الشعر في الشمال المغربي

الموسيقى ليست وحدها ما يميزه

جانب من الأنشطة الشعرية في تطوان
جانب من الأنشطة الشعرية في تطوان
TT

الشعر في الشمال المغربي

جانب من الأنشطة الشعرية في تطوان
جانب من الأنشطة الشعرية في تطوان

اعتاد الشعر العربي في المغرب على العيش منسجماً مع سياقات المشهد الثقافي وعناصره الحية، فضلاً عن تفاعله البناء مع شتى الحساسيات الفنية والإبداعية، ذلك أن الكتابات الشعرية المغربية على اختلاف مراحلها، عبرت دائماً عن تواصلها الثقافي مع روافد التاريخ الإنساني في المنطقة والعالم بصيغ مركبة لكنها ثرية وراسخة... بعض هذه الروافد حملته رياح المشرق إلى فضاء شمال أفريقي متنوع ومنفتح، يحتفي بالثقافات ويفتح قلبه لأسئلة العالم، وبعضها الآخر ينبع من عمق الخصوصيات المحلية مجسداً حالة الكتابة الشعرية الواعية التي تقرأ فيها الذات نفسها من زوايا مختلفة تتحد فيها الغايات وتتكامل، دون أن تفضي بوضوح إلى شيء آخر سوى الشعر. القصد، هو أن الشعر العربي في المغرب بقي في سياق الشمال الثقافي والرمزي مخلصاً لروحه دون أن ينأى بهواجسه عن نبض العالم، ودون أن يبتعد عن بقية الأشكال الأخرى للفن واللغة.
لقد تزينت حدائق الشعر المغربي بقصائد عربية تنضح بسياقات الشمال وتتغنى بمفاتنه وتتساءل عن هويته وقضاياه، وعن رمزياته في الفن والتاريخ... إنها دلالات عالية جعلت الشمال يشكل في ذهنية الشعر وخياله ذلك الفضاء الذي يُقارب هواء المغرب الثقافي بتنوعاته الجمة، ويجعله في حالة من التماهي مع النسمات الأندلسية الدافئة التي حملها الزمن الإيبيري إلى مدن الضفة الأخرى من المتوسط، إنه تماهٍ فني لا يعني انصهار عنصر في العنصر الآخر، بل يمثل قمة التعلق الإيجابي بين حضارتين متناظرتين من حيث الرؤية والمنجز، ليس الصراع وحده هو المهيمن على العلاقة بينهما، وليس الشعر بعيداً عن قراءة جماليات العلاقة ومساجلتها.
لم يكن الشعر المغربي، وهو يحتفي برمزيات الشمال، بعيداً عن ذلك المد النفسي الذي يغلب عليه الحنين، في نوستالجيا شعرية تعانق زمن الوصل القديم بكثير من حساسية الشعر، فلطالما تعلقت أفئدة العرب بالأندلس، والمغرب في هذا السياق النفسي الخاص كان هو حلقة الوصل الأكثر بروزاً في المشهد. لقد عبّر الشعر المغربي عن هذا الدور واحتفى به وأرّخه لغةً وموسيقى وقصائد مقروءة وأخرى بصرية، أصبحت اليوم جزءاً من مادة فنية متكاملة الروح تقدّمها مؤسسات حديثة تُعنى بالشعر وتعتني به، منها دار الشعر في تطوان، التي جاءت ثمرة تعاونٍ بنّاء بين وزارة الثقافة المغربية ودائرة الثقافة في إمارة الشارقة.
تستضيف الدار على امتداد السنة لقاءات وبرامج وأماسِيَ وندوات، كلها تستضيف الشعر في الفضاء العام، وهذا هو المميز في الفكرة، لقد استطاعت أن تُخرج الشعر إلى الشارع والحدائق والمسارح المفتوحة، وجعلت القصيدة كائناً متنقلاً بين الأجيال، يقرأه الشاعر والباحث والطالب، كما تقرأه ربات البيوت، ويكسر به العمال روتين يومهم الوظيفي الطويل، وفي ورشات تربوية يتعلمه الأطفال في المدارس، ويتدربون على إلقائه بكثير من الزهو الطفولي، كل ذلك ضمن محاولات تسعى بكدّ إلى خلق ثقافة جديدة يصبح فيها الشعر كائناً بديهياً في الحياة الاجتماعية لمدن الشمال المغربي. لقد حدث ذلك من بوابة التقاء الشعر باليوميّ الـمَعِيش، ومن خلال تواصله مع الفنون الأخرى في سعي دؤوب لإضفاء طابع شمالي واضح على مادة الشعر الثقافية التي تُقدّم للجمهور والمشاركين في الفعاليات، ولرواد السياحة الثقافية في الشمال. يمكن القول إن الشعر هنا مغربي شمالي، وهذا هو ما يمكن لأي زائر أن يميزه في أنشطة دار الشعر بتطوان.
