مراسلات حسين وجلال أمين عن برد لندن وبرنارد شو و«جدار برلين»

جزء أول من «أخي العزيز» يلقي ضوءاً على تطورهما الفكري والثقافي

مراسلات حسين وجلال أمين عن برد لندن وبرنارد شو و«جدار برلين»
TT

مراسلات حسين وجلال أمين عن برد لندن وبرنارد شو و«جدار برلين»

مراسلات حسين وجلال أمين عن برد لندن وبرنارد شو و«جدار برلين»

ينتمي الشقيقان أحمد أمين (1932 - 2014) وجلال أمين (1935 - 2018) إلى تيار فاعل في الثقافة يمكن القول بأنه يجسد إلى حد ما مفهوم «المثقف العضوي»، من حيث اشتباكه المباشر مع قضايا المجتمع. التحق الأول بالسلك الدبلوماسي وعمل في سفارات مصر بالعديد من الدول إلى أن تقلد منصب سفير البلاد لدى الجزائر، وعكست مؤلفاته ومنها «دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك في القرن العشرين» و«ألف حكاية وحكاية من الأدب العربي القديم» اهتماما خاصاً بالعلاقة بين الحاضر والتراث. أما الثاني فهو مفكر وعالم اقتصاد وأكاديمي حظيت مؤلفاته بشهرة واسعة مثل «ماذا حدث للمصريين» و«ماذا علمتني الحياة» وعصر الجماهير الغفيرة».
من هنا تأتي أهمية كتاب «أخي العزيز» الذي يضم الجزء الأول من مراسلاتهما في الفترة من 1950 حتى 1960، فهي تتجاوز الشأن الخاص العابر وتعكس أبرز القضايا التي شغلت المثقف العربي في تلك الفترة.
الكتاب صادر عن دار «الكرمة» بالقاهرة وقام بجمع الرسائل وتحريرها كمال صلاح الدين، حفيد حسين أمين، الذي يقول إن مضمون الخطابات بين الشقيقين يلقي ضوءا على حياتهما وعلى مراحل تطورهما الفكري والثقافي من زوايا مختلفة كما أن موضوعاتها الثقافية والفلسفية والدينية تجعلها مفيدة للقارئ العام.
تبدأ المراسلات عام 1950 وتمتد حتى عام 1987، أي منذ كان عمرهما ثمانية عشر وخمسة عشر عاماً على التوالي إلى أن بلغا الخامسة والخمسين والثانية والخمسين من العمر، أقاما خلال تلك السنوات في لندن وكامبردج وموسكو وكندا ونيجيريا والكويت وألمانيا والبرازيل ولوس أنجليس والقاهرة، كما زارا عدداً من الدول الأخرى واطلعا على ثقافات وحضارات مختلفة وبدآ في نشر العديد من كتابتهما وإنتاجهما الثقافي.
تبدأ الخطابات المتبادلة بينهما بخطابين غير مؤرخين كتبهما حسين أثناء تواجده في لندن للمرة الأولى في رحلة صيفية استمرت ثلاثة أشهر وكان عمره آنذاك ثمانية عشر عاماً وكان والدهما، الكاتب والمؤرخ أحمد أمين، صاحب فكرة إرسالهما لقضاء العطلة الصيفية في لندن لاعتقاده بأهمية تعلم لغة أجنبية في سن مبكرة نظراً للصعوبات التي لاقاها في تعلم اللغة الإنجليزية في سن متقدمة فأرسل «حسين» عام 1950 إلى لندن ثم أرسل «جلال» في رحلة مماثلة عام 1951.
