روسيا «المعزولة» ترسم ملامح خطواتها المقبلة

بتجميد الصراع في أوكرانيا وتنشيط قنوات الحوار مع واشنطن

مدينة خيرسون في قلب الأحداث (أ.ف.ب)
مدينة خيرسون في قلب الأحداث (أ.ف.ب)
TT

روسيا «المعزولة» ترسم ملامح خطواتها المقبلة

مدينة خيرسون في قلب الأحداث (أ.ف.ب)
مدينة خيرسون في قلب الأحداث (أ.ف.ب)

قد يكون الانسحاب الروسي أخيرا، من مدينة خيرسون الاستراتيجية في جنوب أوكرانيا، قد شكل نقطة فاصلة عكست توجه موسكو إلى إعادة ترتيب أولوياتها خلال المرحلة المقبلة، ليس فقط على صعيد الحرب المتواصلة منذ تسعة أشهر، بل وفي آليات التعامل الروسي مع المتغيرات التي فرضتها الحرب الأوكرانية على علاقات موسكو بمحيطها القريب وبالعالم من حولها. تزامن التطور مع تسارع التحركات في محيط روسيا وضع هذا الانسحاب في إطار ترتيبات جديدة جارية على المستوى العسكري لتواكب الخطوات الدبلوماسية الروسية. وبصرف النظر عن التحليلات الكثيرة التي برزت في وسائل الإعلام حول تقييم الخطوة الروسية، وما إذا كانت تشكل نكسة جدية وجديدة للكرملين بعد انسحابين من محيط العاصمة كييف ثم من خاركيف في شرق البلاد، أو أنها تهدف إلى التقاط الأنفاس لتنظيم هجوم مضاد يعيد السيطرة على المنطقة التي غدت بالمفهوم القانوني الروسي «جزءا لا يتجزأ من الاتحاد الروسي». في هذا الإطار، بدا أن روسيا «المعزولة» دولياً، مع غياب رئيسها فلاديمير بوتين عن ثلاث قمم عالمية مهمة ومتتالية، منشغلة أكثر برسم ملامح خطواتها المقبلة على وقع التطورات المحيطة، وخصوصاً مع اتضاح نتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، وتوقعات مسار الوضع في أوروبا المقبلة على شتاء صعب تخيم عليه مشاكل نقص واردات الطاقة وتفاقم تداعيات ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم. وكان لافتاً السعي الروسي الحثيث لإظهار حال «الارتباك» و«انعدام التوافق» التي برزت خلال قمة «العشرين» عبر التركيز على اختلاف مواقف بلدان المجموعة إزاء إدانة التصرفات الروسية في أوكرانيا، فضلا عن الحاجة، التي ظهرت، إلى إجراء حوارات مطولة للتوافق على البيان الختامي. أما على المستوى الداخلي الروسي، لا تبدو أولويات الكرملين أقل أهمية، مع تعثر العملية العسكرية على الجبهات، وثبات غالبية خطوط التماس وخرائط السيطرة بشكل تقريبي، بالتوازي مع تعاظم الحاجة إلى فترة زمنية كافية لاستكمال عمليات التدريب والتجهيز لوحدات المتطوعين والملتحقين بالخدمة العسكرية، بعد قرار التعبئة الجزئية الذي حشدت عبره موسكو نحو 300 ألف مقاتل جديد، فضلا عن ضرورات تعويض النقص الحاصل بالمعدات والتقنيات العسكرية.

