قد يكون الانسحاب الروسي أخيرا، من مدينة خيرسون الاستراتيجية في جنوب أوكرانيا، قد شكل نقطة فاصلة عكست توجه موسكو إلى إعادة ترتيب أولوياتها خلال المرحلة المقبلة، ليس فقط على صعيد الحرب المتواصلة منذ تسعة أشهر، بل وفي آليات التعامل الروسي مع المتغيرات التي فرضتها الحرب الأوكرانية على علاقات موسكو بمحيطها القريب وبالعالم من حولها. تزامن التطور مع تسارع التحركات في محيط روسيا وضع هذا الانسحاب في إطار ترتيبات جديدة جارية على المستوى العسكري لتواكب الخطوات الدبلوماسية الروسية. وبصرف النظر عن التحليلات الكثيرة التي برزت في وسائل الإعلام حول تقييم الخطوة الروسية، وما إذا كانت تشكل نكسة جدية وجديدة للكرملين بعد انسحابين من محيط العاصمة كييف ثم من خاركيف في شرق البلاد، أو أنها تهدف إلى التقاط الأنفاس لتنظيم هجوم مضاد يعيد السيطرة على المنطقة التي غدت بالمفهوم القانوني الروسي «جزءا لا يتجزأ من الاتحاد الروسي». في هذا الإطار، بدا أن روسيا «المعزولة» دولياً، مع غياب رئيسها فلاديمير بوتين عن ثلاث قمم عالمية مهمة ومتتالية، منشغلة أكثر برسم ملامح خطواتها المقبلة على وقع التطورات المحيطة، وخصوصاً مع اتضاح نتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، وتوقعات مسار الوضع في أوروبا المقبلة على شتاء صعب تخيم عليه مشاكل نقص واردات الطاقة وتفاقم تداعيات ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم. وكان لافتاً السعي الروسي الحثيث لإظهار حال «الارتباك» و«انعدام التوافق» التي برزت خلال قمة «العشرين» عبر التركيز على اختلاف مواقف بلدان المجموعة إزاء إدانة التصرفات الروسية في أوكرانيا، فضلا عن الحاجة، التي ظهرت، إلى إجراء حوارات مطولة للتوافق على البيان الختامي. أما على المستوى الداخلي الروسي، لا تبدو أولويات الكرملين أقل أهمية، مع تعثر العملية العسكرية على الجبهات، وثبات غالبية خطوط التماس وخرائط السيطرة بشكل تقريبي، بالتوازي مع تعاظم الحاجة إلى فترة زمنية كافية لاستكمال عمليات التدريب والتجهيز لوحدات المتطوعين والملتحقين بالخدمة العسكرية، بعد قرار التعبئة الجزئية الذي حشدت عبره موسكو نحو 300 ألف مقاتل جديد، فضلا عن ضرورات تعويض النقص الحاصل بالمعدات والتقنيات العسكرية.
يبدو أن بدء الانسحاب من مدينة خيرسون مقدمة لتجميد الصراع بشكل مؤقت على أساس الخرائط القائمة حالياً في أوكرانيا، وتمهيد مناسب لإطلاق قنوات الحوار المعطلة مع الغرب. وهذا ما أظهرته الدعوات المتعاقبة من عدد من المسؤولين الغربيين، وخصوصاً، في الولايات المتحدة لاستئناف الحوار مع موسكو وإطلاق مسار التسوية السياسية للحرب الأوكرانية.
ورغم أن المواقف المعلنة حول أوكرانيا، وحيال الملفات الكثيرة العالقة بين البلدين، ما زالت متباعدة جداً، فإن الحديث عن إعادة الحياة إلى بعض قنوات الحوار اتخذ خلال الأسابيع الأخيرة أبعاداً أكثر نشاطاً، توجت بعقد لقاء في تركيا في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، جمع رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين ورئيس الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز. ومع أن موسكو تكتمت على مجريات اللقاء، تحدثت تسريبات عن تركيز الطرفين بشكل رئيسي على مخاطر استخدام الأسلحة النووية، والتطرق إلى التداعيات التي فرضتها المواجهة في أوكرانيا.
قبل ذلك مباشرة، برز تباين في المعطيات التي قدمتها موسكو وواشنطن حول آفاق تنشيط قنوات الاتصال. وسعت موسكو إلى التقليل من أهمية معطيات تداولتها وسائل إعلام أميركية حول ما وصف بأنه جولات مفاوضات سرية أجريت خلال الأشهر الماضية بين مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي جايك سوليفان، وكل من نيكولاي باتروشيف رئيس مجلس الأمن الروسي، ويوري أوشاكوف مساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لشؤون السياسة الخارجية. ولقد تعمد الكرملين في حينه تقديم نفي رسمي مباشر لصحة هذه المعطيات، ولكن من دون أن يذهب إلى حد إعلان رفض إجراء حوار.
