اعتادت رئيسة الوزراء الإيطالية الجديدة جيورجيا ميلوني أن تردّد بين المقرّبين منها، أن مثالها الأعلى في السياسة هي مارغريت ثاتشر. لكن على الرغم من المزايا التي تؤهلها لهذا الدور، ما زالت أقرب إلى زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف السابقة مارين لوبان منها إلى رئيسة الحكومة البريطانية السابقة.
تملك ميلوني سلاحين سياسيين قاطعين أشهرتهما ببراعة في خطابها الأول منذ أسبوعين أمام البرلمان يوم تسلّمت مهامها. سلاحان اكتسبتهما بشكل طبيعي ويتوقف على براعتها في استخدامهما مستقبلها السياسي كأول امرأة في تاريخ إيطاليا تترأس الحكومة. فهي الفتاة العصامية التي شقّت وحدها طريقها في عالم السياسة الذي يسيطر عليه الرجال، وفي حزب يمجّد صورة الذكر مثل «الحركة الاجتماعية الإيطالية»، وريثة الحزب الفاشي، التي تدرّجت فيه خلال المراحل الأولى، في بلد فحولي بامتياز مثل إيطاليا. وهي أيضاً، وبشكل خاص، تلك السيرة حول نشأتها في كنف عائلة فقيرة، هجرها الوالد باكراً وتولّت الوالدة وحدها تربيتها مع شقيقتها في أحد أحياء الطبقة العاملة، التي تجرد المعارضة اليسارية من الحجة والقدرة على انتقادها، وتمدّها بالقدرة على ترسيخ زعامتها لليمين الإيطالي في وجه حلفائها الذين يتربصون بها بعد أن اضطروا للتسليم على مضض بهذه الزعامة التي لم تكن يوماً في حساباتهم.
على الجبهة الاقتصادية، اختارت ميلوني أن تبدأ مسيرتها على رأس الحكومة في خطى الرئيس السابق ماريو دراغي الذي كانت وحدها تقف ضده في صف المعارضة. لكنها لم تتأخر في التجاوب مع أنصارها المتشددين الذين كانوا يطالبون بسماع أنغام يد النظام الحديدية في سيمفونية الحكومة الجديدة، وكان أول قرار تتخذه حظر الاحتفالات الموسيقية غير المرخصة التي تلجأ عادة إلى تنظيمها مجموعات فوضوية ويسارية متطرفة، وإنزال عقوبة بالسجن ست سنوات ضد مخالفي هذا القرار.
في موازاة ذلك، كانت مجموعات تحتفل بمئوية مسيرة الفاشيين على روما في المكان الذي يوجد فيه ضريح بنيتو موسوليني، من غير أن تتدخل قوات الشرطة لمنعهم بعد تصريحات مذهلة لوزير الداخلية الجديد الذي قال إن مثل هذا الاحتفال يتكرر كل سنة من دون إخلال بالأمن.
وإلى جانب ذلك القرار، كانت الحكومة الجديدة تستعيد سياسة إقفال الموانئ في وجه المنظمات غير الحكومية التي تحاول إنقاذ المهاجرين غير الشرعيين في عرض البحر، مدشّنة بذلك أول أزمة مع شركائها الأوروبيين.
لكن في المقابل، حرصت ميلوني على طمأنة الحلفاء في الاتحاد، واختارت أن تكون زيارتها الخارجية الأولى إلى بروكسل، في وقت أعلنت فيه أنها تحضّر لزيارة قريبة إلى كييف للاجتماع بالرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي وتأكيد استمرار الدعم الإيطالي له. ويقول المقربون منها إن الهدف من هذه الخطوات هو توسيع دائرة المواجهة السياسية وتوطيد زعامتها للمعسكر اليميني المهيمن، بالتشدد على الجبهة الآيديولوجية من جهة، والتزام الخط الأوروبي في العناوين الكبرى للسياسة الخارجية من جهة أخرى.
