إشكالية العلاقة بين موروثنا النقدي والنقد الحديث

كتاب يدعو لتجاوز القطيعة الثقافية الراهنة

إشكالية العلاقة بين موروثنا النقدي والنقد الحديث
TT

إشكالية العلاقة بين موروثنا النقدي والنقد الحديث

إشكالية العلاقة بين موروثنا النقدي والنقد الحديث

تمثل إشكالية العلاقة بين موروثنا النقدي الكلاسيكي من جهة، والاتجاهات النقدية الحداثية، وما بعد الحداثية، من جهة أخرى، واحدة من الإشكاليات المؤرقة للناقد العربي، الذي يحرص دائماً على أن يضمن لوناً من التواصل بين هذين الحقلين، ويبتعد عن القطيعة التي تهيمن على هذه العلاقة حالياً.
وكتاب الدكتور علي حداد، أستاذ النقد الحديث في جامعة بغداد «ذلك من تأويله... نحو رؤية جديدة لقراءة النص الأدبي» الصادر عام 2022، هو إحدى المحاولات النقدية العربية الجادة في هذا الميدان، التي تسعى لإيجاد حلقات وصل بين هذين الحقلين النقديين، من خلال إعادة تفعيل وتشغيل بعض المصطلحات النقدية التراثية، وبثّ حياة جديدة فيها تمهيداً لإدراجها في ممارسة نقدية تطبيقية حية لنماذج أدبية حديثة وكلاسيكية.
وقد انطلق حداد في مشروعه هذا من خلال التقاط المصطلح البلاغي المعروف بـ«العدول» الذي يدرس عادة تحت باب «البديع» في البلاغة العربية، ومحاولة ضخّه بدلالات نقدية جديدة عبر مصطلح «التعليق» والسعي للخروج من الأفق الضيق لحدود المعنى البلاغي للمصطلح نحو فضاء أكثر انفتاحاً وحداثة من خلال مصطلح «التعليق». فقد اعتاد نقاد البلاغة العرب على عدّ «العدول» بمثابة «التفات» أو انكسار في توظيف ضمير ما إلى ضمير آخر، وهو ما نجده في النصوص الشعرية، مثلما نجده، بحدود أضيق، في النصوص السردية أيضاً، وهو يتمثل في الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة مثلاً.
هذا، ومن الجدير بالذكر أن هناك كثيراً من الدراسات النقدية العربية الحديثة حول مفهوم «العدول»، عبر مباحث وكتب كثيرة. فقد أصدر الدكتور «سعيد بكور» كتاباً تحت عنوان «مفهوم العدول»، سلط فيه الضوء على مختلف الجوانب الدلالية والوظيفية للمفهوم، وتطرق إلى ضوابط العدول وتمظهراته. ويرى المؤلف أن العدول يشكل الشرط الأساسي الضروري لكل شعر. كما نشر الباحث «د. محمد مختار جمعة مبروك» دراسة مستفيضة تحت عنوان «العدول وتطبيقاته بين القدماء والمحدثين... دراسة نقدية» أشار فيها إلى أن مفهوم «العدول» ينطوي على نوع من الخروج العادي للغة، بحيث يبتعد الشاعر أو الكاتب عما تقتضيه المعايير المقررة في النظام اللغوي المعياري. وتناول الباحث دلالة هذا المصطلح لدى عدد كبير من الباحثين والنقاد العرب القدامى والمحدثين، فتوقف عند رأي «ابن الأثير» الذي يرى أن مفهوم العدول يشمل الانتقال من صيغة إلى أخرى، ومن أسلوب إلى أسلوب، سواء أكان انتقالاً بين الضمائر كالعدول عن الخطاب إلى الغيبة، أم عن الغيبة إلى التكلم. كما أفاض الباحث في التعريف بوجهات نظر نقاد آخرين، أمثال القزويني والعلوي والتفتزاني والسكاكي والدسوقي وغيرهم. وتوقف الناقد عند رؤية النقاد المعاصرين لمفهوم «العدول» حيث يذهب د. محمد عبد المطلب إلى استكناه دلالة المصطلح من خلال مباحث علم «المعاني»، فيرى أن هذه المباحث تدور حول