تلتقي الحروب والنزعات المحافظة والأوبئة في أنها جميعاً تنهض على فكرة التسلط على الأجساد، وجعلها رهينة الخوف، والسعي لدرء خطر قادم، قد يتمثل في احتلال أرض، أو سقوط قيم، أو في انتشار عدوى، وفي أحد مقاطع كتاب: «تأملات» لديكارت، يتساءل: «كيف يمكنني أن أنكر أن هذه الأيدي وهذا الجسد ملك لي، إذا لم يكن ذلك ناتجاً عن مقارنتي لنفسي مع بعض الحمقى؟»، ومثلما تؤكد مئات النصوص الفلسفية الأخرى، فإن التساؤل نابع من افتراض يرى أن ذهاب العقل مقترن، بمصادرة القدرة على التصرف لدى الأفراد في أعضائهم، وفيما يلبسون، وبنزعتهم إلى التحلل من أي محظورات أو قيود، وتفكيرهم في أن ما يكشف من أعضاء أو يحجب شأن خاص، محكوم بالحرية، لذا كان التمرد على قوانين مرجعية للباس، أو الحاجة إلى الإسهام في الخدمة العمومية، مدنية أو عسكرية، أو الحجر الصحي، مبرراً للسلطة لوضع نطاق لجدلية الحجب والكشف، والتصرف في الذوات، باحتجاز الجسد والتحكم فيه، سجنه أو وضعه في معزل.
وربما من أكثر الصور تداولاً اليوم، بعد انتفاضة النساء الإيرانيات على شرطة الأخلاق، وما تلاها من موجات احتجاج، تلك التي تنزع فيها النساء الحجاب القسري، أو يسقط فيها الشباب عمائم رجال الدين، صور تجعل استعادة الأجساد من سطوة الدولة، أو العبث بهيبة دعاماتها الرمزية، عنواناً لمناهضة الاستبداد السياسي، مثلما مثّل التخفف من الإجراءات الاحترازية ضد الوباء، قبل سنتين، بنزع الكمامة، وعدم احترام التباعد الاجتماعي، نوعاً من الزيغ، الذي يقتضي الحصار وحظر التجوال؛ أي التحكم في الأجساد، وسلب ملكيتها من الذوات وإلحاقها بأملاك الدولة. إنها القاعدة التي تصدر قوانين ضمان الأمن وتوفر مسوغات العنف الشرعي، وتنهض بوصفها حججاً عقلانية في مواجهة عدد كبير من مناصري الحرية الفردية المطلقة اليوم، على اعتبار أن أهواء الجسد لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تواجه أهواء السلطة.
الخروج عن تحكم الدولة في الجسد النسائي في إيران شبيه بهروب الشباب من التجنيد الإجباري في روسيا، في قوافل لا حصر لها إلى الجوار الجيورجي والأرميني والتركي... في ظاهرة تمرد غير مسبوقة في الدولة الوارثة لتقاليد القبضة الحديدية للنظام الشيوعي البائد، ففي الحالتين معاً ثمة قاسم مشترك في ممارسة تعدها الدولة التسلطية عصياناً سياسياً وخروجاً على القانون، يعاقب عليه بالسجن لمدة طويلة، (عشر سنوات في الحالة الروسية)، وبإطلاق النار على المظاهرات في شوارع المدن الإيرانية. والحال أن الأفراد، هنا وهناك، يسعون إلى مواجهة النظام القمعي بحرير المجال الشخصي من سطوة الآيديولوجيا والسياسة، وما يسكنها من نزوع محافظ.
في إجراءات التجنيد الإجباري وحظر التجوال لمواجهة الاحتجاجات والأوبئة، ثمة قاعدة جوهرية، وهي أن فكرة الدولة قائمة في جزء منها على إمكانية تأميم الأجساد، وجعلها خارج التصرف الخاص المنتمي لمبدأ إطلاقية الأهواء الشخصية، لهذا يمكن قياس انهيار الدول أحياناً بترددها في تأميم أجساد مواطنيها في لحظات الأزمات، يمكن أن نستحضر في هذا السياق أن التقاليد العسكرية الحديثة قرنت التجنيد الإجباري بـ«خدمة الوطن»، وهو مفهوم نشأ في الثورة الفرنسية بالتوازي مع سن ضريبة للخدمة العسكرية نظمها ما عرف بقانون جوردان سنة 1794، لقد تجلت الخدمة العسكرية بما هي تنازل للذات الجماعية ممثلة في الدولة عن ملكية الذات الفردية، وهي الأطروحة الناهضة لدرء تقليد «جيش المرتزقة» في الدفاع عن الدول، إذ التجنيد الإجباري، إقرار بتملك الدولة للهوية والجغرافيا والحدود والعيش وللمصير، وهو أمر لا يمكن أن يناط الدفاع عنه بالآخرين.