هكذا تصبح مواسم القصيدة الشعرية في شمال المغرب معجونة بكلاسيكيات الطرب الأندلسي الذي تعكف على تقديمه فرق تراثية من تطوان وطنجة وأصيلة وشفشاون وباقي ربوع الشمال المغربي، لا يكتمل مشهد الشعر في أي أمسية إلا والموسيقى تملأ بصداها فضاء المسرح فتصل إلى مدى تختلط فيها الأصوات بحكايات الممالك الغراء، يرى الزائر ويندهش من منظر النساء وهن ينشدن مع الفرقة مقاطع طويلة من قصائد أندلسية خالدة تتغنى بزمن الوصل القديم في الأندلس... إنه مشهد لا يُرى إلا في الشمال. وفي مدينة تطوان مثلاً، أصبح للشعر سياقه المسرحي عالي الحساسية، والذي لا يستقيم العرض الشعري من دونه، قبل بضعة أسابيع اختُتِمَت فعاليات مهرجان الشعراء المغاربة في تطوان، وقد عملت دار الشعر هناك على اختيار فضاء مسرحي بديع يليق بالطابع الأندلسي القريب من روح أوروبا، فاختارت «سينما إسبانيول» الذي احتضن أكثر من ألف متابع للشعر جاء ولم يغادر إلا بعد انتهاء الأمسية الافتتاحية، إنه عدد يعيد إلى الأذهان سؤال أزمة المتلقي في الأنشطة الثقافية التي تُعنى بالشعر، أي دور يمكن أن يلعبه اختيار المسرح وحضور الموسيقى وتماهي الشعر مع جماليات العناصر الفنية الأخرى في محاولات الخروج من أزمة العزلة الجماهيرية للشعر في عالمنا؟
نفس الأمر يحدث طوال السنة في دار الصنائع والفنون بتطوان، حيث الشعر ونغمات الموسيقى الأندلسية، وحيث الجمهور الغفير، لكن قد لا يكون توصيفنا هنا للحالةِ دقيقاً إنْ نحن نظرنا إلى أهمية الطابع الشمالي للشعر في المغرب من زاوية الجماهيرية وحضور المتلقي كمّاً، فالأمر ليس كذلك، إنه يتجاوز هذا الحد إلى مستوى معقول من النجاح في خلق تفاعل نوعي جاد مع المادة الشعرية، وتتجلى مظاهر هذا النجاح في حالة الاستمتاع التي يعبر عنها الجمهور بتلقائية وهو يتفاعل مع ألوان مختلفة من القصائد، فالأمر بعيد تماماً عن التهليل العام لأبيات منبرية لا تُقراُ عادة إلا في المناسبات، كما أن الأمر لا يتعلق مطلقاً بأسماء معينة تُستدعى كي تجذب الجمهور بوهج حضورها النادر، بل إن جوهر الفكرة بقي هو إضفاء نوع من الرمزية الثقافية للشمال في مادة الشعر المقدمة لغةً وعرضاً، ويمكن أن نجمل كل وصفنا للمشهد في كلمة واحدة، هي الاستمتاع، الاستمتاع بالشعر.
الموسيقى ليست وحدها ما يميز الشعر المغربي في الشمال، فهنالك قصائد بصرية أصبح حضورها عادة مرسخة في كل فعاليات دار الشعر بتطوان، إذ تُستضاف قصائد الشعراء في لوحات حرة تتحول عبرها من حالة اللغة إلى حالة التشكيل، بألوان وحروف يحافظ فيها الشعر على حضوره متنقلاً من الكتابة إلى الرسم، عبر هذا النوع الآخر من التفاعل، والذي لا يحضر إلا شمال المغرب، يتواصل الشعراء بالفنانين التشكيليين ويتعرفون على بعضهم البعض، فتخرج إلى العلن مشاريع ورؤى تزاوج بين روح الشعر وأدوات الرسم، مساهمةً في خلق نوع آخر من الجسور بين الأشكال الفنية، ومشكلةً بدلالاتها حضوراً مميزاً لرمزيات الشمال في الشعر المغربي الذي يبدو اليوم عنواناً للثقافة في تطوان، كما في أصيلة وفي غيرها من المدن التي جعلت ضفاف المتوسط الجنوبية تنضح بروح الشعر من جديد.