- نفي «المفاوضات» السرية
بهذا المعنى، فإن موسكو سعت إلى تأكيد أنها لا تخوض «مفاوضات سرية» من دون أن تقطع المجال أمام استئناف الحوار. وهنا لا يمكن استبعاد أن يكون مضمون المفاوضات، التي تحدثت عنها واشنطن، لم يخرج عن إطار توجيه رسائل واضحة إلى الجانب الروسي بضرورة الامتناع عن استخدام أسلحة نووية تكتيكية، وذلك على خلفية الانتكاسات التي مني بها الجيش الروسي في المعارك خلال الأسابيع الماضية. وهو أمر أعلنته الإدارة الأميركية في وقت سبق التسريبات الصحافية حول تلك اللقاءات.
الأمر اللافت في توقيت عقد جولة الحوار الأخيرة بين الطرفين، هو أنها تلت ظهور نتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة. وليس خافياً أن الكرملين كان يراقب عن كثب الجولة الانتخابية على أمل أن تشكل نتائجها حلقة جديدة تضعف مواقف الغرب وتماسكه في مواجهة سياسات موسكو. غير أن نجاح الإدارة الديمقراطية في تقليص حجم المد الجمهوري، المرتقب سابقاً، عزز الاقتناع بأن على موسكو التعامل مع الإدارة الحالية لفترة طويلة مقبلة.
طبعاً، هذا الفهم لا يتعارض مع الخطاب الروسي القائم على انتهاء حقبة هيمنة «القطب الواحد»، وأن العالم يقف على أعتاب تبدل مهم في آليات اتخاذ القرار العالمي. وبهذا المعنى كتب أحد الخبراء في مجلس السياسة الخارجية الروسي أن «عودة واشنطن إلى الهيمنة السابقة للولايات المتحدة في العلاقات الدولية غير متوقعة. ليس بالضرورة لأن أميركا تصبح حتماً أضعف وأكثر عجزاً في جميع المجالات، ولكن لأن اللاعبين الآخرين يكتسبون تدريجياً القوة والخبرة والثقة في قدرتهم على التأثير على مستقبل كوكبنا المشترك». وحقاً، تعكس هذه العبارات «المدخل» الروسي للتعامل مع مبادرات الحوار أو النقاشات القائمة ليس فقط حول أوكرانيا، بل وحول الملفات الأخرى المطروحة على الأجندة الدولية.
هذا الأمر أشار إليه أخيرا بوضوح السفير الروسي في واشنطن أناتولي أنطونوف، عندما أكد أن بلاده ترغب في بناء «علاقات روسية أميركية أخرى». والمقصود هنا العلاقات التي من شأنها أن تقوم على احترام المصالح الوطنية المبنية على قدم المساواة. وبل، وأقر الدبلوماسي الروسي بأنه رغم استئناف بعض قنوات الحوار «سيكون من السذاجة المسارعة إلى الكلام عن تحول معين في مقاربات بناء العلاقات على أسس جديدة (...) علاقاتنا في أزمة عميقة. بينما الفجوة في النفق غير مرئية».
في الوقت ذاته، يشير محللون روس، إلى أن موسكو باتت أكثر استعداداً لإبداء مرونة حيال الدعوات الغربية إلى الحوار. وهي مستعدة لمناقشة «بعض الترتيبات» التي يمكن أن تصل إلى إعلان مشترك عن وقف مؤقت لإطلاق النار في أوكرانيا. إلا أن هذا لا يعني أن موسكو قد تذهب بعيداً في تخفيف الضغط العسكري بشكل أحادي، وهو أمر أظهرته بوضوح سياسة الضغط الأقصى خلال الأسابيع الأخيرة، عبر تكثيف الضربات على البنى التحتية الاقتصادية ومنشآت إمدادات الكهرباء والمياه، فضلا عن استهداف مراكز السيطرة والتحكم بشكل متزايد. وفي هذا السياق، وجهت روسيا إشارة إلى قدرتها على مواصلة ممارسة هذا الضغط لحمل الغرب على إقناع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بوقف الهجوم المضاد والاستعداد لفترة تجميد الصراع. ويكفي أن بين التحركات اللافتة في هذا الإطار الزيارة التي قام بها أخيراً إلى طهران، رئيس مجلس الأمن الروسي باتروشيف، وجرى النقاش خلالها حول مد روسيا بمزيد من المسيرات الإيرانية التي استخدمت بكثافة أخيراً لشن هجمات على مواقع البنى التحتية الأوكرانية، فضلا عن احتمال تنشيط نقل أنظمة صاروخية إيرانية إلى روسيا لتعويض النقص الميداني الحالي.