يروى حسين كيف جمع من الإنجليز أكبر معلومات ممكنة عن حياة الأديب «سمرست موم» وقرأ له 16 كتابا وينتوي أن يكتب عنه سلسلة من المقالات. بدأ أيضاً يعد بحثا عن «دي جي موباسان» وأسلوبه في القصة القصيرة واختلافها عن قصص معاصريه ثم تأثير «جوستاف فلوبير» عليه، والفرق بينه وبين «أنطوان تشيخوف». وقد خطر لي فكرة قصة طويلة وسيبدأ في تنقيحها وكتابتها وهو في الباخرة مبحرا إلى مصر. وحين سأل عن «سمرست موم» في «ماي فير» أخبروه أنه يقضي الصيف في الريفيرا الفرنسية وقد شعر بالأسف الشديد لأنه لم يقابله. أما «برنرد شو» فهو في المستشفى والآلاف من أكاليل الأزهار تصله كل يوم وفي الراديو يذيعون مسرحياته متمنين قبلها الشفاء له وفي السينما يعرضون صورته.
عمل «حسين» بعد تخرجه في كلية الحقوق عام 1953 مذيعا في الإذاعة المصرية ورغم أنه لم يبق في عمله هذا سوى أقل من عام فإنه وجد نفسه أكثر من مرة في موقف العداء المتبادل مع رئيسه في الإذاعة حتى نقله الأخير من قسم المذيعين إلى قسم التسجيلات فتقدم لاختبارات هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» للالتحاق كمذيع في القسم العربي ولما نجح ولم يتبق سوى الحصول على موافقة الإذاعة المصرية رفض وزير الإرشاد إعطاءه إياها، فما كان منه إلا أن سافر إلى لندن بدون إخطار الإذاعة بذلك.
تبدأ خطابات هذه المرحلة من ديسمبر (كانون الأول) 1954 حين تولى حسين مهامه كمذيع في القسم العربي من هيئة الإذاعة البريطانية فيكتب لوالدته وإخوته عن أخباره وحياته في لندن وما يحدث في كواليس الإذاعة وعن الفرق بين العمل في الإذاعتين المصرية والبريطانية وسياسات «إل بي بي سي» غير المعلنة وخاصةً بعد العدوان الثلاثي على مصر وكيف وجد نفسه مضطرا للاختيار بين وطنه وتطلعاته الأدبية من جانب وعمله لصالح إذاعة العدو من جانب آخر.
ويشكو حسين من سقوط المطر باستمرار في لندن وكيف أن «السماء كئيبة مظلمة نحتاج معها إلى إضاءة النور في المكتب حتى منتصف النهار... صحيح أن الجو لم يعد باردا كما كان وأن الشخص يستطيع الآن الدخول إلى الفراش في المساء دفعة واحدة لا سنتميتر فسنتميتر كما كنا ندخل البحر في الإسكندرية وكما كنت أفعل في الشتاء ولكن الجو كئيب للغاية».
على الجانب الآخر، عمل جلال أمين عقب تخرجه في كلية الحقوق لفترة قصيرة كمعيد في نفس الكلية بقسم الشريعة الإسلامية رغم عدم حصوله على شهادة أزهرية، إذ لم يكن ذلك شرطا من شروط التقدم للوظيفة آنذاك، لكن ما إن علم بوجود بعثة حكومية لدراسة الاقتصاد في الخارج حتى تقدم بأوراقه إلى إدارة البعثات وحصل على بعثة حكومية إلى «مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية» التي تعد واحدة من أشهر الكليات في العالم. ويروي جلال كيف أنه عند حصوله على البعثة حذره بعض أساتذته في مصر من أنه سائر بقدمه إلى عرين الأسد وحذروه من أن يعود «دكتورا» في الاقتصاد ولكن سيكون أميا في كل شيء آخر.
وفي يناير (كانون الثاني) 1958 كان جلال يودع عائلته في بورسعيد صاعدا إلى الباخرة المتوجهة إلى إنجلترا وهو في الثالثة والعشرين من عمره واستمرت إقامته في لندن ست سنوات تزوج خلالها من فتاة إنجليزية وحصل على شهادة الدكتوراه قبل أن يعود هو وزوجته إلى مصر عام 1964. ووصف جلال تلك السنوات الست كما وصف حسين سنوات إقامته في لندن من قبل بأنها أكثر سنوات حياته خصوبة.