- شاعر وكاتب من المغرب


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

أفلام مصرية وسعودية للعرض بموسم «رأس السنة» بعد جولتها بالمهرجانات

أحمد مالك وكامل الباشا في فيلم «كولونيا» (الشركة المنتجة)
أحمد مالك وكامل الباشا في فيلم «كولونيا» (الشركة المنتجة)
TT

أفلام مصرية وسعودية للعرض بموسم «رأس السنة» بعد جولتها بالمهرجانات

أحمد مالك وكامل الباشا في فيلم «كولونيا» (الشركة المنتجة)
أحمد مالك وكامل الباشا في فيلم «كولونيا» (الشركة المنتجة)

يشهد موسم رأس السنة انتعاشة في دور العرض السينمائية، من خلال طرح أفلام مصرية وسعودية للجمهور بعد مشاركات متعددة لهذه الأفلام في مهرجانات دولية، وحصول بعضها على جوائز مهمة، ومن بينها الفيلمان المصريان «كولونيا» و«جوازة ولا جنازة» اللذان ينطلق عرضهما التجاري 7 يناير (كانون الثاني) 2026، ويعرضان عربياً في 14 يناير، والفيلم السعودي «هجرة» الذي يبدأ عرضه في السينمات السعودية 8 يناير، والفيلم البريطاني «العملاق» من بطولة أمير المصري، ويبدأ عرضه عربياً في 14 من الشهر نفسه.

فيلم «كولونيا» أو «My Father’s Scent» من بطولة أحمد مالك والفنان الفلسطيني كامل الباشا ومايان السيد، ومن إخراج محمد صيام. وتدور أحداثه خلال ليلة واحدة تشهد مواجهات حادة بين أب وابنه، يستعيدان فيها خلافاتهما وذكرياتهما السيئة وحالة الكراهية التي تظلل علاقتهما. ويتواصل الحوار بينهما في حدة تكشف عن سوء فهم لمواقف بينهما، فتتراجع حالة الجفاء إلى صداقة في مشاهد إنسانية تستعيد العلاقة بين الأب وابنه.

وحاز الفيلم عدة جوائز، من بينها الجائزة الكبرى لمهرجان «سينيماميد» ببروكسل، وجائزة «سينيوروبا» من المهرجان نفسه، وجائزة الجمهور من مهرجان «البحر الأحمر السينمائي»، وأفضل تصميم إنتاج من مهرجان «قرطاج»، وجائزة أفضل ممثل لأحمد مالك بـ«الجونة السينمائي»، وكان قد حاز مشروع الفيلم 5 جوائز من ورشة «فاينال كت» في مهرجان «فينيسيا» خلال دورته قبل الماضية، و4 جوائز من مهرجان «القاهرة السينمائي» 2024 لمرحلة ما بعد الإنتاج.

الفنان نواف الظفيري في فيلم «هجرة» (الشركة المنتجة)

أما الفيلم السعودي «هجرة» للمخرجة شهد أمين، فقد شهد عرضه العالمي الأول بمهرجان «فينيسيا السينمائي» خلال دورته الماضية، وفاز بجائزة «NETPAC» بوصفه أفضل فيلم آسيوي.

كما حاز جائزتين في الدورة الخامسة لمهرجان «البحر الأحمر»، وهما جائزة «اليسر الذهبية» من لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة وجائزة «فيلم العُلا» لأفضل فيلم سعودي بتصويت الجمهور، كما توّج بجائزتي أفضل صورة لمدير التصوير «Miguel LOANN Littin»، وأفضل ممثل لنواف الظفيري في ختام الدورة الـ36 لمهرجان قرطاج.

