البعد الخامس في الحرب الأوكرانيّة

منظومة «ستارلينك» (Star Link)
منظومة «ستارلينك» (Star Link)
TT

البعد الخامس في الحرب الأوكرانيّة

منظومة «ستارلينك» (Star Link)
منظومة «ستارلينك» (Star Link)

مرّت البشريّة بمراحل متعدّدة، لكلّ منها حربها الخاصة بها. كذلك الأمر، ارتكزت الحروب كما هو معروف، على التكنولوجيا المتوفّرة من ضمن النمط التالي: تستغلّ الحرب المتوفّر من التكنولوجيا كي تبدأ، ومع تحوّل الحرب وتبدلاتها، كونها مثل الحرباء، كما قال عنها المنظر العسكري الباروسي كارل كلوزفيتز، يبدأ الفكر البشري بابتكار تكنولوجيا جديدة تلبّي حاجة الحرب الجديدة. والهدف دائماً هو النصر.
لكن الحرب لا تُخاض في الفراغ، فهي تستعمل وسائط متعدّدة كي تتجسّد. فالسهم على سبيل المثال بحاجة إلى من يبتكره، وإلى فكر يستغلّه ويُشغّله من ضمن منظومة القتال والتكتيك المُعتمد. وأخيراً وليس آخراً، لكي يعطي السهم مفعوله، عليه أن ينطلق من القوس إلى هدفه عابراً الهواء (الجوّ) كوسيط. وإلى جانب الهواء (الجوّ) كوسيط للحرب، هناك البرّ والبحر و«السيبر» والفضاء الذي يبدو أن فكرة انتقال الحرب إليه أصبحت وشيكة وممكنة بعد التهديد الروسي الأخير حول ضرب كلّ الأقمار الصناعيّة التي تتدخّل في الحرب الأوكرانية لصالح كييف، حتى ولو كانت من القطاع الخاص.
- في التحوّل المهم
لم تعد الحرب فكراً، ولم تعد وسائلها محتكرة من العسكر فقط. فخلال الستينات، أدخل وزير الدفاع الأميركي روبرت مكنامارا المدنيين كمفكّرين استراتيجيين، وبدأنا نقرأ التحليلات حول السلاح النووي في كلّ أبعاده. وكان الأمر كأنه يُطابق قول رئيس الوزراء الفرنسي الراحل جورج كليمنصو عندما قال: «إن الحرب عمل مهّم وجدّي بحيث لا يؤتمن عليها العسكر». وفسّر البعض هذا القول على أنه مُهين للعسكر، أما البعض الآخر فقد فسّره على أن إدارة الحرب يجب أن تكون شراكة بين السياسيين والعسكر. وتحضرني هنا الأزمة الكوبيّة عام 1961، بين أميركا والاتحاد السوفياتي، والتي كان من الممكن أن تتحوّل إلى حرب نوويّة شاملة، وكيف عمل الرئيس كينيدي بذكاء ودهاء للخروج منها، في الوقت الذي طالب عسكره بتدمير كوبا.
لكن دخول المدنيين آنذاك إلى العمل الاستراتيجي - العسكريّ، كان فقط في المجال الفكري والأكاديميّ، حتى ولو عملوا ضمن الإدارات الأميركيّة المتتالية. فهم لم يكونوا يملكون الوسائل التي تُعد ضروريّة لخوض الحرب. فالإمكانيّات الماديّة، من النووي إلى التقليديّ، إلى جانب كلّ الوسائل الأخرى التي كانت تخدم هذه المنظومات العسكريّة، كانت كلّها بيد الدولة.

