أزمة ديون تخنق الإعلام الجزائري

الصحف والمجلات الفرنكوفونية في محنة... و{فيسبوك} يتصدر وسائل التواصل

قنوات البث الإخباري سرحت أكثر من 100 موظف
قنوات البث الإخباري سرحت أكثر من 100 موظف
TT

أزمة ديون تخنق الإعلام الجزائري

قنوات البث الإخباري سرحت أكثر من 100 موظف
قنوات البث الإخباري سرحت أكثر من 100 موظف

للمرة الأولى منذ إقرار التعدد الإعلامي في الجزائر عام 1990، يشهد الإعلام المستقل المكتوب والسمعي البصري أصعب أزماته. فالعديد من وسائل الإعلام المطبوع تختفي من الساحة بعدما كانت تسجل أرقاما قياسية في السحب (أو المبيعات)، أما البقية فهي تصارع من أجل الصمود وسط أزمة ديون خانقة وتراجع مصادر الإشهار (الإعلانات) التي كانت تضمن لها جزءا كبيرا من المداخيل.

محنة الصحف الفرنكوفونية

وضعية التأزم الراهنة طالت كل المنشورات، على أن آثار الأزمة ظهرت جليةً وبشكل مكثّف على الصحافة الفرنكوفونية التي تقلّص حجمها لتمثل اليوم أقل من ثلث منشورات البلاد بعدما كانت تحتل نصف الساحة الإعلامية متساويةً مع الصحافة المعرّبة. ولقد نقل موقع «سلات» في طبعته الفرنسية أن أكثر من أربعين منشورة ناطقة بالفرنسية قد اختفت تدريجياً من الساحة الإعلامية منذ 1990، بعضها كان يتمتع برواج كبير مثل «ألجيري أكتواليتيه» و«لو ماتان» و«لوكوتيديان دالجيري» و«ناسيون» و«لا تربون». أما آخر صحيفة فرنكوفونية اختفت من الأكشاك كانت يومية «ليبيرتيه» التي توقفت عن الصدور وسط ذهول عام بعد ثلاثين سنة من النشاط خلال أبريل (نيسان) الماضي بقرار من مالكها رجل الأعمال الجزائري يسعد ربراب.

قنوات البث الإخباري سرحت أكثر من 100 موظف

ربراب برّر قرار الإغلاق «بالمصاعب الاقتصادية التي لم تتح للصحيفة إلا مهلة قصيرة...». وفي مقال بعنوان «وقت عصيب للصحافة الجزائرية الناطقة بالفرنسية» كشف موقع «سلات» الإخباري أن تداول الصحافة الفرنكوفونية في الجزائر قد انخفض بنسبة 50 في المائة إلى 60 في المائة في غضون بضع سنوات، وأن هناك الآن فقط أربع أو خمس صحف يومية تصل إلى طبع 100 ألف نسخة حالياً، بينما كان العدد أكثر من عشرين صحيفة في 2017.
الموقع أشار أيضاً إلى العلاقة بين تراجع «لغة موليير» في الجزائر والوضعية الراهنة للصحافة الناطقة بالفرنسية، التي شهدت عصرها الذهبي في حقبة الثمانينات والتسعينات، حين كانت تحتل الصدارة آنذاك، وتحظى برواج كبير قبل أن تعود السلطة السياسية إلى فرض هيمنتها على الصحافة المستقلة. وحقاً، تفاقمت المصاعب المادية وديون بعض المنشورات لدرجة أن معظمها أصبح عاجزاً عن دفع رواتب الموظفين. وهذا هو وضع يومية «الوطن» التي تعد واحدة من أهم صحف الجزائر، غير أنها تواجه اليوم ظروفاً صعبة بعدما انخفضت معدلات السحب فيها من 160 ألف نسخة يومية عام 2012 إلى أقل من 40 ألفا في 2022. ولقد كشفت مصادر مقربة من موقع «توالا إنفو» الإخباري عن أن ديون هذه الصحيفة لدى البنوك وصلت إلى سبعين مليون دينار (ما يعادل 460 ألف يورو) إضافة إلى 26 مليون دينار (107 آلاف يورو) لدى مصالح الضرائب، الأمر الذي جعلها عاجزة عن دفع مستحقات موظفيها، الذين دفعهم هذا الوضع إلى تنظيم إضراب للمطالبة بمؤخر ستة أشهر من المستحقات.