تدور أحداث فيلم هجرة من خلال جدة وحفيدتيها، تسافرن من الطائف إلى مكة، وعندما تختفي الحفيدة الكبرى تسافر الجدة وحفيدتها الصغرى شمالاً للبحث عنها، وتسلط رحلتهما الضوء على الروابط الثقافية والعمرية العميقة بين النساء السعوديات على خلفية موسم الحج، حيث تعكس رحلتهن ثقل تراث بأكمله، وتقدم نظرة عاطفية قوية وثاقبة حول الهوية عبر الغوص العميق في التراث الثقافي للأمة، وصُوِّر الفيلم في 8 مدن سعودية. وهو من بطولة خيرية نظمي، ولمار قادن، ونواف الظفيري، ورغد بخاري، وعبد السلام الحويطي. ومن إخراج وكتابة شهد أمين، وإنتاج كل من السعودية والعراق ومصر وبريطانيا.

وشارك فيلم «جوازة ولا جنازة» في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» خلال دورته الخامسة ضمن قسم «روائع عربية»، وهو من بطولة نيللي كريم، وشريف سلامة، ولبلبة، والفنان اللبناني عادل كرم، وهو أول أفلام المخرجة الفلسطينية أميرة دياب التي كتبت الفيلم مع دينا ماهر، ويعرض لفكرة التفاوت الطبقي. وتدور أحداثه في إطار اجتماعي كوميدي من خلال عائلتين لا يجمع بينهما سوى صلة نسب، تُجبران على قضاء 7 أيام معاً استعداداً لحفل زواج فخم يجمع نجليهما.

نيللي كريم وشريف سلامة بالملصق الترويجي للفيلم (الشركة المنتجة)

ويرى محمد صيام، مخرج فيلم «كولونيا» أن العرض بالمهرجانات قد جعله يشعر أن الفيلم لامس الناس بالفعل، ليس أعضاء لجان التحكيم والنقاد فقط، قائلاً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «كنت أرى في لحظة واحدة صمتاً في القاعة، ثم التنفس الجماعي أو البكاء بعد نهاية الفيلم، وهناك من يضحك في مشاهد، ويصمت فجأة في مشاهد أخرى».

ويلفت صيام إلى أن جائزة الجمهور التي حازها الفيلم في مهرجان «البحر الأحمر» كانت تأكيداً على أن الحكاية قريبة من الناس، وأن المشاعر التي عكسها الفيلم مفهومة ولا تحتاج لشرح أو خلفية ثقافية معينة، رافضاً مصطلح «أفلام مهرجانات» لأنه يضع الفيلم في خانة ضيقة، كما لو كان موجّهاً لفئة معينة، وليس للناس كلها، مشيراً إلى أن «الجوائز والمهرجانات قد تكون بوابة، لكنها ليست بديلاً عن الجمهور»، واصفاً فيلمه «كولونيا» بأنه «عمل قريب من الناس وقصة تحدث في كل بيت، وكل منا مرّ بها في لحظة ما».

وكان فيلم العملاق «Giant» قد افتتح الدورة الفائتة لمهرجان «البحر الأحمر السينمائي»، وهو من إنتاج بريطانيا، وإخراج روان أثالي، ومن بطولة بيرس بروسنان، وأمير المصري، وكاثرين داو، وعلي وغيث صالح، ويروي الفيلم القصة الملهمة لسيرة الملاكم الأسطوري اليمني البريطاني نسيم نازحميد وعلاقته بمدربه الآيرلندي بريندان إنغل، وكيف صعد نسيم من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش وصولاً إلى تتويجه بطلاً للعالم.

وحاز الفيلم اهتماماً لافتاً في «البحر الأحمر»، وتُوّج الفنان أمير المصري خلال فعاليات المهرجان بجائزة «فارايتي» الدولية للممثل الرائد لعام 2025، وذكر في حديث لـ«الشرق الأوسط» أنه يتطلع للعرض الجماهيري بعدما قوبل الفيلم بحفاوة كبيرة في عرضه الشرق أوسطي الأول بالمملكة.