في رواية «جودت بيك وأبناؤه» لأورهان باموك، التي تصور رحلة التحول العسير من مجتمع السلطنة العثمانية العتيقة إلى الجمهورية التركية الحديثة، يرد مقطع شديد الدلالة يقول فيه السارد على لسان البطل: «ألا ترون أنه من الخطأ قسر الناس على قبول التقدم، قد يكون في تاريخنا ما يبرر فرض الحداثة باستخدام القوة ضد الشعب، لكن هذه الدولة الآن، دولة الجمهورية، لا تضطرنا إلى قاعدة العنف»، طبعاً كان من مبادئ التحديث العثماني، المنقلَب عليه، مبدأ «ضريبة الدم» الذي جُعل كناية عن التملك القهري للسلطنة العثمانية لرعايا البلدان المفتوحة، وإجبارهم على الانخراط في جيش الانكشارية، بما هو أحد عناوين الولاء والانتماء، والإيمان بجدوى وجود الدولة وقوتها، واستمرارها.
ويمكن أن نتحدث بعد مرور أزيد من سنتين من جدلية انتشار الوباء وانحساره، وفرض الكمامات ونزعها، والحجر وإغلاق الحدود بين الدول وفتحها، عن تملك نقيض، مقرون بما أوحت به مقولة ديكارت، إذ يقف عند احتواء الزيغ الفردي عن الإرادة الجماعية لدرء الوباء، من هنا فتملك الدولة للجسد الجماعي، مجازاً، إنما جاء لحمايته من الأجساد الفردية المريضة، وهو عزل يتجاوز مبادئ الحرية وحقوق الإنسان المعاصرة، وضد نفي الحدود والحواجز. هكذا تجلت هذه الممارسة «القهرية» باستمرار مشفوعة برغبة الوصول إلى حماية الغالبية العظمى من أجساد المواطنين من العدوى، مع الحرص على إنقاذ الآخرين من الموت، ولقد كان مبدأ العزل مجرداً من نزعة العقاب، ومنزهاً من حدوس العقيدة وتأويلاتها، بل بدا أحياناً وكأنما هو على النقيض منها، فتملك العقائد لذوات وللمصائر هو غير تملك الدول.
ذلك ما نعيد اكتشافه مع مرور الزمن بظلال مختلفة في فقرات كتاب ميشيل فوكو: «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، حيث يذهب من ضمن ما يذهب إليه في تفسير تعارض أهواء الجسد وأهواء السلطة، إلى أن المصاب بداء معدٍ إذا كان قد أقصي من الحياة ومن العيش وسط الجماعة، فإن وجوده يكشف، مع ذلك، عن صورة الإرادة الغيبية، لأن وجود الداء واختفاءه كليهما، يندان عن غضب ورحمة، وحين يختفي الوباء، وتتوارى صور المصابين به أو تكاد من الذاكرة، فإن بنياته ستستمر مع ذلك. أي لعبة العزل والحجب والمصادرة، والتحكم. ولعل في استملاك الدولة لقوانين التقييد بدل الآيديولوجيا العقائدية، أن تحول الرهان من العقاب إلى العلاج، ومن الحرمان إلى الإنقاذ، ومن ثم أمكن الحديث تدريجياً عن الدولة كقاعدة لاستجلاب الحق والعدالة.
لحجاب المرأة وللتجنيد وللحجر الصحي وجه سياسي، بقدر ما ينطوي على كنه ثقافي، هو خطاب ورمزيات ومبادئ، تواكب الاعتقاد في فلتان الأجساد وخطورتها، وتقترن بالسعي لترويضها، في هذا السياق يجب الإقرار بأن الحروب والنزعات المحافظة، مثلما الأوبئة، لها وجه «علماني»، يصيب الدول والأفراد دون تمييز مبني على الاعتقاد، العدوى العضوية أو الفكرية تصيب الجسد الخاص وجسد الدولة انطلاقاً من مبدأ الانتماء للفضاء نفسه، كما أن صد العدوى في المقابل، ينطلق من ضرورة فصل الآيديولوجيا عن السياسة، بما هي تدبير لحياة الناس لما فيه خيرهم.
* ناقد وأستاذ جامعي مغربي