يبدو أن بدء الانسحاب من مدينة خيرسون مقدمة لتجميد الصراع بشكل مؤقت على أساس الخرائط القائمة حالياً في أوكرانيا، وتمهيد مناسب لإطلاق قنوات الحوار المعطلة مع الغرب. وهذا ما أظهرته الدعوات المتعاقبة من عدد من المسؤولين الغربيين، وخصوصاً، في الولايات المتحدة لاستئناف الحوار مع موسكو وإطلاق مسار التسوية السياسية للحرب الأوكرانية.
ورغم أن المواقف المعلنة حول أوكرانيا، وحيال الملفات الكثيرة العالقة بين البلدين، ما زالت متباعدة جداً، فإن الحديث عن إعادة الحياة إلى بعض قنوات الحوار اتخذ خلال الأسابيع الأخيرة أبعاداً أكثر نشاطاً، توجت بعقد لقاء في تركيا في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، جمع رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين ورئيس الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز. ومع أن موسكو تكتمت على مجريات اللقاء، تحدثت تسريبات عن تركيز الطرفين بشكل رئيسي على مخاطر استخدام الأسلحة النووية، والتطرق إلى التداعيات التي فرضتها المواجهة في أوكرانيا.
قبل ذلك مباشرة، برز تباين في المعطيات التي قدمتها موسكو وواشنطن حول آفاق تنشيط قنوات الاتصال. وسعت موسكو إلى التقليل من أهمية معطيات تداولتها وسائل إعلام أميركية حول ما وصف بأنه جولات مفاوضات سرية أجريت خلال الأشهر الماضية بين مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي جايك سوليفان، وكل من نيكولاي باتروشيف رئيس مجلس الأمن الروسي، ويوري أوشاكوف مساعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لشؤون السياسة الخارجية. ولقد تعمد الكرملين في حينه تقديم نفي رسمي مباشر لصحة هذه المعطيات، ولكن من دون أن يذهب إلى حد إعلان رفض إجراء حوار.
- نفي «المفاوضات» السرية
بهذا المعنى، فإن موسكو سعت إلى تأكيد أنها لا تخوض «مفاوضات سرية» من دون أن تقطع المجال أمام استئناف الحوار. وهنا لا يمكن استبعاد أن يكون مضمون المفاوضات، التي تحدثت عنها واشنطن، لم يخرج عن إطار توجيه رسائل واضحة إلى الجانب الروسي بضرورة الامتناع عن استخدام أسلحة نووية تكتيكية، وذلك على خلفية الانتكاسات التي مني بها الجيش الروسي في المعارك خلال الأسابيع الماضية. وهو أمر أعلنته الإدارة الأميركية في وقت سبق التسريبات الصحافية حول تلك اللقاءات.
الأمر اللافت في توقيت عقد جولة الحوار الأخيرة بين الطرفين، هو أنها تلت ظهور نتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة. وليس خافياً أن الكرملين كان يراقب عن كثب الجولة الانتخابية على أمل أن تشكل نتائجها حلقة جديدة تضعف مواقف الغرب وتماسكه في مواجهة سياسات موسكو. غير أن نجاح الإدارة الديمقراطية في تقليص حجم المد الجمهوري، المرتقب سابقاً، عزز الاقتناع بأن على موسكو التعامل مع الإدارة الحالية لفترة طويلة مقبلة.
طبعاً، هذا الفهم لا يتعارض مع الخطاب الروسي القائم على انتهاء حقبة هيمنة «القطب الواحد»، وأن العالم يقف على أعتاب تبدل مهم في آليات اتخاذ القرار العالمي. وبهذا المعنى كتب أحد الخبراء في مجلس السياسة الخارجية الروسي أن «عودة واشنطن إلى الهيمنة السابقة للولايات المتحدة في العلاقات الدولية غير متوقعة. ليس بالضرورة لأن أميركا تصبح حتماً أضعف وأكثر عجزاً في جميع المجالات، ولكن لأن اللاعبين الآخرين يكتسبون تدريجياً القوة والخبرة والثقة في قدرتهم على التأثير على مستقبل كوكبنا المشترك». وحقاً، تعكس هذه العبارات «المدخل» الروسي للتعامل مع مبادرات الحوار أو النقاشات القائمة ليس فقط حول أوكرانيا، بل وحول الملفات الأخرى المطروحة على الأجندة الدولية.
هذا الأمر أشار إليه أخيرا بوضوح السفير الروسي في واشنطن أناتولي أنطونوف، عندما أكد أن بلاده ترغب في بناء «علاقات روسية أميركية أخرى». والمقصود هنا العلاقات التي من شأنها أن تقوم على احترام المصالح الوطنية المبنية على قدم المساواة. وبل، وأقر الدبلوماسي الروسي بأنه رغم استئناف بعض قنوات الحوار «سيكون من السذاجة المسارعة إلى الكلام عن تحول معين في مقاربات بناء العلاقات على أسس جديدة (...) علاقاتنا في أزمة عميقة. بينما الفجوة في النفق غير مرئية».
في الوقت ذاته، يشير محللون روس، إلى أن موسكو باتت أكثر استعداداً لإبداء مرونة حيال الدعوات الغربية إلى الحوار. وهي مستعدة لمناقشة «بعض الترتيبات» التي يمكن أن تصل إلى إعلان مشترك عن وقف مؤقت لإطلاق النار في أوكرانيا. إلا أن هذا لا يعني أن موسكو قد تذهب بعيداً في تخفيف الضغط العسكري بشكل أحادي، وهو أمر أظهرته بوضوح سياسة الضغط الأقصى خلال الأسابيع الأخيرة، عبر تكثيف الضربات على البنى التحتية الاقتصادية ومنشآت إمدادات الكهرباء والمياه، فضلا عن استهداف مراكز السيطرة والتحكم بشكل متزايد. وفي هذا السياق، وجهت روسيا إشارة إلى قدرتها على مواصلة ممارسة هذا الضغط لحمل الغرب على إقناع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بوقف الهجوم المضاد والاستعداد لفترة تجميد الصراع. ويكفي أن بين التحركات اللافتة في هذا الإطار الزيارة التي قام بها أخيراً إلى طهران، رئيس مجلس الأمن الروسي باتروشيف، وجرى النقاش خلالها حول مد روسيا بمزيد من المسيرات الإيرانية التي استخدمت بكثافة أخيراً لشن هجمات على مواقع البنى التحتية الأوكرانية، فضلا عن احتمال تنشيط نقل أنظمة صاروخية إيرانية إلى روسيا لتعويض النقص الميداني الحالي.
