عندما كتبت الفنانة والشاعرة العالمية إيتيل عدنان قصيدتها «صباح ما بعد وفاتي»، لم يدُر بخلدها أنها حين ترحل ستتحوّل نصوصها عناوين لمعارض فنيّة، وهو ما حدث في حي جميل بمدينة جدة، حيث افتتح هذا الأسبوع معرض «ترجف الجبال شوقاً»، الذي يستمر إلى نهاية شهر أبريل (نيسان) المقبل، وهو عنوان مستوحى من قصيدة الشاعرة اللبنانية - الأميركية الراحلة.
تتحدث روتانا شاكر، القيّم الفني للمعرض، لـ«الشرق الأوسط»، مبينة، أنه يستلهم من نص إيتيل عدنان الذي قالت فيه «تغير لون القمر... وارتجفت الجبال بعد السحر... شوقاً يغلفه الحنين... ليكتسي البحر بلونين: أزرق بلون الموج الودود، وأزرق بلون الورود». ومن هذا المنطلق، تشير شاكر إلى أن «المعرض الذي يضم مجموعة من الفنانين السعوديين الصاعدين، سبقه عقد حوارات معهم؛ لاستكشاف تفاعلاتهم المتنوعة مع محيطهم دائم التغير».
وتوضح روتانا شاكر، أن الأعمال الفنية المشاركة تدور حول حتمية التغيير، بالتزامن مع ما تمر به المملكة العربية السعودية حالياً من مراحل متلاحقة ومتداخلة، وما تحمله هذه المتغيرات من تقدم وازدهار قادر على إلهام الفنانين، على حد وصفها.
القيّمة الفنية روتانا شاكر
وهذا التعاطي الفني لا يقتصر على التغييرات المجتمعية والثقافية فقط، بل يتضمن أيضاً تطويرات البنية التحتية التي ألقت بظلالها على المشاهد الطبيعية والحضرية في البلاد. وتتابع «يعرض المعرض أعمالاً قائمة وتكليفات فنية جديدة تشمل الأفلام والرسم والتصوير والنحت والتركيب، ليقدم للجمهور لمحة عن الطرق المعاصرة لتواصل الجيل الجديد من الفنانين السعوديين مع العالم من حولهم».
ويلحظ زائر المعرض هذه الأفكار الكثيفة التي يقدمها الفنانون في أعمالهم ويستكشفون خلالها كل تغيير حدث، سواء كان تغييراً مجتمعياً، أو سياسياً، أو ثقافياً، أو بيئياً، أو حتى شخصياً، في المعرض الذي يشارك فيه كل من: علياء أحمد، وعبد المحسن آل بن علي، ومحمد الفرج، وبدر علي، وزهرة بندقجي، وبشائر هوساوي، وآلاء طرابزوني وفهد بن نايف.
المناخ... سأفتقدك
يتوقف زائر المعرض طويلاً أمام العمل «المناخ، سأفتقدك» لكلٍ من آلاء طرابزوني وفهد بن نايف، وهو عمل فني يتتبع خلاله الفنانان منهجاً وثائقياً لتصوير المناظر الطبيعية المعاصرة؛ إذ يسجلان ويجمعان مواد من حي المناخ في ضواحي الرياض، حيث تقع شركة إسمنت اليمامة السعودية والمجتمع المحيط بها.
وفي هذا العمل الفني، تُسجل وتُدون شبكات الصور والمواد التفصيلية المكتشفة للموقع، ويسلط عمل طرابزوني وبن نايف الضوء على مثل هذه المناظر الطبيعية المحيطية غير المرئية غالباً، والتي نستعين بها للحفاظ على تطوير المراكز الحضرية المتألقة. إذ يلمح المتلقي كيف تتجاور صور محجر الإسمنت مع صور المصنع ذاته، وتتخللها مجموعة مفهرسة من المواد المستوحاة من البيئة المحيطة. ويوضح الفنانان أنهما وجدا أثناء توثيقهما المشهد الطبيعي للمنطقة المحيطة بالمحجر والمصنع، أنه رغم قسوة أحوال وظروف المنطقة، فإنها تتمتع بنظام بيئي مميز خاص بها، لا يقتصر تكوينه على الأفراد العاملين بها والمنتجات المصنعة المبعثرة هنا وهناك فقط، بل يشمل أيضاً النباتات والحيوانات التي تنمو في هذه البيئة على نحو غير متوقع.
