تنحدر الكاتبة الأميركية جولي هيل من أصل يوناني، لكنها نشأت وعاشت في مصر، وتحديداً في مدينة الإسكندرية حتى العشرينيات من عمرها قبل أن تتزوج من أحد الدبلوماسيين بالأمم المتحدة وتطوف معه الكثير من بلدان العالم. تتميز مؤلفاتها برؤية مختلفة إلى قضايا الشرق دون الوقوع في فخ الصورة النمطية الجاهزة، وتتراوح كتاباتها غالبا بين اليوميات وأدب الرحلات. من أبرز أعمالها «الحفاظ على الوعد: من أثينا إلى أفغانستان»: «زيارة جديدة إلى طريق الحرير» و«أفغانستان أخرى»، كما يصدر لها قريباً عن المركز القومي للترجمة بمصر «شمس الأصيل: إسكندريتي»، ترجمة غادة جاد.
هنا حوار معها حول تجربتها وشغفها بالكتابة بعد أن تجاوزت الثمانين من العمر
> يحمل مؤلفك الجديد المنتظر صدوره قريباً عنواناً لافتاً، تُرى ما الذي يميز الإسكندرية من منظورك عن «إسكندرية الآخرين«؟
- كُتب الكثير من المؤلفات عن المدينة بالفعل، بعضها حنين إلى الماضي، وبعضها يستند إلى حقائق تاريخية وبعضها علمي، وبعضها يؤكد حب المؤلف للوطن. لكن الكثير منها مفعم بالأسماء والإحصاءات التي لا نهاية لها. كتابي هو مذكرات شخصية تصف حياة فتاة يونانية من الطبقة الوسطى من الإسكندرية في زمن ومكان لم يعودا موجودين. إنه مكتوب في إطار تاريخي واقعي محكم التوثيق، لكن تركيزي لا ينصبّ على التاريخ بحد ذاته بقدر ما ينصب على تأثيره في حياتنا الشخصية. وأنا أتقدم بالشكر للمترجمة غادة جاد على الجهد الذي بذلته في نقل المادة إلى قراء العربية.
> برأيك، ما سر وقوع العديد من الأدباء والشعراء حول العالم في غرام تلك المدينة؟
- امتلكت الإسكندرية الكثير من عوامل الجذب للغرباء، لا سيما أولئك الذين لديهم خيال رومانسي مثل الكتّاب والشعراء. كان هناك «فاروس»، إحدى عجائب الدنيا السبع، والمكتبة العظيمة، مستودع المعرفة في زمانها. وكانت هناك كليوباترا بطبيعة الحال المثيرة للاهتمام، آخر فراعنة مصر. هذه هي الإسكندرية الأسطورية التي يرتبط سحرها وإلهامها بالبحر والشواطئ ولها جمالها المميز الذي ينبثق من جغرافيتها وتاريخها. ذلك السحر سلب لبّ كُتّابٍ، مثل الشاعر الإيطالي «أونجاريتي» ولورانس «داريل» صاحب رباعية الإسكندرية الذي أغفلت أعماله تماماً الأوساط المصرية والعربية؛ لأنه عاش مع الأجانب، لكنها جاءت مستوحاة من التنوع العرقي والديني الذي شهدته الإسكندرية.
> ما الذي يتبقى في ذاكرتك من الثقافة السكندرية بشكل خاص والعربية عموماً؟
- كان لالتحاقي بمدرسة «الليسيه» الفرنسية بتلك المدينة عميق الأثر في نشأتي. لم يقتصر الأمر على تعلم الفرنسية، بل تعرفت على لوحة فسيفساء من البشر من مختلف الجنسيات. أصبحت أقل يونانية وأكثر انتماءً للعالم، وأكثر استعداداً للمسؤوليات التي انتظرتنا أنا وزوجي، حيث انخرط هو في العمل الدبلوماسي كونه ممثلاً للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في مختلف البلدان، وكنت مسؤولة تنفيذية في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية، ومن ثم كنت كثيرة السفر والتعامل مع مختلف الثقافات. أتاح لي الالتحاق بإحدى الجامعات المصرية إقامة علاقات مع زملائي المصريين. كنت محظوظة لأنني عرفت خلفياتهم (كان بعضهم فقيراً جداً وبسيطاً، ولكنه حريص على التعلم)، واحتفالاتهم، ومطبخهم. توطدت أواصر الصداقة معهم، ومنها لا يزال متيناً حتى بعد مرور 65 عاماً.