واللافت أن الرأي العام الإيطالي استقبل صعودها إلى صدارة المشهد السياسي بالفضول والترقّب، وبقدر من المديح في صفوف بعض المعارضة اليسارية النسائية، على الرغم من أنها اختارت أن تتحدّى هذه المجموعة الأخيرة عندما أصرّت على أن يكون لقبها «رئيس» وليس «رئيسة» الحكومة. ويتحدّث المراقبون عن «شهر عسل» بين ميلوني وشريحة سياسية من المفترض أن تكون في عداد المعارضة لحكومتها، لكنهم لا يتوقعون أن يدوم ذلك طويلاً، ليس فقط لأنها لا تمتلك كثيراً من مواصفات ثاتشر، بل لأن الهبوط على المسرح السياسي الإيطالي من خارج الدوائر التقليدية مغامرة محفوفة بكل أنواع المكائد والمخاطر التي لم يسلم منها أحد في الماضي.
وبخلاف ثاتشر، لم تجد ميلوني في والدها قدوة تحتذى، بعد أن هجر العائلة وهي صغيرة وانتهى به الأمر في السجون الإسبانية مداناً بتهمة الاتجار بالمخدرات. لكنها في المقابل، واجهت صعوبات كبيرة في نشأتها كما تحكي في سيرتها الذاتية «أنا جيورجيا: جذوري وأفكاري»، الأمر الذي يسبب حرجاً كبيراً لليسار الإيطالي الذي يتعذّر عليه توجيه سهام انتقاداته إلى سيرتها الذاتية الصعبة، لا سيما أن الحضور النسائي في المواقع القيادية اليسارية ضئيل جداً.
ويبقى الرهان الأساسي الذي سيحدد مسار ميلوني هو سياستها الأوروبية التي تبدو حريصة جداً ومتأنية في تحديد خطواتها، لا سيّما أن حليفيها في الحكومة، زعيم حزب «فورتسا إيطاليا» سيلفيو برلوسكوني وزعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني، لا يحظيان بثقة المؤسسات الأوروبية التي أوضح رؤساؤها مؤخراً أن العلاقات مع روما لن تتعرّض لأي اهتزاز طالما التزمت الحكومة الإيطالية الجديدة القواعد والمبادئ الأساسية المتوافق عليها في الاتحاد.
إلى جانب ذلك، تواجه ميلوني مشكلتين أساسيتين لترسيخ دعائم مشروعها السياسي. الأولى، طي صفحة الماضي الفاشي بصفة نهائية، الذي لا توفر مناسبة أو تصريحاً لتبديد الشكوك حوله، لكن من غير أن تحقق نتائج ملموسة حتى الآن، لا سيّما بعد اختيارها إيغناسيو دي لا روسّا لرئاسة مجلس الشيوخ، وهو من الرموز الرئيسية للفاشيين الجدد. والثانية، عدم تمكنها من الوفاء بوعدها بتشكيل حكومة من شخصيات سياسية بارزة.
حيث إن معظم الوزراء من شخصيات الصف الثاني أو الثالث فرضها حليفاها اللذان لا يشكّ أحد في أنهما يسعيان، منذ اليوم الأول لفوزها في الانتخابات، إلى إزاحتها عن الموقع الذي يعد كل منهما أنه الأحقّ به.
ويتردد في أوساط المؤسسات الأوروبية أن محاولات ميلوني لتطمين الشركاء في الاتحاد بتصريحات حول استعدادها للتعاون، لم تقنع المسؤولين الأوروبيين الذين توقفوا بقلق عند قراراتها الأولى التي استهدفت حرية التعبير بقسوة غير معهودة، والتطرف في ملف الهجرة الذي كان جبهة مفتوحة بين بروكسل وروما طوال وجود سالفيني في وزارة الداخلية الإيطالية. وتصرّ حكومة ميلوني منذ أسبوعين على إقفال الموانئ البحرية في وجه 4 قوارب إنقاذ تحمل على متنها ما يزيد على ألف مهاجر، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، على الرغم من تحذيرات المنظمات الإنسانية بأن وضع المهاجرين الصحي يتدهور بسرعة، وأن سوء الأحوال الجوية ينذر بكارثة في عرض البحر بين لحظة وأخرى.
وكان مسؤول في المفوضية الأوروبية علّق أول من أمس (الاثنين)، على هذا الوضع بقوله: «كيف نفسّر للعالم أن بلدان الاتحاد الأوروبي قد فتحت أبوابها من غير قيود لملايين اللاجئين الأوكرانيين منذ بداية الغزو الروسي، وهي اليوم ترفض استقبال بضع مئات من المهاجرين المعرضين للخطر داخل مياهها الإقليمية؟».