تغيرات الجيولوجيا السعودية تنطق بصورة فنية
سحر الذاكرة
الفنانة بشاير هوساوي تستكشف بدورها عبر عملها المشارك دورات البناء والهدم وإعادة البناء التي يتسم بها واقع التطوير في العديد من المدن على مستوى العالم، وتتعامل بالأخص مع حالة التغير المستمر في المشهد الحضري بجدة، وتستلهم أفكارها من ذكريات منزلها القديم والأحياء المحيطة به.
تقدم هوساوي «سحر الذاكرة»، وهو عمل تستخدم فيه الطوب الجديد والقديم في إعداد دراسات نحتية تطرقت فيها لذكريات الماضي وبناء المستقبل في محاولة للحفاظ على الذكريات وإعادة تصورها، وتوحي بعض تشكيلاتها بشخصيات بشرية استلهمتها من ذكرياتها بالحي الذي كانت تسكنه في الماضي. في حين جاء البعض الآخر بمثابة أشكال مجردة لم تتمكن من الحفاظ على توازنها كثيراً، كشظايا الطوب الصغيرة التي تطفو برقة بين أشكال متعرجة بالكاد تلامس بعضها بعضاً.
المسارات المتقاطعة
أما الفنانة زهرة بندقجي، فتشارك بالعمل «المسارات المتقاطعة»، وهي سلسلة مستمرة من الصور الفوتوغرافية التي توثق جولاتها في أحياء جدة وحولها. وكانت قد بدأت السلسلة في عام 2009، قبل أن يُسمح للمرأة بقيادة السيارات في السعودية، وتستمر حتى يومنا هذا. وتصور تلك الصور العاطفية والتي تبدو خالية من أي مشاهد مؤذية، وتغلب عليها روح الدعابة أحياناً، تجربة اختيار المشي في مدينة صممت شوارعها خصيصاً للسيارات؛ وتطرح أسئلة حول سبل التنقل والوصول داخل المشهد الحضري، وكيف يمكن لعوامل مثل الطبقة الاجتماعية والنوع الاجتماعي أن تقوم بدور الوسيط في علاقتنا بالبيئات التي نعيش فيها.
في تلك الصور، تبدأ الأرصفة وتنتهي فجأة؛ تقف بندقجي مرتدية عباءة أمام شجرة تعيق طريقها. وفي إحدى الصور، وضعت الفنانة إطاراً لصورة ظلها مستخدمة نافذة ترسم إطاراً في الوقت ذاته مشهد الحي الخارجي: وكأنها تسترق النظر إلى المدينة. أما في الصور التي تلتقط تفاصيل المناظر الطبيعية مثل الحصى الحبيبي على الطريق أو زهور الأشجار التي تنمو بمحاذاة الرصيف؛ أصبحنا على دراية بكيفية سرعة السفر ووسيلته، بالسيارة أو سيراً على الأقدام، ما يجعلنا نصادف بنوداً مختلفة في البيئات المحيطة بنا. ما هي الروائح والأصوات والأنسجة الغائبة على طول الطريق؟
مشراق
تقدم الفنانة علياء بنت أحمد عملها «مشراق»، وهي التي تقع لوحاتها في مكان ما بين الواقع والخيال، حيث تصور أماكن من نسج الخيال باستخدام عناصر من الزخارف والإيماءات المستمدة من المناظر الطبيعية المحلية في مدينتها الأم؛ الرياض. في حين يعدّ «مشراق» المصمم على الحرير خروجاً عن أسلوبها المعتاد في رسم لوحاتها على القماش.