أعترف بأنني عندما كبرت كنت أجهل تماماً كل ما يتعلق بالثقافة العربية، لا سيما الأفلام والأدب والموسيقى. ولكن بعد ثلاثين عاماً قرأت أعمال نجيب محفوظ وإدوار الخراط. ولكن لم يفت الأوان بعد لإعادة تعزيز ارتباطي بتلك الثقافة واكتشافها مجدداً من خلال الكتب التي أكتبها الآن وأنا في هذا العمر.
> «الحفاظ على الوعد: من أثينا إلى أفغانستان» كان تجربتك الأولى في أدب الرحلات... ما هي أبرز الخلاصات التي يضمها هذا الكتاب؟
- هذا الكتاب الأول يعدّ سيرة ذاتية من جانب، ومن جانب آخر هو عن السفر، حيث تتبع رحلاتي المبكرة مع زوجي الأسترالي «آرثر»، لا سيما الفلبين وتايلند وساموا.
أثبتت الصور الفوتوغرافية أنها أفضل وسائل تجهيز المادة لمقالاتي. ورغم أهمية الملاحظة والمهارات اللغوية، فإن توثيق رحلاتي في موقع الحدث ظل ضرورياً. دوّنت الملاحظات في مفكرة أو على ورقة مجعدة ككلمة مميزة يمكن أن تؤدي لاحقاً إلى مشهد بأكمله. تمثلت الصعوبة الكبرى لدى في وصف الناس، أو خلق حوار. واصلت التركيز على المشاهد والأصوات في رحلتي.
> هناك نظرة نمطية جاهزة عن أفغانستان... هل تتفقين مع هذا الرأي؟
- لا يزال أغلب الناس في الولايات المتحدة لا يعرفون شيئاً عن أفغانستان. لا يمكنهم حتى التعرف عليها على خريطة العالم. وتروّج الغالبية العظمى من وسائل الإعلام الغربية أنها دولة فاشلة، تسودها التفجيرات وسفك الدماء والفوضى والفساد، دون أدنى ذكر لوديانها الخلابة، أو بقايا الحضارات السابقة التي صارت مواقع للتراث العالمي وفق تصنيف اليونيسكو، أو الكنوز الأثرية، أو الحِرف الفريدة، أو الحرية التي يتمتع بها البدو الرحل.
ورغم أن النساء كن ما زلن يتمتعن بالحد الأدنى من حرية العمل والملبس في الجزء الأخير من القرن العشرين، فقد اقتصر الأمر على الطبقة الوسطى في كابول والمدن الكبرى. أما في الريف، فلا تزال النساء يعملن في الحقول، ولا تزال أغلبيتهن حبيسات منازلهن الطينية وفقاً للتقاليد الصارمة. لقد شهدت حالتهن البائسة وصورتها في كتابي الأخير «أفغانستان أخرى».
> كتابك «زيارة جديدة لطريق الحرير» يعدّ رحلة لافتة في التاريخ والجغرافيا. ما الذي خرجت به من هذه الرحلة؟
- سافرت بمحاذاة كثير من دروب طريق الحرير من الصين إلى منغوليا، حيث اشترى الأباطرة الخيول للتجارة والحرب، وعبرت الجمهوريات الآسيوية وإيران، وانتهى بي المطاف في بحر قزوين والبحر الأبيض المتوسط.
كان تحدياً بالنسبة لي ليس فقط لاقتفاء دروب المستكشفين السابقين وزيارة البازارات المفعمة بالحياة، ولكن لمقابلة السكان المحليين ومواجهة الأسئلة غير المألوفة. وكان أكثر ما لاحظت في رحلاتي الكثيرة في تلك المنطقة هو الاحترام الذي يحظى به كبار السن، فضلاً عن المفهوم العالمي لدى الآباء الذي تمثل في السعي لحصول أطفالهم على حياة أفضل. ورغم أن طريق الحرير مغرق بالرومانسية، فإنه لا يزال محفوفاً بالمخاطر والفرص.
> ما مدى إلمامك بالأدب العربي الحديث وحضور هذا الأدب في الثقافة الأميركية؟
- بكل أسف، الأدب العربي غائب في الثقافة الأميركية تماماً، يكاد يكون غير معروف. لم أرَ كاتباً عربياً نُشر عنه مؤخراً في صحيفة «نيويورك تايمز» أو «فاينانشيال تايمز»، ولم أرَ قط ندوة في جامعة كاليفورنيا حول الأدب العربي.
