السارد لتاريخ مدينة الرياض يتوقف طويلاً أمام حي الملز، أحد أقدم وأعرق أحياء العاصمة، والذي كان يُسمى «الرياض الجديدة» في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ومنه تشكّلت الروح المدنيّة للرياض، لتصبح مدينة كوزموبوليتانية تستطيع استيعاب الجميع، ولينتقل سكانها إلى عصر نهضوي مشرق، في فترة ما زالت محفورة بذاكرة ووجدان من عاشوا تلك الحقبة.
الحالة الاستثنائية لهذا الحي، تتجدد اليوم عبر بوابة الثقافة والفن في «بيت الملز»، وهو مشروع يعيد للأذهان عراقة الحي الذي ذاع صيته قبل أكثر من أربعة عقود، من خلال مبنى تم بناؤه مطلع الثمانينات بحي الملز، ثم خضع للتجديد وتأسس بشكله الحالي عام 2019، من قبل مؤسسيه: عبد السلام العمري، وخلود البكر، ومنصور الصوفي، ليصبح اليوم واحداً من المواقع الـ40 المختارة لاحتفالية «نور الرياض 2022» المقامة حالياً في العاصمة السعودية.
يتخذ «بيت الملز» موقعه وسط الحي القديم، ليغوص زائره في رحلة عميقة بين شوارع ومباني الملز التي تقاوم النسيان، في محاولة لمزج عراقة الماضي بجماليات الواقع المعاصر؛ إذ تعتمد هويّة «بيت الملز» على أنه مساحة للحوار والتعبير الفني، وملاذاً للفنانين والمبدعين، فضلاً عن كونه شاهداً على قصة تشكّل المشهد العمراني الحديث لمدينة الرياض.
- «بيت الملز»
وفي جولة لـ«الشرق الأوسط» داخل «بيت الملز»، تبدو نقطة قوته مستمدة من التصميم المفتوح والنوافذ المتعددة، في جميع طوابقه الثلاثة؛ مما يمنحه ميزة لأن يكون مكاناً متعدد الأغراض، على مساحة تقدر بنحو 600 متر مربع. كما يتألف فريق «بيت الملز» من فنانين ومديري فنون، يتمتعون بخبرات تراكمية على الصعيدين الإقليمي والدولي؛ مما ساعدهم على الاستلهام من المبنى القديم فكرة إقامة مركز حيوي ومنتعش بالفنون.
وقال منصور الصوفي، أحد مؤسسي «بيت الملز»، إن الموقع البعيد عن الحداثة والمناطق الحديثة في الرياض، قام على فكرة تحويل هيكل المنزل إلى مركز ثقافي يُعني بالثقافة والفنون بشكل عام، لجميع فئات الناس. بسؤاله: لماذا الملز؟ يجيب «لعراقة المكان وتاريخه والعمق الثقافي الذي يتمتع به»، مبيناً أن الكثير من الفنانين المعاصرين والقدامى تربطهم الذكريات القديمة في هذا الحي، ويضيف «ناهيك أن حي الملز كان في فترة السبعينات والثمانينات هو مركز مدينة الرياض، وله عمق تاريخي وثقافي لا يضاهيه فيه أي حي آخر».
ويستند الصوفي خلال حديثه الخاص لـ«الشرق الأوسط» على المباني والوزارات والجهات الحكومية التي ظلت شاهدة على عراقة الملز، ويتابع «حينما نتجوّل في هذا الحي نستشعر الروح القديمة له؛ لذا ارتأينا إيجاد مركز ثقافي يجذب أنظار العالم لهذا الحي العريق لكن بمنظور مختلف».
ويشير الصوفي إلى أن «بيت الملز» يهدف إلى إشراك الجمهور وتمكين قطاع الفنون، من خلال تنويع العروض الفنية والثقافية المقدمة، وتوفير أرضية رحبة للمجتمع الفني للاندماج داخله، بما يسهم في نمو الحراك الفني في البلاد. وأخيراً، تمكين الفنانين والمبدعين من خلال تزويدهم بعدد من المساحات متعددة الوظائف لإنتاج وعرض ومناقشة أعمالهم الفنية.
- «أراك بوضوح في الظلام»
حالياً، يُعرض في «بيت الملز» العمل الفني «أراك بوضوح في الظلام» للفنان السعودي مهند شونو، ضمن احتفالية «نور الرياض 2022»، التي تعدّ من أكبر احتفالات الضوء الفنية في العالم، حيث يتوزّع هذا العمل على امتداد طوابق «بيت الملز» في قصة فنية متسلسلة بشكل لافت.