- ما الذي تغيّر الآن؟
سرّعت التكنولوجيا الحديثة عمليّة اتخاذ القرارات، حتى ولو كانت هذه القرارات مهمّة استراتيجيّاً وتتطلّب التمحيص والتفكير. فهل نستذكر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وتهديداته النووية بتدمير كوريا الشماليّة؟ لكن الأمر المهم اليوم هو أن القطاع الخاص، خصوصاً في أميركا، أصبح يملك الوسائل الأساسيّة لخوض الحروب، خصوصاً في مجالات الاتصالات، وفي وسائل التأثير على الرأي العام (وسائل التواصل الاجتماعيّ).
إذاً، أصبح الكثير من اللاعبين من خارج إطار الدولة، يملكون الفكر والثقافة الاستراتيجيّة، كما يملكون الوسائل ذات القيمة الاستراتيجيّة العليا. فهل يمكن اعتبارهم لاعبين جيوسياسيين على المستوى الكونيّ؟ بالطبع، ولكن حتى الآن، هم مهمّون بفكرهم ووسائلهم بمقدار ما تتطابق استراتيجيّتهم مع الاستراتيجيّة العليا لدولهم، كأن تتطابق استراتيجية إيلون ماسك مع استراتيجية إدارة بايدن.
- ماذا عن إيلون ماسك؟
حلّل البعض دور إيلون ماسك، مالك شركتي «تسلا»، و«سبايس - إكس»، على أنه مُفسد جيوسياسياً. فهو تدخّل في الحرب الأوكرانيّة عارضاً حلاّ يضرب سيادة الدولة الأوكرانيّة، كما تدخّل في الأزمة التايوانيّة عارضاً حلّاً آخر. وفي الحالتين تمّت مهاجمته. لكن دور ماسك المهمّ هو في تأمين الاتصالات لكلّ أوكرانيا، خصوصاً جيشها، وذلك عبر منظومة «ستارلينك» (Star Link). فالمعروف في الحروب أن القيادة والسيطرة هي من أهمّ أسباب نجاحات الحرب أو فشلها. وفي الحرب الأوكرانيّة، استمرّت الاتصالات الأوكرانية دون انقطاع بسبب ماسك. في المقابل عانى الجيش الروسي من سوء الاتصالات بين القيادات العليا وحتى المستوى التكتيكي. وعندما هدّد ماسك بإيقاف المساعدة لأوكرانيا، تدخّل البنتاغون فغيّر ماسك رأيه.
- الحرب في الفضاء؟
يعتمد الجيش الأميركي على نظام «GPS» لتحقيق ما يلي: تحديد الموقع والتموضع. للملاحة، كما لنقل المعلومات للقوى العسكريّة، مع التذكير بأن للجيش الأميركي موجات خاصة به لا يمكن لأحد استعمالها. وفي روسيا هناك نظام «GLONASS»، وفي أوروبا نظام «GALILEO»، أما الصين فلديها نظام «WEIBO». ويبحث البنتاغون اليوم عن نظام بديل للـ«GPS».
ويقول الخبراء إنه إذا قررت روسيا ضرب الأقمار التابعة لماسك، فهي بحاجة إلى 4000 صاروخ مضاد للأقمار، مع التذكير بأن النتيجة ليست مضمونة. واختبرت روسيا بنجاح في العام 2021 صاروخاً مضاداً للأقمار، عندما فجّرت قمراً صناعيّاً روسياً. لكن، هل تضمن هذه التجربة النجاح في حال حرب شاملة في الفضاء؟ ألم يُصنّف الجيش الروسي قبل الحرب على أوكرانيا على أنه جيش حديث، عصري وقادر على خوض حرب ضد القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركيّة؟ بالطبع. لكن نتيجة البيدر عاكست حسابات الحقل الروسي في المسرح الأوكرانيّ.
ويوجد في الفضاء حالياً 500 قمر صناعي لمراقبة الأرض، تملك الشركات الخاصة الأميركيّة نحو 350 منها. وتستغلّ الإدارة الأميركيّة هذا الوضع، بتشجيع هذه الشركات الخاصة عبر شراء الصور والمعلومات منها، ومن ثم استغلالها بسرعة وعلانية كما حصل قبيل بدء الحرب على أوكرانيا (كشف الانتشار الروسي). فالشراء من الشركات الخاصة يُسهّل على الإدارة العملية الروتينيّة البيروقراطيّة الطويلة جدّاً لنشر المعلومات المُصنّفة تحت علامة «سرّي جدّاً» (TOP SECRET).
في الختام، يعد الجو وسيطاً مهمّاً جداً في الحروب الحديثة. فهو نقطة الوصل (عبر القمر الصناعي) والوسيط بين الصاروخ والهدف. وهو نقطة الوصل بين القائد والجندي. لكن، يجب ألّا ننسى أن كلّ الوسائط التي ذكرناها أعلاه مترابطة بعضها مع بعض. فعل سبيل المثال، عندما نقول العالم الافتراضي، فإنما نقول بطريقة غير مباشرة إن وسيلة نقل المعلومة لهذا العالم هي عبارة عن 1.3 مليون كلم من الكابلات التي ترقد مثّبتة في إعماق المحيطات والبحار، وهي أهداف أسهل بكثير من الأقمار الصناعيّة.


مقالات ذات صلة

«أبتي علاء دينوف» أبرز المعلقين العسكريين على هجوم كورسك

أوروبا القائد العسكري الشيشاني أبتي علاء دينوف (لقطة من فيديو)

«أبتي علاء دينوف» أبرز المعلقين العسكريين على هجوم كورسك

بات القائد العسكري الشيشاني أبتي علاء الدينوف وجهاً مألوفاً للروس على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يطل عليهم معتمراً خوذة أو قبعة عسكرية ليقدم أخباراً إيجابية.

«الشرق الأوسط» (وارسو)
أوروبا روسيا تواصل هجومها على خاركيف (إ.ب.أ)

مقتل اثنين في هجوم روسي بالقنابل على منطقة خاركيف الأوكرانية

قال حاكم منطقة خاركيف الأوكرانية إن مدنيين قتلا وأصيب 8 آخرون، اليوم (السبت)، في هجوم روسي بالقنابل على إحدى قرى المنطقة.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا مجندون روسيون جرى استدعاؤهم للخدمة العسكرية وسط الصراع المستمر مع أوكرانيا (رويترز)

موقع مستقل يُحدد هويات أكثر من 66 ألف جندي روسي قُتلوا في أوكرانيا

أعلن موقع روسي مستقل، السبت، أنه تمكّن من تحديد هويات أكثر من 66 ألف جندي روسي قُتلوا منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022.