غالباً ما تُنشر أعمال المؤلفين الأفارقة من غانا وزيمبابوي ونيجيريا في صحيفة « فاينانشيال تايمز»، التي اشترك فيها، ومعظمهم يعيشون في لندن. الأمر ذاته فيما يتعلق بالموسيقى؛ إذ إن الفرق الموسيقية الأفريقية تقدم عروضاً موسيقية، لكني لم أرَ قط، حتى في الإعلانات، فرقة موسيقية مصرية أو عربية تقدم عروضاً في كاليفورنيا أو في نيويورك. أما عن معرفتي بالأدب العربي الحديث فهي مبنية على ما تترجمه وتنشره الجامعة الأميركية بالقاهرة، وذلك بفضل صديق يرسل لي فهرسها الشهري للكتب المنشورة. ولكن إذا لم يكن المرء مشتركاً في هذا الفهرس، لا يمكنه الوصول إلى كتالوج مطبعة الجامعة. والقليل الذي أتذكره عبارة عن كتب الرحلات عن الأقصر ومعبد الكرنك والقاهرة في العصور الوسطى، لكن هذه كتب أسفار، وليست أدباً.
> مصرية ويونانية وأميركية. كيف تتعايش تلك المكونات الثلاث بداخلك وهل تعانين مشكلة ما في الهوية؟
- أرفض قطعاً أن أكون أي شيء سوى مواطنة من العالم. لقد عشت فترات طويلة في تسعة بلدان، وزرت للعمل أو المتعة أكثر من 120 بلداً؛ لذلك يمكنني الادعاء أنني أحظى بهذا الامتياز خالطت مختلف الثقافات والعقليات ووصلت إلى قناعة مفادها أن الناس عموماً هم أكثر أهمية من الأمة.
لقد رأيت الكثير من بقاع العالم، وعشت في كثير من العواصم الآسيوية، وسافرت إلى أماكن نائية على ظهر الكوكب، ورأيت الكثير من السواحل الجميلة، وحضرت فعاليات كبرى. ولكن بصورة ما أجدني مشدودة إلى الإسكندرية، تلك المدينة العربية التي كان فيها بيتي وشارعي ومدرستي.
> ما الذي تقرأينه حالياً، وما هي أبرز القضايا التي تشغلك؟
- تقتصر قراءاتي على الأحداث الجارية والمقالات العلمية وما يتم إحرازه من تقدم في المجال الطبي. كذلك أهتم بإعادة قراءة الكلاسيكيات وشعر كفافيس وروايات كازانتزاكيس.
وثمة قضايا كبرى في أميركا أشعر بالحماسة تجاهها ولكنها قد لا تهم القارئ العربي كثيراً. إنها محنة اللاجئين التي تحطم قلبي، وأشعر بالفزع من نفاق الغرب الذي يقبل اللاجئين الأوكرانيين وليس أولئك القادمين من الشرق الأوسط. واللاجئون الفلسطينيون منسيون، والقضية الفلسطينية لا تزال دون حل رغم عقود من النضال والاضطرابات.
> أخيراً، كيف تنظرين إلى تجربتك في الحياة من موقع السادسة والثمانين من العمر؟
- أنا محظوظة للغاية لأني نعمتُ بزيجة ذهبية لمدة 43 عاماً. وكمهاجرة لا تحمل سوى عشرة دولارات في جيبها، مسافرة على متن حافلة «جريهوند» إلى كلية الدراسات العليا، أعتبر نفسي مثالاً على قصة نجاح مهاجر. لقد تمكنت من خلق خمس وثلاثين وظيفة في قسم الاتصالات السلكية واللاسلكية وحصلت على التمويل اللازم لذلك، ومُنحت كرسي أستاذ في الكتابة الإبداعية في جامعة الفلبين، وتمكنت من تخصيص ملايين عدة من الدولارات لأبحاث السرطان في معهد «سكريبس»، حيث يتم التبرع بالعائدات الحالية لكتبي.
ما زلت منفتحة على السفر. أسمع عقارب الساعة تدق باستمرار، لكنني ما زلت مستعدة لخوض مغامرة في أماكن ذات تاريخ ومعنى، واستكشاف الألغاز في داخلي والتي يمكن أن تكون بلا حدود.