ويرى الناقد السعودي أحمد العياد أن «المهرجانات لا تمنح ضماناً جماهيرياً ولا تكتب شهادة نجاح مسبقة لأي فيلم، لكنها تمنح فرصة للمشاهدة، للاختبار الأول والاحتكاك النقدي ولخلق سمعة أولية»، قائلاً في تعليق لـ«الشرق الأوسط»: «يظل دائماً لشباك التذاكر منطقه الخاص، فالجمهور لا يشتري تذكرة لأنه قرأ أن الفيلم شارك في مهرجان، بل لأنه شعر أن الفيلم يعنيه، فقد تمهّد المهرجانات طريق الفيلم وقد لا تفعل ذلك».

ويرى العياد أن مصطلح «أفلام المهرجانات» ليس مصطلحاً سلبياً، لأن هناك أفلاماً تهتم بالتجريب واللغة السينمائية والمخاطرة الجمالية، وهذه الأفلام تجد في المهرجانات بيئتها الطبيعية الأولى، ليس لأنها «نخبوية»، بل «لأنها تحتاج سياق مشاهدة ومناقشة مختلفاً عن سياق العرض الجماهيري».


«المجهولة»… فيلم سعودي يطرق عوالم خفية ويواصل حضوره العالمي في دور السينما

أبطال الفيلم السعودي «المجهولة» في ليلة العرض الخاص بالرياض (روتانا)
أبطال الفيلم السعودي «المجهولة» في ليلة العرض الخاص بالرياض (روتانا)
TT

«المجهولة»… فيلم سعودي يطرق عوالم خفية ويواصل حضوره العالمي في دور السينما

أبطال الفيلم السعودي «المجهولة» في ليلة العرض الخاص بالرياض (روتانا)
أبطال الفيلم السعودي «المجهولة» في ليلة العرض الخاص بالرياض (روتانا)

تنطلق عروض الفيلم السعودي «المجهولة» تجارياً في دور السينما السعودية ودول الخليج، ابتداءً من أول أيام يناير (كانون الثاني) 2026، وذلك بعد العرض الخاص الذي أقامته «روتانا ستوديوز» في «فوكس سينما» بواجهة روشن بالرياض، الاثنين، بحضور صناع العمل وعدد من الإعلاميين والنقاد.

ويأتي عرض الفيلم بعد مشاركته العالمية الأولى في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي، إلى جانب مشاركاته في مهرجان زيورخ السينمائي ومهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، في حضور يؤكد تطور السينما السعودية وقدرتها على المنافسة في المحافل الدولية.

ووصفت الممثلة السعودية ميلا الزهراني، بطلة الفيلم، مشاركتها في «المجهولة» بأنها من أهم التجارب في مسيرتها الفنية، مؤكدة في حديث مع «الشرق الأوسط»، أن العمل مختلف عما قدّمته سابقاً، وقالت: «هذا الفيلم يكشف جانباً جديداً من شخصيتي كممثلة، ومنذ قراءتي الأولى للنص شعرت أنني أمام تجربة استثنائية وسعيدة باختيارهم لي، خاصة أن هذا هو التعاون الثاني مع المخرجة هيفاء منصور، التي أشعر بأن العمل بجوارها مختلف، فهي تثق بي كممثلة، وأتمنى أن يلمس الجمهور هذا الاختلاف».

أبطال الفيلم السعودي «المجهولة» في ليلة العرض الخاص بالرياض (روتانا)

من جهته، علّق الممثل السعودي عزيز الغرباوي، الذي يلعب دور ملازم، أن الشخصية علمته الكثير عن الانضباط والدقة، بدءاً من ارتداء البدلة العسكرية، ووصولاً إلى لغة الجسد وطريقة الوقوف واختيار الكلمات. وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «في البداية، كنت متوتراً، لكنني وافقت على العمل فور علمي أن المخرجة هي هيفاء المنصور، وأرى أن التعاون مع ميلا وبقية فريق العمل كان رائعاً، وأتمنى أن يستمتع المشاهدون بالفيلم، ويتفاعلوا مع رسالته».