ويلحظ المتلقي كيف تستعيد الفنانة المناظر الطبيعية من خيالها وذاكرتها لتصور بها أرض الأحلام، كما يثير منهج علياء الذي يعتمد على الأشكال العضوية غير المتساوية، والحدود الانطباعية، والألوان التي تتداخل مع بعضها، السؤال التالي: ما هي العناصر التي تميز رسومات المناظر الطبيعية وتوجهها؟ وفي هذا العمل، تصبح المناظر الطبيعية اندماجاً للتجارب الحسية للشكل واللون والضوء، وهذه التجارب لا يمكن التعبير عنها أو احتوائها كلياً. وربما تتحدث هذه التجربة الطبيعية التي يصعب فهمها بعض الشيء عن كيفية تعاملنا مع العالم الحقيقي.
نزهة المشتاق في اختراق الآفاق
يهتم الفنان عبد المحسن البين بدراسة العلاقات الإنسانية وإدراك الإنسان للعالم الطبيعي، وقد استوحى عنوان عمله المشارك في المعرض «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» من كتابات رسام الخرائط وعالم الجغرافيا الشهير في القرن الثاني عشر محمد الإدريسي، والذي تضمن كتابه الرحلات الممتعة إلى الأراضي البعيدة، ويعتقد الكثيرون، أن هذا الكتاب يُعدّ واحداً من بين النسخ المرجعية الأكثر دقة في هذا المجال لقرون عدة. ومن هذه النقطة، يسلط الفنان الضوء على محاولات الإنسان المستمرة لتخيل المناظر الطبيعية وقياسها وفهمها وتصويرها، ويركز على هذا الدافع في عمله؛ إذ يصور جبلاً يتقلص حجمه ليدخل في خزان في محاولة لإدارته وملاحظته والسيطرة عليه. ومن خلال هذا المشهد، ينظر الفنان في علاقة الإنسان بالأرض ومحاولاته لفهمها بالكامل، وكذلك رغبته في المطالبة بملكيتها، روحياً وعملياً.
تضاريس
يعتمد الفنان بدر علي على تدريبه الفني الكلاسيكي وعوالمه الداخلية في رسم مناظر طبيعية مدهشة، وكسابق أعماله التي تصور المناظر الطبيعية، تأتي لوحته «تضاريس» مستوحاة كلياً من خياله؛ إذ يستخدم المناظر الطبيعية وعناصرها المختلفة كأدوات لإثارة ردود فعل عاطفية محددة لدى المشاهدين، ويستخدم الضوء والظل لخلق إحساس قوي بالحركة؛ مما يوجه نظر المشاهد إلى قلب اللوحة. وعند تقسيم اللوحة إلى أجزائها التركيبية والتركيز على القوة المعادلة للنطاق واللون والملمس والضوء، يصنع الفنان بعناية مشهداً غامراً يثير الرهبة. إذ يستوحي من الذاكرة والخيال مزيجاً من المرجعيات للفنانين القدماء وتفسيره الخاص للمشهد العقلي والعاطفي. وقد تمكّن بدر علي من الجمع بين التقنية والمخزون العقلي العميق للمراجع التاريخية للفن، وابتكر تفسيراته الخاصة للمناظر الطبيعية الرائعة التي تعمل على إلهام الشعور.
لمحات من الآن
في فيديو مدته 70 دقيقة، جمع الفنان محمد الفرج صوراً من الهاتف المحمول ومن الكاميرا ملتقطة منذ عام 2015 وحتى يومنا هذا ليصور لحظات من الحياة العادية ولحظات من احتفالات في حياة الناس في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية. وتعكس هذه الصور المتدرجة لمحات من الحياة اليومية في كواليس غير متجانسة، تراها في شوارع المدينة أو من عبر النافذة، أو على البحر على طول المناطق الساحلية، أو من فوق جبل يطل على المدينة، أو في حقول الجنوب. وبهذا، يصور الفرج مساحة شاسعة من المناظر الطبيعية ويعرضها عرضاً مفعماً بالحيوية، كما ويأتي هذا العمل الذي أسماه «لمحات من الآن» باعتباره فيلماً وثائقياً شعرياً، تتنقل مشاهده من مكان إلى آخر، ومن لحظة حاضرة إلى لحظة مستقبلية. كما يلتقط صورة آنية للثواني العابرة التي تشكل هذه الفترة من التغيرات التي تطرأ على الناس بوتيرة متسارعة.