«الشرق الأوسط» (وارسو)
أوروبا لقطة من فيديو لوزارة الدفاع الروسية تظهر مروحية عسكرية من طراز «مي - 35» قرب الحدود مع أوكرانيا

روسيا: مقتل نحو 400 عسكري أوكراني في كورسك خلال 24 ساعة

أعلنت وزارة الدفاع الروسية مقتل 400 عسكري أوكراني خلال الـ24 ساعة الماضية، ليرتفع إجمالي قتلى القوات الأوكرانية إلى 8200 عسكري.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا عمل رجال الإنقاذ الأوكرانيون في موقع مبنى سكني متضرر من 12 طابقاً في أعقاب ضربة صاروخية في خاركيف شمال شرقي أوكرانيا (د.ب.أ)

روسيا تعلن سيطرتها على كيروفه في دونيتسك شرق أوكرانيا

أعلنت وزارة الدفاع الروسية، اليوم (السبت)، أن قواتها سيطرت على بلدة كيروفه في منطقة دونيتسك بشرق أوكرانيا، وفق «رويترز».

«الشرق الأوسط» (كييف)

قادة جزر المحيط الهادئ يحذفون الإشارة إلى تايوان من بيانهم بعد شكوى الصين

جانب من منتدى جزر المحيط الهادئ في 30 أغسطس 2024 في نوكوالوفا بتونغا (أ.ف.ب)
جانب من منتدى جزر المحيط الهادئ في 30 أغسطس 2024 في نوكوالوفا بتونغا (أ.ف.ب)
TT

قادة جزر المحيط الهادئ يحذفون الإشارة إلى تايوان من بيانهم بعد شكوى الصين

جانب من منتدى جزر المحيط الهادئ في 30 أغسطس 2024 في نوكوالوفا بتونغا (أ.ف.ب)
جانب من منتدى جزر المحيط الهادئ في 30 أغسطس 2024 في نوكوالوفا بتونغا (أ.ف.ب)

حذف منتدى جزر المحيط الهادئ الإشارة إلى تايوان من بيان صدر بعد اجتماع زعماء دول المنطقة السنوي بعد تلقي شكاوى من مبعوث الصين.

ونددت حكومة تايبيه بتصرفات الصين بوصفها «تدخلاً وقحاً»، حسب وكالة «رويترز» للأنباء.

ويضم التكتل المؤلف من 18 دولة، ثلاثة أعضاء تربطهم علاقات دبلوماسية مع تايوان و15 عضواً يعترفون بالصين، وهي مقرض رئيسي لمشروعات البنية التحتية الأساسية في دول جزر المحيط الهادئ حيث تسعى بكين إلى زيادة وجودها الأمني.

وتعتبر الصين أن تايوان إقليم تابع لها ليس له حق في إقامة علاقات مع الدول، وهو موقف ترفضه بشدة تايوان التي تتمتع بحكم ديمقراطي.

وتضمن بيان صدر أمس (الجمعة) على موقع المنتدى قسماً بعنوان: «العلاقات مع تايوان/جمهورية الصين»، وجاء فيه أن «القادة أكدوا قرار القادة لعام 1992 بشأن العلاقات مع تايوان/جمهورية الصين».

وتم حذف البيان من الموقع الإلكتروني في وقت لاحق مساء أمس بعد رد فعل غاضب من الصين، ونُشرت وثيقة جديدة صباح اليوم (السبت) مع حذف الإشارات إلى تايوان.

وعبّرت وزارة الخارجية التايوانية عن غضبها إزاء تصرفات الصين.

وقالت في بيان: «تندد تايوان بالتدخل الصيني الفظ وغير المعقول والسلوك غير العقلاني الذي يقوض السلام والاستقرار الإقليميين، وتدعو جميع الدول ذات التفكير المماثل إلى الانتباه عن كثب إلى تصرفات الصين». بيد أن الوزارة أشارت إلى أن البيان المشترك كما نُشر لا يقوض موقف تايوان من المنتدى ولا يمنعها من المشاركة به في المستقبل.

وبوصفها شريكاً في المنتدى منذ عام 1993، أرسلت تايوان تيان تشونغ كوانغ نائب وزير خارجيتها إلى تونغا لعقد لقاءات مع حلفائها الثلاثة في المحيط الهادئ بالاو وتوفالو وجزر مارشال.

وذكرت هيئة الإذاعة الأسترالية وصحيفة «نيكي» أن المبعوث الصيني الخاص إلى جزر المحيط الهادئ تشيان بو رد بغضب أمس (الجمعة)، قائلاً للصحافيين في تونغا إن الإشارة إلى تايوان في البيان «كانت بالتأكيد خطأ».

وأظهر موقع السفارة الصينية على الإنترنت أن تشيان مارس ضغوطاً الأسبوع الماضي من أجل استبعاد تايوان من الفعاليات الرسمية للمنتدى.

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية لين جيان في إفادة صحافية دورية في بكين أمس: «أي محاولة من سلطات تايوان لتعزيز شعورها بالوجود، من خلال حضور المنتدى، ليست سوى خداع للذات».