ويمنح الفيلم نموذجاً متقدماً لتوظيف الابتكار في الإنتاج السينمائي، وذلك من خلال استخدام أحدث تقنيات التصوير وأساليب السرد البصري، وقد تم تصويره بالكامل في السعودية، وهو من تأليف وإخراج هيفاء المنصور، وبطولة ميلا الزهراني، انتصار، شافي الحارثي، مشعل المطيري، فاطمة الشريف. وتدور أحداث «المجهولة» في إطار من التشويق والإثارة والبعد الإنساني، حول شخصية نوال السفّان، المهتمة بعالم الجرائم الحقيقية، التي تسعى لكشف هوية جثة فتاة مراهقة عُثر عليها في الصحراء، لتجد نفسها أمام لغز معقد داخل مجتمع تقليدي.

ويعدّ الفيلم من إنتاج «روتانا ستوديوز»، التابعة لمجموعة «روتانا ميديا»، بالشراكة مع مؤسسة المنصور، وبالتعاون مع مبادرة ضوء، وهيئة الأفلام السعودية، والصندوق الثقافي، فيما تتولى توزيعه شركة قنوات، الموزع لمجموعة من أنجح الأفلام في شباك التذاكر السعودي والخليجي.


الفيلم الكندي «ذروة كلّ شيء»... تجربة سينمائية من رحم العزلة

عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً في القاهرة السينمائي (الشركة المنتجة)
عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً في القاهرة السينمائي (الشركة المنتجة)
TT

الفيلم الكندي «ذروة كلّ شيء»... تجربة سينمائية من رحم العزلة

عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً في القاهرة السينمائي (الشركة المنتجة)
عرض الفيلم للمرة الأولى عربياً في القاهرة السينمائي (الشركة المنتجة)

لم تكن المحرجة الكندية آن إموند تتوقّع أن تقودها عزلتها خلال جائحة «كورونا» في 2020 إلى كتابة ما تصفه بأنه «أكثر أفلامها حميمية وقلقاً» في آنٍ واحد، وهو «ذروة كلّ شيء»، الذي عرض للمرة الأولى في منطقة الشرق الأوسط، ضمن فعاليات الدورة الـ46 من مهرجان «القاهرة السينمائي الدولي».

تصف المخرجة الكندية آن إموند لـ«الشرق الأوسط» هذه الفترة من حياتها قائلة: «كانت الأيام تمتدّ طويلة وثقيلة في شتاء مونتريال القارس؛ حيث وصلت الحرارة إلى 35 درجة تحت الصفر، في حين كنتُ محاصرة بالوحدة، أستمع إلى أصوات العلماء عبر (البودكاست)، وأقرأ بشراهة عن تغيّر المناخ، وكأن العالم الذي كان ينهار ببطءٍ خارج النافذة قد انتقل ليستقر داخل روحي».

وتؤكد أنها للمرة الأولى شعرت بالخوف الشخصي، لا المعلوماتي، من المستقبل، بعدما اكتشفت فجأة أن قلق الكوكب هو قلقها، وأن هشاشة الأرض انعكاسٌ لهشاشة داخلية كانت تتشكّل دون أن تنتبه لها، مشيرة إلى أنها «في إحدى تلك الأيام الثقيلة صادفت صديقاً في الشارع، ولم يستغرق حديثهما سوى دقائق، لكنها خرجت منه باكية من تراكم ذلك الإحساس».

يناقش الفيلم تداعيات التغيرات المناخية (الشركة المنتجة)

وأضافت أنها حين بدأت تحويل هذه المشاعر إلى فيلم أرادت منذ اللحظة الأولى أن تكتب بحرية كاملة، فجاء الفيلم «فوضوياً وغريباً» كما تصفه لكونه ينحرف عن السرد المعتاد، ويمشي خلف بطله في مغامرة غير متوقّعة، تماماً كما كان عقلها وقت الكتابة، ممتلئاً بالأسئلة، ثقيلاً بالقلق، مفتوحاً على احتمالات لا تنتهي، لكنها لم تتوقّع مطلقاً أن يُثير الفيلم ردود فعل متباينة إلى هذا الحد.