عن قصة هذا التعاون، يوضح الصوفي، أن فريق «نور الرياض» حين زار «بيت الملز» لاحظ منذ الوهلة الأولى أن الموقع يبدو مناسباً، كما رأى مهند شونو، أن المكان ملائم للأعمال الفنية التي كان يخطط لها، ومن هنا انطلقت الرحلة بين «بيت الملز» و«نور الرياض»، والتي تكللت بالنجاح، باعتبار أن الموقع يحظى اليوم بزيارات كبيرة جداً، كما يفيد.
ويَلمح المتلقي ذكاء الفنان مهند شونو في هذا العمل، حيث استخدم كل الأدوار الداخلية لـ«بيت الملز» وحوّلها عملاً فنياً متسلسلاً وأخاذاً، مع توظيفه للنوافذ المتعددة بدخول الإضاءة من أكثر من اتجاه، باعتبار الضوء هو عنصر أساسي في هذا العمل، إضافة إلى استثماره للمبنى الخالي من الأعمدة في خلق حالة فنية داخل المساحة المفتوحة.
- رحلة الإنسان
يشكل هذا العمل الفني عملية تداخل غامرة للحواس، حيث يأتي واسع النطاق ومتعدد الغرف يخترق أرضيات المبنى الواقع في قلب حي الملز بمدينة الرياض، والذي يعود تاريخه إلى عام 1980، كما يحفز العمل الجمهور لمتابعة الخيوط المضيئة في الظلمة، والتي تشق طريقها وتنتقل من الطابق السفلي إلى السقف. وتعبّر هذه الخيوط عن مواضيع تتكشف فيها رحلة الإنسان مع الخسارة والتفاني والاستسلام، بدءاً من الطابق السفلي، حيث تتسرب سلاسل دقيقة من الضوء إلى الغرفة المظلمة من خلال نوافذها، كناية عن أولئك الذين لم نعد قادرين على رؤيتهم. ثم يصبح كل طابق بمثابة مرحلة، أو خطوة متسلسلة في السرد.
وخلال هذا كله، تتم أرشفة المواضيع والقصص التي يحملونها إلى الطابق الثاني، وتعود إلى مكتبة من البكرات (بكرة الخيوط)، كرمز للذكريات التي يتم الاحتفاظ بها بشكل منظم وآمن، وتفتح بوابات للمداخل التي نشعر بها، ولكن لا يمكننا المرور عبرها. وفي الطابق الثالث، تمر الأوتار عبر «النول»، في محاولة لنسج ما تم تجزئته، تجسيداً للكدح المبذول في الجهد عديم الجدوى لإعادة تشكيل الذكريات، حيث تتشابك بعض الخيوط حتماً. وأخيراً، على سطح «بيت الملز»، حيث تمر الخيوط أعلاه، وتتجسد لتصبح قطعة قماش واحدة منسوجة؛ وهنا يعبّر الفنّان مهند شونو بالقول «نحن نغسل أحزاننا ونعلّقها بعيداً وعلى نطاق واسع من فوقنا».
- مهند شونو
مهند شونو هو فنان ولد في الرياض عام 1977، وقد تعلم الفن بنفسه، وتظهر مفرداته البصرية المميزة في أعمال تضم الرسومات الحميمة والمنحوتات كبيرة الحجم والأعمال التركيبية الآلية التي تحركها التكنولوجيا، ويقوم بتحفيز مشاريعه وتنظيمها من خلال السرد؛ مما يشكل مناقشة مع الحقائق الجماعية والتاريخية التي غالباً ما تجد أصولها في ذكرياته الشخصية.
تدور العديد من أعمال شونو حول فكرة «الخط»، التي طورها كإطار مفاهيمي أفقي موجود في تركيباته الرئيسية، حيث تكون فكرة التنمية سواء عن تحديث الأمة أو ممارسة الفنان الخاصة بمثابة استعارة رئيسية، كما يشير الخط إلى ممارسته المستمرة، وإن كانت أقل عرضاً في الرسم ورواية القصص المصورة.
وقد مثل مهند شونو السعودية في بينالي فينيسيا 2022، وأصبحت جمالية شونو السوداء بالكامل شعاراً معروفاً للجيل الجديد من الفنانين السعوديين، كما شارك مع اللجان الكبرى الأخرى مثل بينالي الدرعية للفن المعاصر بالرياض عام 2021، وديزرت إكس العلا عام 2020، وآي لوف يو أرجنتلي، وفنون جدة 21، 39 عام 2019.