«سوق الهنود» في البصرة بنكهة تاريخية

لم يبقَ منها إلا الاسم والذكريات خاصة الرمضانية منها

سوق الهنود بالبصرة اشتهر بالبهارات الهندية
سوق الهنود بالبصرة اشتهر بالبهارات الهندية
TT

«سوق الهنود» في البصرة بنكهة تاريخية

سوق الهنود بالبصرة اشتهر بالبهارات الهندية
سوق الهنود بالبصرة اشتهر بالبهارات الهندية

«من طبّن الحلوات بسوك الهنود.. صارت حريكة بساع من نار الخدود» بيت شعري من قصيدة بالشعر الشعبي العراقي تحكي عن تأريخ مدينة كانت ولا تزال محط أنظار العالم منذ تأسيسها كمدينة حديثة عام 1875 ميلادية، وذلك من خلال توثيق أقدم أسواقها حيث سمي بـ«سوق الهنود» إذ كانت البصرة تعج بالهنود الذين كانوا يتوافدون عليها من بلادهم للاسترزاق والاشتغال والتجارة في نهاية القرنين التاسع عشر والعشرين، وكانت الكتب الهندية تتحدث عن البصرة حتى بلغت أوجها عام 1920 ميلادية بعد الاحتلال الإنجليزي للبصرة حيث أصبحت السوق هندية بنسبة أكثر من 90 في المائة، وكانت تسمع في محالها ومقاهيها اللغة الهندية حتى أصبح العاملون فيها من العراقيين يتقنون هذه اللغة.
«سوق الهنود» أو كما يعرف حاليًا بـ«سوق المغايز» الذي يقع في منطقة «العشار»، أحد أقدم الأسواق الشعبية في محافظة البصرة (منفذ العراق الوحيد على البحر) حيث كان ولوقت قريب يمتاز بوجود محال كثيرة متخصصة ببيع (البهارات والتوابل) الهندية وتوزع منها لجميع مناطق العراق، لم يبقَ منها اليوم سوى الاسم فتكاد لا ترى هنديًا بها وحتى أنواع المواد المباعة تغيرت مع الزمن.
أحمد البجاري، أحد التجار والعارفين جيدًا بتاريخ السوق، قال في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إنه «بحكم التجارة التي كانت قائمة بين الهند ودول الخليج العربي، وكانت البصرة من الموانئ المهمة على الخليج وهكذا نشأ سوق يحمل اسم الهنود لأن أغلب تجاره من الهنود الذين يتاجرون بالمواد التي تأتي من بلادهم وأهمها البهارات الهندية المشهورة ونومي البصرة والحناء والبخور والتمر الهندي والعطور الزيتية، هكذا اشتهرت هذه السوق تجاريًا في العراق ودول الخليج».
وأضاف أن «بعد الحروب التي توالت على المدينة الساحلية العراقية وبسبب وضع البلد المضطرب هجرها أغلب التجار الهنود ولم يبقَ فيها اليوم أي هندي وحتى الاسم تغير إلى (سوق المغايز) وأنواع المحال والمواد المباعة بها تغيرت أيضًا إذ تجد محال لبيع المواد الكهربائية والغذائية والملابس المستوردة وغيرها من المواد».
وتابع أن «السوق فقدت الكثير من ملامحه إذ اختفت البساطة والجمال وحتى العلاقات اختلفت فقد كانت (الكلمة) هي رأسمال التاجر وليس مثل ما موجود اليوم».
إلى ذلك، قال جواد زكي، حفيد لأحد أقدم تجار السوق في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن «بداية عمل جدي في السوق كانت في الخمسينات ولا أتصور بقي اليوم أحد من التجار القدماء، ولكن أولادهم وأحفادهم هم من يتولون العمل حاليًا».
وأضاف أن «التطور الحاصل غيّر كثيرًا في طرق التجارة في السوق، حاله حال التجارة في العراق ككل، حيث نجد اليوم سهولة في استيراد المواد بعد انفتاح العراق على العالم، وأصبحنا وكلاء لشركات كويتية وهندية، لكن الهند تبقى مصدرًا للكثير من المواد التي نستخدمها وتخص عملنا، ولا يمكن الاستغناء عنها أبدًا».
وتابع أن «السوق لم تختفِ منها مواد لعدم وجودها ولكن اختفت بسبب الظروف، مثلاً البضائع السورية انحسرت رغم جودتها بسبب صعوبة النقل للحرب الدائرة هناك».
للسوق ذكريات جملية، خصوصًا خلال شهر رمضان المبارك حيث يعج بالكثير من الزبائن، خصوصًا من النسوة كبار السن اللاتي اعتدن على جلب البهارات والنكهات من هذه السوق تحديدًا، حيث بيّن زكي أن «رمضان شهر مميز من بدايته إلى آخر يوم فيه حيث تجد حركة كبيرة في السوق ومن أول ساعات النهار حتى قرب الإفطار، العائلة في البصرة اعتادت الاعتماد على هذه السوق لشراء متطلبات الأطباق التي يعدونها على الموائد خلال هذا الشهر».
وأضاف أن «السوق كذلك تزدحم خاصة عند قدوم الأيام الوسطى ومناسبة القرقيعان التي هي عادة موجودة في البصرة فقط دون المحافظات العراقية الأخرى ومشابهة لعادات أهل الخليج حيث إن أغلب مواد القرقيعان تشترى من هذه السوق».
إلى ذلك، قالت أم حسين، ربة بيت بصرية (73 سنة)، إن «(سوق الهنود) هي سوق ذات نكهة مميزة لدى العائلات البصرية، فعند دخولنا لـ(سوق العشار) نتوجه مباشرة لسوق الهنود وهي جزء منه حيث نبدأ بالتسوق من محال لنا معهم علاقات منذ سنين، فبضاعتهم مميزة وموثوقة».
وأضافت أن «أغلب العائلات البصرية تتسوق لأقاربها في المحافظات العراقية الأخرى من هذه السوق حيث نرسل في أكثر الأحيان الهدايا لهم، خصوصًا البهارات الهندية ذات الجودة العالية التي لا تتوفر في بقية مدن العراق».
وتابعت أن «الأمر قد يكون تغيّر لكن تبقى الذكريات، خصوصًا في شهر رمضان المبارك عالقة في الأذهان وسنبقى نحدث أحفادنا وأبناءهم عن هذه السوق وما كان فيها من تجار وبضائع لا توجد اليوم منها الكثير، خصوصًا أن ملابس عرسي قبل أكثر من 50 عامًا كانت من هذه السوق وهي الساري الهندي».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».