يروي فيلم «ذروة كلّ شيء» يوماً في حياة «آدم»، وهو رجل يعاني توتراً نفسياً متصاعداً ينعكس على علاقاته وسلوكه اليومي، في حين تتداخل حوله مؤشرات تغيّر المناخ والكوارث البيئية التي تزيد شعوره بالاختناق. يتنقّل «آدم» بين محاولات فهم مشاعره والتعامل مع ضغوط العمل والمدينة، قبل أن يدخل علاقة عاطفية تمنحه شيئاً من الاستقرار المؤقت، ومع تصاعد الأحداث يتعامل الفيلم مع حساسيته المفرطة وتردده وخوفه من المستقبل بوصفه جزءاً من واقعه.

المخرجة الكندية آن إموند (الشركة المنتجة)

وتشير آن إموند إلى أنها فوجئت بأناس أحبّوه بعمق، وآخرين غضبوا منه، وكأن هشاشة بطله استفزّت عالماً يزداد قسوة وعنفاً يوماً بعد يوم، فكانت تندهش حين تسمع أن البعض وجد الشخصية «حسّاسة أكثر مما يجب»، لكنها ترى أن الحساسية في زمن كهذا ليست ضعفاً، بل مرآة للحقيقة.

وعن اختيارها الممثل باتريك هيفون، تقول إن الجمهور في مونتريال يعرفه دائماً في أدوار الرجل الواثق، الجذّاب، القوي. لكنها أرادت شيئاً آخر، فهي تعرفه شخصياً، وتؤكد أنه أقرب في الحقيقة إلى شخصية «آدم» التي قدّمها في الفيلم فهو حسّاس، قلق، متشابك التفكير، ورأت أن كشف هذا الجانب الخفي منه سيكون فرصة لعرض صورة جديدة عن الرجل الذي لا يخشى الاعتراف بضعفه.

وتشرح أنها حين بدأت التصوير كانت تعرف أنها تتعامل مع موضوعات شديدة القتامة، على غرار تغيّر المناخ، والضغط النفسي، وكيف تحوّل الرأسمالية كل شيء إلى سلعة، بالإضافة إلى الحزن نفسه الموجود في الفيلم، لافتة إلى أنها حاولت في الفيلم أن تفتح نافذة صغيرة للضوء، شيئاً من الحب والدفء، كي لا يخرج المشاهد محمّلاً بظلمة العالم وحدها.

أما على مستوى الإنتاج، فتضحك حين تتذكر حجم التحديات؛ فرغم أنهم لم يمتلكوا ميزانية كافية، فإن وجود الكلاب والكوارث الطبيعية في الفيلم رفع التكلفة على نحو لم يكن من السهل التعامل معه. ومع ذلك، كان التصوير بالنسبة لها تجربة مليئة بالمحبة، لأن كل فرد في الفريق كان يؤمن بالفيلم، ويقاتل من أجله، وخرج بالصورة التي شاهدها الجمهور وتفاعل معها خصوصاً مع عرضه العالمي الأول في النسخة الماضية من مهرجان «كان» السينمائي.

نال الفيلم ردود فعل متباينة (الشركة المنتجة)

وتقول المخرجة الكندية إنها لم تتوقع مشاركة فيلمها في «كان»، فكانت تظن أنه، بصفته كوميديا رومانسية متخفّفة، لن يجد مكاناً في مهرجان يميل عادةً إلى الأعمال السياسية الثقيلة، لكنها تؤمن بأن الفيلم سياسي بطريقته، وأن أسئلته عن المناخ والرأسمالية والصحة النفسية ليست على هامش العصر بل في مركزه، ومع ذلك، لم يكن في بالها أن يجد الفيلم هذا الصدى العالمي، وأن يبدأ جولته مع المهرجانات العالمية من فرنسا وصولاً إلى «القاهرة السينمائي».

وعن مشروعها المقبل، تقول إنها بدأت فعلاً كتابة فيلم جديد، لا علاقة له بتغيّر المناخ ولا بالاكتئاب، بل هو أقرب إلى قصة حب ثلاثية. لكنها تؤمن الآن بأنها لا تستطيع أن تصنع فيلماً «منفصلاً عن العالم»، وأن أي قصة حتى لو كانت عاطفية بحتة لا بد أن تعترف بما يحدث على كوكب الأرض من تغيّرات مناخية لا يمكن تجاهلها، كما تقول.