- تعزيز التحالف مع طهران
وبهذا الصدد، رغم تمسك موسكو بنفي المعطيات حول استخدام تقنيات إيرانية في أوكرانيا، جاء الأمر اللافت مع ربط المستوى الرسمي الروسي التأكيدات الغربية في هذا الشأن مع الملف النووي الإيراني، وإعلان نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين، أن «الغرب يزعم وجود تعاون بين روسيا وإيران في مجال المسيرات للتمويه على امتناعه عن تنفيذ الاتفاق النووي». وأردف فيرشينين أن «كل هذا ليس أكثر من تمويه يفتعله الغرب عن عمد لإخفاء عجزه عن ضمان التنفيذ الكامل لخطة العمل الشاملة المشتركة، والعودة إلى التزاماته بموجب الاتفاق النووي». ووفقا له، تواصل موسكو «لفت انتباه» الأميركيين والأوروبيين، بما في ذلك مجلس الأمن الدولي، إلى أنهم «مُلزَمون بالعودة إلى المجال القانوني لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231 والتوقف عن انتهاكه». وحدد نائب الوزير النظرة الروسية إلى هذا الموضوع بتأكيد ضرورة العودة إلى الاتفاق السابق لأنه «من جانبنا، لا نرى وجود أي بديل معقول لخطة العمل الشاملة المشتركة. وأي خطط أخرى هي طريق مباشر للتصعيد مع عواقب وخيمة، وربما لا رجعة فيها على الأمن الدولي وحالة الأسواق العالمية. يجب أن تتفهم الأمم المتحدة كل ذلك».
المثير أن هذا الموقف الروسي الذي حمل تأكيداً على مواقف سابقة، جاء بعد فترة من غياب موسكو جزئياً عن هذا الملف، بسبب الانشغال بالحرب الأوكرانية. ويرى خبراء أن انخراط إيران بشكل غير مباشر في الحرب عزز من آليات الربط مع الملف النووي الإيراني. والمعنى أن طهران حصلت من بين مكتسبات أخرى، على تشديد للموقف الروسي حيال الملف النووي الإيراني مقابل التعاون الذي أبدته في مسألة تزويد موسكو بتقنيات عسكرية تحتاج إليها حالياً.
في هذا الإطار، كانت المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، مباشرة بعد عودة باتروشيف من زيارته إلى طهران. وأعلن الكرملين يومذاك أن الطرفين بحثا قضايا التعاون المتبادل في المجالين السياسي والاقتصادي، وتكثيف الاتصالات بين البلدين. وحدد الكرملين المجالات التي جرى بحثها بإشارة إلى «القضايا المتعلقة بالعلاقات الثنائية، مع التركيز على تعزيز التعاون في المجالات السياسية والتجارية والاقتصادية، بما في ذلك قطاع النقل والخدمات اللوجيستية».
العبارة الأخيرة شكلت إشارة مباشرة، إلى واحد من أبرز أشكال التعاون الجاري تطويره بسرعة في الفترة الأخيرة بين البلدين. والمقصود هنا آليات التعامل مع القيود المفروضة على البلدين، وسُبل تخطي العقبات التي تحيط بنقل البضائع وتصديرها إلى بلدان ثالثة. في هذا الإطار، كان التأكيد، أكثر من مرة، خلال الفترة الأخيرة على أن طهران «نقلت إلى موسكو خبرتها في مجال التعاطي مع العقوبات الغربية على مدى سنوات»، وأن الطرفين وضعا خريطة طريق مشتركة لتعزيز التعاون في هذا المجال.
وعلم أن إبراهيم رئيسي قال أثناء استقباله باتروشيف عبارات أكدت هذا المنحى، إذ شدد على أن «التعاون بين الدول المستقلة، يشكل أقوى رد على سياسات الحظر وزعزعة الاستقرار التي تنتهجها الولايات المتحدة وحلفاؤها اليوم». ومن جهته، تحدث باتروشيف عن جهود حثيثة يبذلها الطرفان بهدف تطوير التعاون الثنائي في المجالات السياسية والتجارية والطاقة والزراعة والترانزيت. وبالإضافة إلى تعزيز الموقف الروسي في الملف النووي، وتزايد الحاجة الثنائية للتعاون في مجال التحايل على العقوبات الغربية، برزت الأوضاع الداخلية في إيران بدورها كعنصر يدفع لتعزيز التحالف الثنائي. ولذلك لم يكن غريبا أن تنحاز موسكو بشكل كامل للرواية الإيرانية للأحداث عبر الترويج لمقولة التدخل الخارجي في الشأن الداخلي الإيراني. وبالفعل، اتهم باتروشيف أجهزة استخبارات غربية بالوقوف خلف أعمال الشغب التي شهدتها إيران، وما رافقها من «ترويج أنباء مضللة حول الوضع هناك».
كذلك نقلت صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الحكومية عن باتروشيف إشارته، خلال مباحثاته مع سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، إلى «الدور الرئيسي الذي لعبته أجهزة استخبارات غربية في إثارة الاحتجاجات الجماهيرية في إيران، وما تلاها من ترويج لمعلومات مضللة حول الوضع في البلاد، وذلك بمساعدة وسائل إعلام غربية ناطقة بالفارسية تتبع لها». وتابع «نحن ننظر إلى ما حدث باعتباره تدخلاً سافراً في شؤون داخلية لدولة ذات سيادة».


مقالات ذات صلة

قديروف: هجوم مسيّرة أطلقتها أوكرانيا يسقط مدنيين في عاصمة الشيشان

أوروبا رئيس جمهورية الشيشان رمضان قديروف (رويترز)

قديروف: هجوم مسيّرة أطلقتها أوكرانيا يسقط مدنيين في عاصمة الشيشان

نقلت «وكالة الإعلام الروسية» عن رمضان قديروف رئيس الشيشان قوله اليوم الأربعاء إن طائرة مسيّرة أطلقتها أوكرانيا هاجمت العاصمة غروزني وتسببت في سقوط مدنيين.

«الشرق الأوسط» (غروزني)
أوروبا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته (رويترز)

«الناتو» يدعو الغرب لتوفير «دعم كافٍ» لأوكرانيا لـ«تغيير مسار» الحرب

حضّ الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، الأربعاء، أعضاء الناتو على تزويد أوكرانيا بما يكفي من أسلحة لـ«تغيير مسار» الحرب.

«الشرق الأوسط» (بروكسل )
أوروبا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته (يمين) والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ف.ب)

أمين الناتو يحذر ترمب من «تهديد خطير» لأميركا إذا دفعت أوكرانيا إلى اتفاق سلام سيئ

حذر الأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي (الناتو) مارك روته في مقابلة مع صحيفة «فاينانشيال تايمز» ترمب من أن الولايات المتحدة ستواجه «تهديداً خطيراً».

«الشرق الأوسط» (لندن )
المشرق العربي أشخاص ورجال إنقاذ سوريون يقفون بالقرب من أنقاض مبنى في موقع غارة جوية على حي في مدينة إدلب التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة في شمال سوريا، 2 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

أوكرانيا تحمّل روسيا وإيران مسؤولية «تدهور الوضع» في سوريا

قالت أوكرانيا، الاثنين، إن روسيا وإيران تتحملان مسؤولية «تدهور الوضع» في سوريا، حيث سيطرت «هيئة تحرير الشام» وفصائل حليفة لها على مساحات واسعة من الأراضي.

«الشرق الأوسط» (كييف)
العالم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر صحافي في أثينا 26 أكتوبر 2020 (رويترز)

لافروف يتهم الغرب بالسعي إلى وقف إطلاق النار لإعادة تسليح أوكرانيا

اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الدول الغربية، الاثنين، بالسعي إلى تحقيق وقف لإطلاق النار في أوكرانيا بهدف إعادة تسليح كييف بأسلحة متطورة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.