يشترك الشقيقان أيضاً في المعاناة من صدمة الطقس البارد، إذ يكتب «جلال» إلى «حسين» من مسكنه الجديد وهو راقد على السرير وفوقه بطانيتان ولحاف وتحت قدميه قربتا ماء ساخن والمدفأة موقدة. ويلفت نظر شقيقه إلى مقال للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية التي أثارت ضجة كبرى حول قضية تعذيب محرر فرنسي على يد بعض من الجنود الفرنسيين في الجزائر لكي يتحصلوا منه على معلومات عن الثوار الجزائريين. لم يرضخ المحرر ونشر بعد الإفراج عنه كتابا بعنوان «الأسئلة» ذكر فيه الأساليب الفظيعة التي استخدموها في تعذيبه. ونشرت بعض الصحف الفرنسية مقتطفات من الكتاب فصادرتها الحكومة الفرنسية ثم كتب سارتر سلسلة مقالات عن القضية. ويعبر «جلال» عن اعتقاده بأهمية الاحتفاظ بهذه المقالات لإدانة السلوك الفرنسي ومساعدة القضية العربية لا سيما بعد نشرها في الصحف والمجلات المصرية.
ويحكي «جلال» في رسائله كيف أن أهم الأخبار السياسية في أوروبا عموما تدور حول الأسلحة الذرية قائلا: «الواقع أننا في مصر لم نكن نعطيها ولا نزال الأهمية التي تستحقها في حين الرأي العام الغربي وخاصةً المثقف مشغول انشغالا تاما بالتجارب الذرية والخطر الذي يهدد العالم لو استعملت الأسلحة نفسها وأنا أتساءل لماذا لا تتكون في مصر جمعية تعمل للدعاية ضد هذه الأسلحة نفسها وضد تجاربها بحيث تتعاون مع مثيلاتها في العالم كله، ألا تعتقد أن الموضوع يستحق الاهتمام؟ وعلى رأي مجلة «نيو استيتمان» فإنه إذا كان العالم أقل جبنا من الجاهل فإن هذه القاعدة لا تنطبق في حالة الأسلحة الذرية إننا كلما ازدادت معرفتنا بها كلما ازداد خوفنا».
ويروي جلال انطباعاته عن ألمانيا الشرقية التي زارها آنذاك وهي خاضعة للنفوذ السوفياتي في إطار الحرب الباردة مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة: «في شرق برلين دون غربها تجد صبية بين السادسة عشرة والعشرين يبدو عليهم إرهاق العمل، يرتدون ملابس رخيصة لا يعتنون بهندامهم ويشربون السجاير والبيرة بكثرة مما لا يتفق وعمرهم ولكنهم مؤدبون ومخلصون وتحس أنهم ناضجون قبل الأوان، هذا الوصف ينطبق على البنات كما ينطبق على الأولاد».
ويلاحظ أن المحلات شرق جدار برلين قريبة الشبه جدا بالمحلات الصغيرة التي تجدها في مكان كحي «الظاهر» الشعبي بمصر... كما أن جزءا كبيرا من الملابس الرخيصة المعروضة تشبه نظيرتها في الأحياء المصرية الشعبية مثل العتبة أو شارع عبد العزيز.
ومن باب الإنصاف، يذكر أن شارعا واحدا جميلا جدا وبذلت فيه كل عناية هو «طريق ستالين» وهو شارع يبلغ طوله حوالي «شارع فؤاد» بالقاهرة حيث صفت المباني الفخمة على جانبيه وكلها بناها الروس على طراز واحد جميل. والمحلات التجارية في هذا الشارع رائعة التنسيق وفي منتصف الشارع تمثال لستالين وبجواره مكتبة ضخمة اسمها مكتبة «كارل ماركس» تحوي بالطبع كل كتب ماركس وانجلز ولينين بالألمانية ولكنها لا تحتوي من الأدب الروسي غير كتب غوركي.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».