- تعزيز التحالف مع طهران
وبهذا الصدد، رغم تمسك موسكو بنفي المعطيات حول استخدام تقنيات إيرانية في أوكرانيا، جاء الأمر اللافت مع ربط المستوى الرسمي الروسي التأكيدات الغربية في هذا الشأن مع الملف النووي الإيراني، وإعلان نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين، أن «الغرب يزعم وجود تعاون بين روسيا وإيران في مجال المسيرات للتمويه على امتناعه عن تنفيذ الاتفاق النووي». وأردف فيرشينين أن «كل هذا ليس أكثر من تمويه يفتعله الغرب عن عمد لإخفاء عجزه عن ضمان التنفيذ الكامل لخطة العمل الشاملة المشتركة، والعودة إلى التزاماته بموجب الاتفاق النووي». ووفقا له، تواصل موسكو «لفت انتباه» الأميركيين والأوروبيين، بما في ذلك مجلس الأمن الدولي، إلى أنهم «مُلزَمون بالعودة إلى المجال القانوني لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231 والتوقف عن انتهاكه». وحدد نائب الوزير النظرة الروسية إلى هذا الموضوع بتأكيد ضرورة العودة إلى الاتفاق السابق لأنه «من جانبنا، لا نرى وجود أي بديل معقول لخطة العمل الشاملة المشتركة. وأي خطط أخرى هي طريق مباشر للتصعيد مع عواقب وخيمة، وربما لا رجعة فيها على الأمن الدولي وحالة الأسواق العالمية. يجب أن تتفهم الأمم المتحدة كل ذلك».
المثير أن هذا الموقف الروسي الذي حمل تأكيداً على مواقف سابقة، جاء بعد فترة من غياب موسكو جزئياً عن هذا الملف، بسبب الانشغال بالحرب الأوكرانية. ويرى خبراء أن انخراط إيران بشكل غير مباشر في الحرب عزز من آليات الربط مع الملف النووي الإيراني. والمعنى أن طهران حصلت من بين مكتسبات أخرى، على تشديد للموقف الروسي حيال الملف النووي الإيراني مقابل التعاون الذي أبدته في مسألة تزويد موسكو بتقنيات عسكرية تحتاج إليها حالياً.
في هذا الإطار، كانت المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، مباشرة بعد عودة باتروشيف من زيارته إلى طهران. وأعلن الكرملين يومذاك أن الطرفين بحثا قضايا التعاون المتبادل في المجالين السياسي والاقتصادي، وتكثيف الاتصالات بين البلدين. وحدد الكرملين المجالات التي جرى بحثها بإشارة إلى «القضايا المتعلقة بالعلاقات الثنائية، مع التركيز على تعزيز التعاون في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية، بما في ذلك قطاع النقل والخدمات اللوجيستية».
العبارة الأخيرة شكلت إشارة مباشرة، إلى واحد من أبرز أشكال التعاون الجاري تطويره بسرعة في الفترة الأخيرة بين البلدين. والمقصود هنا آليات التعامل مع القيود المفروضة على البلدين، وسُبل تخطي العقبات التي تحيط بنقل البضائع وتصديرها إلى بلدان ثالثة. في هذا الإطار، كان التأكيد، أكثر من مرة، خلال الفترة الأخيرة على أن طهران «نقلت إلى موسكو خبرتها في مجال التعاطي مع العقوبات الغربية على مدى سنوات»، وأن الطرفين وضعا خريطة طريق مشتركة لتعزيز التعاون في هذا المجال.
وعلم أن إبراهيم رئيسي قال أثناء استقباله باتروشيف عبارات أكدت هذا المنحى، إذ شدد على أن «التعاون بين الدول المستقلة، يشكل أقوى رد على سياسات الحظر وزعزعة الاستقرار التي تنتهجها الولايات المتحدة وحلفاؤها اليوم». ومن جهته، تحدث باتروشيف عن جهود حثيثة يبذلها الطرفان بهدف تطوير التعاون الثنائي في المجالات السياسية والتجارية والطاقة والزراعة والترانزيت. وبالإضافة إلى تعزيز الموقف الروسي في الملف النووي، وتزايد الحاجة الثنائية للتعاون في مجال التحايل على العقوبات الغربية، برزت الأوضاع الداخلية في إيران بدورها كعنصر يدفع لتعزيز التحالف الثنائي. ولذلك لم يكن غريبا أن تنحاز موسكو بشكل كامل للرواية الإيرانية للأحداث عبر الترويج لمقولة التدخل الخارجي في الشأن الداخلي الإيراني. وبالفعل، اتهم باتروشيف أجهزة استخبارات غربية بالوقوف خلف أعمال الشغب التي شهدتها إيران، وما رافقها من «ترويج أنباء مضللة حول الوضع هناك».
كذلك نقلت صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الحكومية عن باتروشيف إشارته، خلال مباحثاته مع سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، إلى «الدور الرئيسي الذي لعبته أجهزة استخبارات غربية في إثارة الاحتجاجات الجماهيرية في إيران، وما تلاها من ترويج لمعلومات مضللة حول الوضع في البلاد، وذلك بمساعدة وسائل إعلام غربية ناطقة بالفارسية تتبع لها». وتابع «نحن ننظر إلى ما حدث باعتباره تدخلاً سافراً في شؤون داخلية لدولة ذات سيادة».