العدول عن النمط المألوف، على حسب مفهوم أهل اللغة، وتقاليدهم، في صناعة الكلام. ونبّه الباحث إلى تفضيل بعض هؤلاء النقاد المحدثين لمصطلح الانزياح Deviation عند الحديث على مصطلح «العدول» البلاغي، ومنهم الدكتور صلاح فضل، والدكتور عبد الحكيم راضي، وغيرهما. ومن هنا نكتشف أن النقاد العرب المحدثين قد أولوا مفهوم «العدول» كثيراً من الاهتمام، وأنها ليست المرة الوحيدة التي يتوقف فيها ناقد ما، أمام دلالة هذا المفهوم وتطبيقاته، كما أن النقد الأجنبي هو الآخر قد درس ظاهرة «العدول» هذه تحت مصطلح Apostophe كما فعل الناقد «جوناثان كللر» في كتابه وفي مطاردة العلامات In Pursuit of Signs التي عدّها جزءاً من المحسنات البلاغية Figuires of Speech وطبقها على كثير من النماذج الشعرية، وبشكل خاص على الشعر الرومانسي من خلال قصائد للشعراء وردزورث وكوليرج وبليك وشيللي وغيرهم.
ومن هنا، نجد أن جميع الثقافات قد انتبهت بصورة أو بأخرى إلى أهمية مفهوم العدول هذا، وأفادت منه إلى حدٍ كبير.
مساهمة حداد ارتادت مساحة واسعة من حدود المصطلح الدلالية، وفتحت الطريق أمام تطبيقات حية وناضجة على تجارب شعرية ونثرية ونصوص من القرآن الكريم. فقد تناول الباحث بالدراسة «سورة يوسف» ومظاهر التعليق فيها، كما درس محددات التعليق المستعادة في «رسالة الغفران» للمعري، وكتاب «ألف ليلة وليلة»، وتناول الباحث مظاهر «التعليق» في قصيدة السياب «أنشودة المطر»، كما توقف عند تجربة من الشعر النسوي متمثلة بنصوص للشاعرة «فرح دوسكي».
من المهم أن نلاحظ هنا رغبة الباحث د. علي حداد في التفرد بتناول مفهوم «العدول» البلاغي، بطريقة جديدة، ومحاولة البحث عن مصطلحات بديلة أو مقاربة له، فتوقف عند مصطلح «الالتفات» البلاغي، لكنه انصرف عنه إلى مصطلح آخر يراه أكثر فاعلية ودلالة، هو مصطلح «التعليق» الذي يكشف عن قدرات دلالية أوسع مما يقترحه مفهوم «الالتفات»، وذلك من خلال نقل المصطلح من أفقه الدلالي الحالي إلى فضاء الممارسة النقدية المثمرة.
ويرى الناقد أن مفهوم «التعليق» يشير إلى ما يحصل في النص من انتقالات أو تبدلات على مستوى الرؤية وسياق الدلالة، أو على مستوى التشكيل الفني في وجهته وتكويناته، لغة وصورة وإيقاعاً، تؤسس لإزاحة أو تأجيل مسار التعبير لصالح رؤية أخرى أو معنى آخر.
ويقدم الناقد مجموعة من المسوغات التي دفعته لتفضيل مصطلح «التعليق» بوصفه مجساً نقدياً قرائياً حديثاً. فهو يرى أن هذا المصطلح يضع بين أيدي الممارسة القرائية فضاءً متسعاً لفحص النص عبر وجوده الدلالي. ويلاحظ الباحث أن مفهوم «التعليق» يتبنى الكتابة مجالاً أساساً لفاعليته وهيكلية بنائه أكثر من الكلام الشفاهي. وتوقف الناقد عند تمظهرات «التعليق» في النصوص الأدبية، ومنها «التعليق السردي» و«التعليق المتداخل» و«تعليق التشبيه» و«التعليق المستعاد» و«التعليق النهائي» وغيرها.
وانصرف الباحث بعد ذلك لتأمل فاعلية «التعليق» في المنجز الشعري العربي، فتوقف أمام «المعلقات» وعدّ انتقالاتها الشعرية من غرض إلى آخر، من المقدمة الكلية إلى الحب، ومن ثم إلى المديح بمثابة مظاهر لمفهوم «التعليق»، كما عدّ الباحث شعر الموشح الأندلسي بمثابة لون من التعليق لأنه أنتج تشكيلاً جديداً من خلال الانتقالات التعبيرية والإيقاعية التي يتأسس عليها، خاصة حين يقيم نظامه الإيقاعي على نوع من «التعليق المتكرر» للمطلع، بعد كل مجموعة من الأبيات. واستعرض الباحث مظاهر «التعليق» في الشعر العربي الحديث، في قصيدة الشعر الحر عند نازك الملائكة والسياب، كما عبر عن قناعته بأن قصيدة النثر العربية قد «علقت» كثيراً مما كان لتجارب التجديد الشعري.
وتحدث الناقد عن مظاهر «التعليق» في النص القرآني الذي أرسى مرامي أداء وسياقات تعبير جديدة في النثر العربي «علقت» بعض ما كان متداولاً، مثل سجع الكهان والخطابة والرسائل. وأفرد الباحث فصلاً خاصاً، فحص فيه مظاهر التعليق في «سورة يوسف»، ومنها آليتا «الاستباق» و«الاسترجاع» السرديتان في السورة، في كون كل منهما تحمل مقاصدها من خلال «تعليق» لحظة الحكي الراهنة، والذهاب إما نحو القادم، أو النكوص نحو الماضي، واستعادة بعض الوقائع التي سبق ذكرها. ويرى الباحث أن القصة قد كشفت عن انتقالة مفصلية مهمة في حياة يوسف في «تعليق مؤقت» لما كان من أمر إخوته، وتذهب بعد أن أُخرج من الجبّ، والعيش في بيئة حضرية «علقت» من خلالها مرحلة البداوة.
ثم توقف الباحث عند محددات «التعليق المستعاد» في «رسالة الغفران» للمعري، وتمثلاته المتنوعة في كتاب «الف ليلة وليلة»، ثم حطّ رحاله أخيراً عند منطقة الشعر، وقصيدة «أنشودة المطر» تحديداً، للشاعر بدر شاكر السياب. ويرى الناقد أن القصيدة تتشكل من 3 مقاطع مسبوقة باستهلال غزلي، وسرعان ما سيتم «تعليقه» ليبدأ المقطع الثاني بصورة بوح جماعي، ثم يتم «تعليق» هذا المقطع لصالح المقطع الثالث المكثف الذي يتألف من كلمتين فقط «يهطل المطر». ويبدو «التعليق المستعاد» كما يعتقد الباحث أكثر حضوراً في القصيدة، وأبرز صوره تكرار الشاعر لكلمة «مطر» 3 مرات في ثنايا مقاطع القصيدة، ويلاحظ الباحث انطواء القصيدة على 3 أنواع من «التعليق المتداخل»، منها هذا الانتقال بين الضمائر «أنا» و«أنت» و«هو».
وفي اعتقادي الشخصي أن هذه التقنية يمكن لها أن تعالج أيضاً بشكل أفضل على وفق نظرية بنية التوازي Prallelism الحديثة، التي سبق لنا أن توقفنا عندها في دراسة خاصة، وهو ما لم يشر إليه الباحث.
وفي جواب على تساؤل عن دلالة ما الذي أرادت القصيدة أن تقوله، يرى الباحث أن المقطع الأول يعبر عن معاناة ذاتية، وتمت عملية «تعليقه» لصالح القسم الثاني الذي عكس المعاناة الجماعية، ثم «تعليق» الشاعر هذين القسمين لصالح القسم الثالث الذي «انتهت فيه أنماط المعاناة إلى أفق حياة جديدة». ويختتم الباحث كتابه بقراءة لديوان الشاعرة فرح دوسكي «أحاول دحرجة الأيام» بوصفه أنموذجاً للشعر الأنثوي.
ويدافع الباحث في الخاتمة عن منظوره الشخصي الذي دفعه لتبني مصطلح «التعليق»، فأشار إلى أن مسعاه في تخّير «التعليق» لم يكن مدعاة لإزاحة موروث آخر، أي «الالتفات»، بل كان نابعاً من رؤية مؤسسة على قناعة أن بإمكان نقدنا الحديث أن يضفي وعياً قرائياً جديداً على المصطلحات النقدية التراثية، بما يحقق الصلة بذلك التراث، لتجاوز أزمة القطيعة الثقافية الراهنة.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»