الأزمة أشمل وأعم

في الواقع أوضاع المنشورات الناطقة بالعربية ليست أقل سوءاً، وبالأخص في ظل مشكلة الديون التي باتت تثقل كاهل الصحافة المستقلّة في الجزائر. إذ إن صحيفة «الخبر»، وهي الصحيفة الأكثر قراءة في البلاد بعد «الوطن»، أعلنت هي الأخرى حسب الموقع الإخباري «توالا إنفو» وجود خطّة لإعادة هيكلتها بغرض مواجهة مصاعبها المادية، وهو ما يعني تسريح عشرات الموظفين والصحافيين. وهنا يرجع مراقبو المشهد الإعلامي الجزائري هذه الوضعية المتأزمة بالدرجة الأولى إلى تراجع عائدات الإعلانات التي تعتبر الوكالة الوطنية للنشر والإعلان «لاناب» المُمون الرئيسي لها في الجزائر.
وبالفعل، فإن مشكلة نقص المساحات الإعلانية طالت كل وسائل الإعلام واتخذت أبعاداً مأساوية، وبالأخص، إبّان الأزمة الصحّية (جائحة كوفيد - 19). وازدادت حدةّ بعدها بسبب انهيار النشاطات الاقتصادية والتجارية للمؤسسات، كوكالات بيع السيارات التي كانت توفر في السابق مكاسب إعلانية كبيرة للصحف قبل أن تتوقف بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. وللإشارة أيضاً، فإن المطبعة العمومية تدين المليارات من الدينارات لمعظم الصحف المستقلة علماً بأن أنشطة الطبع والتوزيع والإعلان في الجزائر لا تزال كلها تحت سيطرة القطاع العام.
الباحث والإعلامي نور الدين بسادي يتحدث عن «الخطأ الاستراتيجي» الذي ارتكبته هذه الوسائل الإعلامية في اعتمادها الحصري على الإشهار (الإعلان) العمومي، وهو ما تسبب في انهيارها بمجرد توقف هذه العائدات. ويصف بسادي هذه المرحلة بـ«التحول الرقمي الفاشل» للصحافة المكتوبة «التي ضيّعت وقتاً طويلاً قبل أن تُدمج المعطيات الرقمية في استراتيجيتها التنموية... لتشهد، وهي مكّبلة الأيدي، تحوّل القراء نحو شبكات التواصل الاجتماعي الأكثر جاذبية، خاصةً، للأجيال الشّابة». وعلاوة على ذلك فإن التأخير في تعميم عمليات الدفع الإلكتروني في الجزائر لم يسمح لهذه الصحف بالتحرك نحو تسييل محتواها على الشبكة والاستفادة منه ماليا، على سبيل المثال، من خلال عرض إمكانية الاشتراك في الطبعات الرقمية.
الإعلام السمعي البصري، هو الآخر، لم يسلم من هذه الأزمة الخانقة. ذلك أن قنوات البث الإخباري الأكثر مشاهدة في البلاد كقناة «النهار»، مثلاً، تمرّ بضائقة مالية استلزمت تسريح أكثر من 100 موظف من أصل 300، وتجدر الإشارة هنا إلى أن مجموعة «النهار»، التي تضم قناة إخبارية وصحيفة وموقعاً إلكترونياً، تواجه منذ سنوات مشاكل قضائية بسبب الدعاوى التي رُفعت ضّدها من جهات سياسية وإعلامية وشخصيات عامة، والتي وصلت وفق أحد المواقع الإعلامية إلى أكثر من 200 قضية معظمها بتهمة التشهير.
ثم إن الوضع لا يختلف كثيراً بالنسبة لمنافستها المباشرة «الشروق»، التي تضم صحيفة وثلاث قنوات، والتي تواجه أيضاً منذ أشهر أزمة ديون وصلت حسب الموقع نفسه إلى 2 مليار دينار (10 ملايين دولار أميركي) بعد تأخرها في دفع مستحقات التأمين الصحّي. هذا، ولمّحت مصادر مقربة من إدارة المجموعة التي توظف نحو 500 موظف بين الصحيفة والقنوات الثلاث: «الشروق العامة»، و«الشروق الإخبارية»، و«سي بي سي بنة» - وهي خاصة بالطبخ - إلى أن مشروع التخلي عن قناة «سي بي سي بنة» وقناة «الشروق الإخبارية» وارد في جدول أعمال حملة أسهم المجموعة، وفي المقابل سيصار إلى التركيز على نشاط القناة الترفيهية العامة بهدف التحكم في النفقات.

وسائل التواصل تخترق

وسط هذا الجو المتأزم، تمكنت وسائل التواصل الاجتماعي من اختراق المشهد الإعلامي الجزائري بقوة. واليوم، حسب عدة دراسات يتوجه الجزائريون أكثر فأكثر نحو هذه الوسائل سواءً للحصول على الأخبار التي لا يجدونها عند وسائل الإعلام التقليدية، أو لمجرد التسلية والترفيه. وعلى رأس هذه الوسائل موقع «فيسبوك». إذ كشفت الدراسة السنوية «وي آر ديجيتال» المهتمة باستخدامات الإنترنت في أفريقيا والمغرب العربي عن أن عدد المشتركين الجزائريين «النشطين» في «فيسبوك» وصل يناير (كانون الثاني) 2022 إلى أكثر من 24 مليون مستخدم. وهذه نسبة كبيرة إذا علمنا أنها تمثل أكثر من نصف سكان الجزائر (45 مليون نسمة). ومن جانب آخر، مهمة هذه النسبة إذا ما قورنت بنسبة المشتركين في منصّة «إنستغرام» التي تجمع تسعة ملايين مستخدم ومنصة «تويتر» التي تجذب أقل من مليون مستخدم.
وهكذا، تحتل الجزائر المرتبة الرابعة عربيا، بعد كل من مصر والمملكة العربية السعودية والمغرب. ولقد لاحظ مراقبون لنشاطات الجزائريين على شبكة «فيسبوك» أن الصفحات الرياضية والاجتماعية تأتي في قائمة الاهتمامات الأولية لدى الجزائريين على الشبكة، إضافة للصفحات السياسية. وهذه الحالة تطورت بشكل ملحوظ منذ 2018، حسب تقرير صادر عن معهد «نيو ميديا أكاديمي» في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة بالتعاون مع جامعة أوريغون الأميركية حول وسائل التواصل الاجتماعي في منطقة المغرب العربي. وخلُص التقرير إلى أن استمرار السلطة في سياسة التحكم في قطاع الإعلام بالجزائر هو الذي فتح الأبواب أمام شبكات التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» لتغدو البديل الإعلامي المتاح لفتح أبواب التفاعل، ولا سيما، في الملفات والقضايا التي لا تُناقش في وسائل الإعلام التقليدي.


مقالات ذات صلة

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
إعلام الدوسري أكد أهمية توظيف العمل الإعلامي لدعم القضية الفلسطينية (واس)

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

أكّد سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي أهمية توظيف العمل الإعلامي العربي لدعم قضية فلسطين، والتكاتف لإبراز مخرجات «القمة العربية والإسلامية» في الرياض.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام