منذ وصوله إلى البيت الأبيض مع الزعيم الصيني شي جينبينغ المتوّج حديثاً بصلاحيات غير مسبوقة في تاريخ الحزب الشيوعي، قال الرئيس الأميركي جو بايدن قبل مغادرته قمة مجموعة العشرين في جزيرة بالي أواسط الشهر الفائت، إنه على يقين من عدم وجود ما يستوجب نشوب حرب باردة جديدة بين واشنطن وبكين، فيما كان الطرفان يعلنان استئناف الحوار حول التغيّر المناخي كدليل على الجهد المشترك لتخفيف التوتر في العلاقات الثنائية.
لكن ذلك اللقاء الذي أملته مصلحة الطرفين في تنفيس الاحتقان المتصاعد بينهما منذ أشهر في أجواء دولية بالغة التعقيد ومفتوحة على كل الاحتمالات، وما صدر عنه من مؤشرات على الرغبة المشتركة في تحاشي تحوّل المنافسة إلى مواجهة تتخطى الحيّز الاقتصادي والسياسي، ليس كافياً لتمويه الهاجس الذي يتملك الإدارة الأميركية من صعود الصين على كل الجبهات، كما دلّت قرارات واشنطن الأخيرة منع تصدير التكنولوجيا المتطورة إلى الشركات الصينية، والقمة الأطلسية الأخيرة التي أنهت أعمالها أول من أمس في بوخارست.
عنوان قمة «الناتو» في العاصمة الرومانية كان مواصلة الدعم لأوكرانيا في مواجهتها للعدوان الروسي، لكن القسم الأكبر من المحادثات التي دارت بين وزراء خارجية الأطلسي خلال اليومين المنصرمين، والأعمال التحضيرية التي دامت أشهراً قبل الاجتماع، تركزّت على تقرير أعدّه خبراء الحلف حول «الخطر الصيني الداهم والسبل المشتركة للتصدّي له»، كما جاء في الوثيقة التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط».
تشير الوثيقة التي وضعها خبراء دائرة الدراسات الاستراتيجية في «الناتو»، إلى أن القضية المحورية في العلاقات الدولية خلال القرن الحادي والعشرين، هي تحديد الإطار الذي ستندرج فيه المواجهة مع الصين، والشروط التي ستحكم هذه المواجهة. وتنبّه الوثيقة إلى أن كثافة المجهود الذي تبذله بكين منذ سنوات لتطوير ترسانتها العسكرية، وتوسيع دائرة وجودها من القطب المتجمد الشمالي إلى منطقة البلقان الغربية، تستدعي جهوزية كاملة من الحلفاء الغربيين، ورؤية مشتركة لمواجهة هذا التحدي وعدم التقليل من خطورته عن طريق مقاربته في ضوء الاعتبارات الاقتصادية.
وفي الكلمة التي قدّم بها الأمين العام للحلف هذا التقرير أمام الاجتماع الأطلسي الثلاثاء الفائت، قال ينس ستولتنبيرغ: «الحرب في أوكرانيا كشفت اعتمادنا المفرط على الغاز الروسي، ويجب أن تدفعنا إلى مراجعة اعتمادنا على دول أخرى تحكمها أنظمة استبدادية ليست الصين أقلّها شأناً».
وتذكّر الوثيقة بأن «التركيز الراهن على الخطر الروسي الداهم، لا يجب أن يكون حائلاً دون توحيد الموقف الأطلسي المشترك من الصين» التي كانت الوثيقة الاستراتيجية الجديدة التي أقرّتها قمة «الناتو» الأخيرة في مدريد نهاية يونيو (حزيران) الفائت قد وصفتها، للمرة الأولى، بأنها «التحدي الأكبر الذي يواجه مصالح الغرب وأمنه وقيمه الأساسية في الأمدين المتوسط والطويل». وأشار الأمين العام للحلف في كلمته أمام الاجتماع تنامي الروابط بين الصين وروسيا، والبيان المشترك الذي صدر عن قمة بوتين وجينبينغ مطلع فبراير(شباط) الفائت، حيث شدّد الطرفان على «النمط الجديد من العلاقات بين القوتين العالميتين، والصداقة التي لا حدود لها، والتعاون الذي لا يستثني أي مجال».
وتقول أوساط أطلسية إن الاندفاعة الأميركية لدعم أوكرانيا وتعبئة الحلفاء الغربيين لمساعدتها في وجه الغزو الروسي، لم تقلل من شأن الهاجس الصيني الذي ما زال يتقدم على كل أولويات واشنطن الاستراتيجية منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، حيث لم تتوقف مساعي الخارجية الأميركية عن إدراج «التهديد الصيني» على جدول أعمال الحلف الأطلسي. وتضيف هذه الأوساط أن واشنطن، مدعومة من كندا وبريطانيا، تدفع منذ فترة طويلة باتجاه موقف أطلسي موحد وحازم تجاه الصين التي كانت مقاربة العلاقات معها موضع انقسام كبير داخل الحلف، حيث تراهن فرنسا وألمانيا على موقف براغماتي يحول دون توسيع دائرة الاهتمامات العسكرية الأطلسية، ويحافظ على العلاقات التجارية والاقتصادية مع الصين.
وفيما لا يزال الاتحاد الأوروبي يواجه صعوبة في المفاضلة بين المقاربات المتشددة والمتساهلة للعلاقات مع الصين، يبدأ اليوم رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال زيارة رسمية إلى بكين لـ«البحث في سبل التعاون المشترك حول التحديات العالمية الكبرى» كما جاء في بيان صادر عن مكتبه فيما كانت تتوالى الدعوات المطالبة بإلغاء الزيارة احتجاجاً على القمع الذي تواجه به بكين المظاهرات المنددة بسياسة تصفير (كوفيد) وتقييد الحريات، وكان لافتاً في هذا الصدد ما أدلى به مطلع هذا الأسبوع رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك خلال عرض رؤيته للسياسة الدولية واستراتيجية حكومته من التحدي الصيني، حيث قال إن العهد الذهبي في العلاقات مع بكين قد ولّى «لأن الصين التي تشكّل تحدياً منهجياً لقيمنا ومصالحنا، وهو تحد يتنامى مع جنوحها نحو المزيد من الاستبداد، اختارت قمع احتجاجات المواطنين بالعنف، عوضاً عن الإصغاء إليهم والحوار معهم». وتدعو الوثيقة التي أقرها اجتماع «الناتو» الدول الأعضاء إلى زيادة مراقبتها ليس فقط للتمدد العسكري الصيني، بل أيضا لاستخدامها القوة التكنولوجية والاقتصادية من أجل توسيع دائرة نفوذها وتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
وتذكّر بأن الغرب ما زال يعتمد بنسبة عالية على سلاسل الإمدادات الصينية، بما فيها المعادن النادرة، في العديد من المجالات الصناعية الحيوية. يضاف إلى ذلك أن استخدام الصين لرصيدها النقدي الهائل كذراع سياسية تكاد تستحيل منافستها في الظروف الراهنة «يشكّل تهديداً بعيد الأثر على المصالح الغربية» كما قال الأمين العام للحلف، مضيفاً «سنستمر في التواصل التجاري والاقتصادي مع الصين، لكن يجب أن نكون مدركين لخطورة اعتمادنا على المصادر الخارجية وضرورة مواجهة المخاطر بمواقف موحدة».
«الناتو»... العين على روسيا والهاجس في الصين
واشنطن تدفع منذ فترة طويلة باتجاه موقف أطلسي حازم تجاه بكين
«الناتو»... العين على روسيا والهاجس في الصين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة