تفجير إسطنبول... إعصار داخلي وارتدادات خارجية

أعاد أجواء انتخابات 2015 وعمّق الاستقطاب قبل معركة 2023

موقع التفجير الإرهابي في إسطنبول (غيتي)
المتهمة الموقوفة أحلام البشير -  زعيم حزب «النصر» اليميني أوميت أوزداغ
موقع التفجير الإرهابي في إسطنبول (غيتي) المتهمة الموقوفة أحلام البشير - زعيم حزب «النصر» اليميني أوميت أوزداغ
TT

تفجير إسطنبول... إعصار داخلي وارتدادات خارجية

موقع التفجير الإرهابي في إسطنبول (غيتي)
المتهمة الموقوفة أحلام البشير -  زعيم حزب «النصر» اليميني أوميت أوزداغ
موقع التفجير الإرهابي في إسطنبول (غيتي) المتهمة الموقوفة أحلام البشير - زعيم حزب «النصر» اليميني أوميت أوزداغ

عاد وجه الإرهاب ليطل بوجهه القبيح مرة أخرى في قلب إسطنبول وشريانها النابض بالحياة، أي شارع الاستقلال الممتد بين ميدان تقسيم وبرج غالاطة ووصولاً إلى منطقة كاراكوي، جامعاً ملامح عصور تاريخ كبرى مدن تركيا وأعرقها في لوحة مبهرة يتدفق عليها الملايين من خارج تركيا وداخلها يومياً. تفجير شارع الاستقلال، الذي وقع الأحد الماضي مخلفاً 6 قتلى و81 مصابا، قطع في الواقع هدوءا وأمنا عاشتهما إسطنبول لما يقرب من 6 سنوات، منذ آخر حادث إرهابي في الساعات الأولى من عام 2017، وهو حادث نفذه الإرهابي الداعشي الأوزبكي عبد القادر مشاريبوف في نادي «رينا» الليلي وخلف 39 قتيلا و96 مصاباً. وكان قرار إزالة النادي المطل على البوسفور، كما لو أنه إعلان بزوال أو صمت العمليات الإرهابية المتكررة التي شهدتها تركيا خلال الفترة بين عامي 2015 و2017. لم يقطع تفجير تقسيم حالة الهدوء فقط، بل أدى أيضاً إلى تطاير الأسئلة عن أسباب تجدد الحوادث الإرهابية قبل 7 أشهر من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستشهدها تركيا في 18 يونيو (حزيران) المقبل. وهو ما استدعى نسج «سيناريوهات» وتوجيه اتهامات للحكومة، ليس فقط بالضعف الأمني، بل ربما بالوقوف وراء التفجير من أجل إشاعة أجواء الخوف التي شهدتها البلاد قبل الانتخابات المبكرة في أول نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهذه أجريت بعد أقل من 5 أشهر من انتخابات 7 يونيو من العام ذاته، وكانت أول انتخابات يخفق حزب العدالة والتنمية الحاكم بالحصول على الغالبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفرداً. وأيضا، شهدت العاصمة أنقرة يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) تفجيراً مزدوجاً استهدف «مسيرة الديمقراطية» التي كان دعا إليها حزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد ومنظمات مدنية عدة. ويومذاك قال رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو إن «أصواتنا في ازدياد»، وهو ما أثار الشكوك حول الجهة التي تقف وراء العملية الإرهابية، التي نسبت إلى «تنظيم داعش» الإرهابي.

أدى تفجير منطقة ميدان تقسيم في وسط مدينة إسطنبول، إلى حالة استقطاب جديدة ضاعفت من أجواء الاحتقان التي تخيم على الأجواء السياسية التركية مع اقتراب الانتخابات العامة. وأصبحت رواية الحكومة وتحميلها حزب العمال الكردستاني وذراعه السورية «وحدات حماية الشعب» الكردية في جانب، وفي جانب آخر حملة التشكيك الواسعة فيها التي تراوحت بين اتهام الحكومة بتنفيذ «مسرحية» التفجير الإرهابي، وتوظيفه في الدعاية الانتخابية.
رسمياً، أعلنت السلطات التركية أن منفذة تفجير تقسيم هي السورية أحلام البشير (23 سنة). وذكرت أن البشير تدربت في معسكرات «الوحدات» الكردية في مدينة عين العرب (كوباني) ودخلت البلاد بطريقة غير قانونية عبر عفرين، الأمر الذي دفع كمال كليتشدار أوغلو، زعيم المعارضة التركية ورئيس حزب الشعب الجمهوري، إلى اتهام الحكومة بـ«الفشل الذريع في حماية أمن البلاد».
وذهب أبعد من ذلك أوميت أوزداغ، رئيس حزب «النصر» اليميني المناهض للسوريين في تركيا، فطالب رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، - الذي يرأس حالياً حزب «المستقبل» - بالتخلي عن صمته والكشف عن ملابسات الهجوم الإرهابي في عام 2015 الذي خلف أكثر من 100 قتيل «كي لا يموت المزيد من الناس»، على حد قوله.
وأيضاً ظهر العديد من التعليقات التي تزعم وجود محاولة لزج تركيا في نفق مظلم، كما حدث في عام 2015، إذ لفت الكاتب والمحلل السياسي يوسف كاراداش، إلى «وجود قلق لدى شرائح كبيرة من المجتمع من أن البلاد ستغرق في بيئة جديدة من الرعب والفوضى، تماما كما حدث بين انتخابات 7 يونيو و1 نوفمبر 2015»، عندما جرى الإعلان عن هدف حزب العدالة والتنمية في الحصول على 400 مقعد بالبرلمان وتأسيس النظام الرئاسي.
وحذر كاراداش من «حملة مرتقبة من جانب الكتاب ووسائل الإعلام الموالين للحكومة» تستهدف حزب الشعوب الديمقراطية، الذي ينادي بحل سلمي وديمقراطي للمشكلة الكردية تحت سقف البرلمان، واتهامه بدعم الإرهاب من خلال الإسراع بتحميل حزب العمال الكردستاني المسؤولية عن تفجير تقسيم. وهو ما نفاه الحزب، ونفته أيضا ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» - ذات الغالبية الكردية - التي ادعت أن لا صلة لمنفذته على الإطلاق بها.

- ارتدادات التفجير
المراقبون في تركيا يتوقعون ألا تقف تداعيات التفجير الإرهابي وارتداداته عند البعد الأمني أو التراشق السياسي بين الحكومة والمعارضة في إطار سعي كل طرف للتفوق على الآخر في الانتخابات المقبلة. وهم يعتبرون أن ثمة أبعاداً أخرى تمتد إلى السياسة الخارجية وإلى عمليات تركيا في شمال سوريا والعراق ضد ميليشيا «الوحدات» الكردية ومقاتلي حزب العمال الكردستاني.
ولأن الواضح، وفق رواية الحكومة التركية عن التفجير، أن التخطيط له تم في شمال سوريا، وأن العناصر التي شاركت في تنفيذه هم مجموعة مرتبطة مع قيادات من «وحدات حماية الشعب» الكردية في شمال سوريا، قفزت إلى الواجهة مرة أخرى عملية عسكرية محتملة، كانت أنقرة قد هددت بشنها في مايو (أيار) الماضي ضد مواقع «قسد» في شمال سوريا. والغاية وقف التهديدات الأمنية عبر الحدود واستيعاب اللاجئين السوريين في «المناطق الآمنة». وبالفعل، لوح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، مجددا، بإطلاق عملية عسكرية في شمال سوريا، على ضوء التحقيقات الجارية في تفجير شارع الاستقلال، وقال إن «على العالم أن يدرك أن تركيا ستقوم بما يلزم» على ضوء التحقيقات.
في المقابل، حذر نظام دمشق من إقدام تركيا «على استغلال التفجير الإرهابي في إسطنبول كذريعة للقيام بعمل عسكري في شمال سوريا». وصرح وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد، يوم الأربعاء، أن «سوريا تدين الإرهاب أينما كان». وحذر في الوقت ذاته، السلطات التركية «من أي استغلال لحادثة التفجير الإرهابي». وجاء ذلك في الوقت الذي أخذت أنقرة تبدي مرونة كبيرة في التقارب مع نظام بشار الأسد في سوريا، وأعلنت بالفعل عن إمكانية رفع مستوى الاتصالات بين أجهزة الاستخبارات إلى المستوى الدبلوماسي.

- ... واتهامات لأميركا
على صعيد آخر، أعاد التفجير فتح ملف الخلاف التركي - الأميركي حول دعم واشنطن لميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية بحجة اعتبارها حليفاً في الحرب على «تنظيم داعش» الإرهابي. وحقاً، حمل إردوغان، ضمناً، خلال مؤتمر صحافي على هامش قمة «مجموعة العشرين» في إندونيسيا، يوم الأربعاء، الولايات المتحدة جانبا من المسؤولية عن «التفجير الإرهابي وعن كل نقطة دم أريقت فيه» بسبب علاقتها مع «الوحدات» الكردية ودعمها لها.
وكان لافتاً أيضا أن وزير الداخلية سليمان صويلو رفض رسالة تعزية نشرتها السفارة الأميركية في أنقرة، قائلاً: «لا نقبل التعزية المقدمة من السفارة الأميركية... نعرف من يدعم الإرهاب في شمال سوريا، ونعرف الرسالة التي أرادوا إيصالها لتركيا من خلال هذا الهجوم... إن مَن يدعم المنظمات الإرهابية في شمال سوريا هو مَن نفذ هجوم إسطنبول». وبدوره، قال رئيس دائرة الاتصال برئاسة الجمهورية التركية، فخر الدين ألطون، إنه ينبغي لمن يريد صداقة تركيا أن يقطع الدعم المباشر وغير المباشر للإرهاب. وتابع ألطون في تغريدة عبر «تويتر» يوم الاثنين «على المجتمع الدولي معرفة أن الهجمات الإرهابية التي تستهدف المدنيين إنما هي نتيجة دعم بعض الدول للإرهاب».
- مخاوف اللاجئين السوريين
في هذه الأثناء، تسبب التفجير الإرهابي في زيادة مخاوف السوريين في تركيا من تصاعد الحملة المناهضة لبقائهم في البلاد وتصاعد الدعوات لترحيلهم. وكانت هذه الدعوات قد تزايدت بشكل كبير مع اقتراب موعد الانتخابات، ثم بعد الإعلان عن أن منفذة التفجير ومن عاونوها ومن خططوا للعملية الإرهابية من السوريين. وبالفعل، ألقي القبض على 49 شخصا إلى جانب المتهمة أحلام البشير.
والحقيقة، أنه بعد التفجير صار السوريون، وأيضا بعض الأجانب في تركيا، هدفا للهجوم وحملات الكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي. وتصدر خلال الأيام الماضية وسم «سوري» موقع «تويتر» بعد ظهور حملة واسعة تطالب بطرد اللاجئين السوريين، وكذلك الأفغان والباكستانيين من البلاد. واعتبر المغردون أن اللاجئين هم سبب زعزعة الأمن العام، وأنهم أكبر مشكلة تواجه تركيا وتعيق تقدمها.
كذلك تصدر وسم باسم أوميت أوزداغ، رئيس حزب «النصر» اليميني المناهض للوجود السوري في البلاد، بعد هجومه على وزير الداخلية سليمان صويلو لـ«عجزه عن الحفاظ على أمن وسلامة البلاد». وكان قد أدلى أخيراً بتصريحات يقول فيها إن تركيا «ستضمن الأمن لجاريها العراق وسوريا» على سبيل التفاخر بقوة الأمن في تركيا.

- العمال الكردستاني... في مرمى النيران
اتهمت أنقرة حزب العمال الكردستاني، المصنف كمنظمة إرهابية في تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بالوقوف وراء تفجير تقسيم الإرهابي بإسطنبول، لكن الحزب نفى أي علاقة له بالتفجير مدعياً أنه لا يستهدف المدنيين على الإطلاق.
- يخوض الحزب الكردي نزاعاً مسلحاً ضد الدولة التركية منذ العام 1984، واعتقل رئيسه عبد الله أوجلان عام 1999 ولا يزال قابعاً في سجن إيمرالي الشديد الحراسة، في بحر مرمرة، حيث يمضي عقوبة بالسجن مدى الحياة.
- دعا الحزب ذو الجذور الماركسية، في بيان سياسي أصدره عند تأسيسه عام 1978 إلى «تأسيس دولة كردية مستقلة» في مناطق جنوب شرقي تركيا ذات الغالبية الكردية. إلا أنه تراجع لاحقاً عن هذا الإعلان، وانصب تركيزه في السنوات الأخيرة على تعزيز الحكم الذاتي للأكراد.
- يستهدف مقاتلو الحزب قوات الأمن التركية. وغالباً ما يتبنى تنظيم «صقور حرية كردستان» - التابع للحزب - هجمات في داخل المدن، وسبق أن تبنى تفجيرين وقعا أمام استاد بشيكتاش في إسطنبول ومتنزه بالقرب منه أوقعا 46 قتيلا في عام 2016.
- تسبب النزاع المسلح بين الحزب والجيش التركي بمقتل أكثر من 40 ألف شخص منذ العام 1984، وتشن تركيا عمليات عسكرية منتظمة على مواقعه في شمال العراق، كما تستهدف ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي تعتبرها امتدادا له في سوريا.
- دخلت الحكومة التركية برئاسة رجب طيب إردوغان مفاوضات سلام مع العمال الكردستاني عام 2013 سعيا لإيجاد حلق للقضية الكردية، بيد أن القتال استؤنف بعد انهيار اتفاق وقف إطلاق النار المعلن من جانب الحزب عام 2015، وعقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تركيا عام 2016 استهدفت أنقرة، ضمن حملة واسعة النطاق، سياسيين وصحافيين وناشطين أكراد خلال عملية تطهير واسعة كانت موجهة بالأساس إلى «حركة الخدمة» التابعة للداعية فتح الله غولن، التي نسبت إليها السلطات الوقوف وراء المحاولة.
- تتهم الحكومة التركية «حزب الشعوب الديمقراطية»، المؤيد للأكراد، والذي يعد ثاني أكبر أحزاب المعارضة في البرلمان التركي (بكتلة تضم 56 نائباً) بأنه الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني. ولقد رفع المدعي العام الجمهوري في أنقرة العام الماضي دعوى أمام المحكمة الدستورية لحل الحزب وتجميد النشاط السياسي لأكثر من 600 من قياداته وأعضائه البارزين لمدة 5 سنوات.
- اتهمت وسائل إعلام مقربة من الحزب خلال الشهر الماضي الجيش التركي باستخدام أسلحة كيماوية في عملياته في شمال العراق، وهو ما تنفيه تركيا. وأُوقفت رئيسة اتحاد الأطباء في تركيا شبانم كورور فنجانجي بعدما دعت إلى فتح تحقيق في هذا الشأن.
- يشكل وجود عناصر من العمال الكردستاني في السويد وفنلندا سبباً لاعتراض تركيا على طلب البلدين الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو).


مقالات ذات صلة

تركيا: تحقيق ضد زعيم المعارضة لانتقاده اعتقال رئيس بلدية في إسطنبول

شؤون إقليمية زعيم المعارضة التركية رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال (من حسابه في «إكس»)

تركيا: تحقيق ضد زعيم المعارضة لانتقاده اعتقال رئيس بلدية في إسطنبول

فتح مكتب المدعي العام لمدينة إسطنبول تحقيقاً ضد زعيم المعارضة رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال يتهمه بـ«إهانة موظف عمومي علناً بسبب أداء واجبه».

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية المقاتلة الأميركية «إف - 16 بلوك 70» (موقع شركة لوكهيد مارتن)

تركيا تقلص صفقة «إف - 16» مع أميركا وتتحدث عن تطور يخص «إف - 35»

قرَّرت تركيا تقليص صفقة شراء مقاتلات «إف - 16» الأميركية في الوقت الذي أعلنت فيه أن أميركا أعادت تقييم موقفها من حصولها على مقاتلات «إف - 35» الشبحية

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.