هل يشبه اليوم البارحة فعلاً بالصراعات والمصالح؟

صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
TT

هل يشبه اليوم البارحة فعلاً بالصراعات والمصالح؟

صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته

الماضي هو ذاكرة الحاضر، كما الحاضر هو ذاكرة المستقبل، علّنا نأخذ العبر من أخطاء الماضي كي لا نكررها.
إذا عدنا إلى الماضي؛ أي حقبة الخمسينات والستينات والسبعينات، نرى أن دول المنطقة، غير المستقرة سياسياً، لم تشجع العرب على تنفيذ أي مشاريع فيها لأسباب عديدة، أهمها:
- الاقتصاد الموجّه والمتقلب تبعاً للأمور السياسية، مما ولّد في بلدان عربية سلسلة من الانقلابات العسكرية بين الفينة والأخرى، في العراق وسوريا مثلاً، حيث كان هناك أكثر من انقلاب في الشهر الواحد تقريباً، مما جعل هذه البلدان غير مستقرة ومعرضة للمشكلات في أي لحظة.
- التأميم الذي حدث في مصر خلال عهد الرئيس جمال عبد الناصر، والذي كان مطلباً شعبياً، غالباً ما أدى إلى اهتزاز الوضع المالي والتمويلي للمستثمرين العرب، لذا فضلوا عدم المخاطرة وخسارة ثرواتهم هناك.
- البيئة الاجتماعية التي جعلت من الصعب على الأجنبي الاختلاط بالمجتمع وبالحياة اليومية للسكان الأصليين.
من المفيد أن نذكر فرضية نظرية الجماعة «Goup Hypthesis» في وضعية بلد عالم ثالثي... وسنختار فرضية ستة مفكرين حول تفسّخ الدول، كمثال قبرص ودول البلقان. وهذه الفرضية قابلة للتطبيق على أوضاع وأنماط مختلفة. وعلى أساس فرضية نظرية الجماعة، بالإمكان تكوين فرضية قابلة للتطبيق على وضع ما. وكان الهدف الأساسي لمنظّري الصراع الأوائل، مثل ميكيافيللي، وهوبس، ولوك، معرفة الروابط التي تجمع الدول بعضها ببعض. أما روسو، وبيرك، وماركس، فقد ركزوا أفكارهم على تماسك الجماعات والدفاع عنها وتطورها.
أما دويتش، فيعتبر أن أياً من المفكرين الستة لم يهتم بمسألة تفسخ الدول، أو المجموعات السكانية الكبيرة، إلى دول ومجموعات أصغر. لذا، فإن هؤلاء المفكرين الستة، بتركيزهم على تفسير لا تقسيم الجماعات، قد أهملوا جزءاً من العملية الاجتماعية – السياسية.
يفترض دويتش أن النظم الصراعية تتصف بالتفاوت أو التعارض السلبي. وفي تعامله وعلاقاته، يشجع النظام شريكاً على حساب آخر، حيث يُكافَأ الشريك الأول ويُعاقب الشريك الثاني. وإذا ما استطاعت الجماعات المتصارعة داخل النظام الواحد الوجود والتعايش لفترة طويلة، فسيكون باستطاعتها، في النهاية، تطوير وتكوين مصالح مشتركة. وهي؛ أي هذه المجموعات، ستستمر في تعايشها رغم الصراع إذا ما كانت الإجراءات والمصالح التي تحافظ على التعايش كثيرة ومتنوعة. ولكي تستمر النظم بالحياة، على العلاقات والمعاملات أن تبنى على أساس التشجيع والمكافأة للأفراد والأجهزة التي تؤلف النظام، لا على أساس المعاقبة والقهر. فيما يعتبر هورتم أن النظام الصراعي بمثابة صراع سياسي مكثف ومستمر بين المجموعات ذات الأهداف العالمية المتعارضة. هذا الصراع يؤدي إلى ما يسميه لاغون بـ«نموذج – الصراع». وهذا النموذج يحدد النظم السياسية المؤلفة من وحدات متعارضة. وتتصف أهداف هذه الوحدات بالممانعة المتبادلة. إنها تعمل في «وضع نتيجة جمعه صفر»؛ بمعنى أن ربحاً لمجموعة ما يوازيه خسارة مماثلة لمجموعة أخرى. ويمكن عرض تلخيص لاغون لفرضيات «النموذج – الصراع» على الشكل التالي:
1 – تتصف كل النظم الاجتماعية بدرجات متفاوتة من اللامساواة.
2- إن التغيير كامن في نظام اجتماعي.
3- يتأثر كل من الاستمرار والتغيير بالقوة النسبية للأحزاب المتنافسة، وليس بالصراع بحد ذاته. وبمعنى آخر، يأتي التغيير الاجتماعي من التحولات الحاصلة في موازين القوى.
إن الصراع المستمر بين المجموعات المتنازعة والمتنافسة ذات الأهداف والغايات المتعارضة، سيؤدي حتماً إلى تحول في ميزان القوى، وسيؤدي أيضاً إلى التغيير واللامساواة في النظام الاجتماعي، إلا أنه إذا ما أرادت هذه المجموعات أن تتعايش وتوجد بعضها مع بعض لفترة طويلة من الزمن، فيمكن ساعتئذ أن تطور وتنمي مصالح مشتركة. ومع ذلك، عادة ما تتجاهل المصالح المشتركة أي نظام صراعي يمكن أن يشكّل عائقاً أمام التعايش بين الأحزاب الموجودة والمتنازعة؛ لأن هذه الأحزاب ستنمي مع مرور الزمن مصالح مشتركة شكّلتها الإجراءات التي تكافئ الأفراد الذين يؤيدون النظام.
أما بالنسبة إلى لبنان خلال الحرب الأهلية التي بدأت في 13 أبريل (نيسان) 1975، واستمرت سنوات طويلة، حيث نرى أن الجماعات المتصارعة والمتقاتلة والمتضاربة المصالح في نظام واحد، أخذت على المدى الطويل تتقارب بعضها من بعض لتكوّن مصالح مشتركة وتتعايش معها؛ تتحارب نهاراً وتتسامر و»تتجاور» ليلاً. لذا نرى من المفيد أن نذكر فرضية الجماعة؛ إذ إنه على الرغم من أن بعض القطاعات فيه قد بدت لفترة ما أنها موحدة ومتينة إلى حد ما (كالمؤسسات العسكرية والحكومة خلال الحرب الأهلية)، فإن لبنان لم يكن بشكل عام وطناً ودستوراً موحداً لمجتمع مترابط وموحد وذي انتماء، ولم يعمل كل أبنائه بوحدة متراصة من أجل كل أفراده وجماعاته. وهذه الهوة المحفورة هي التي شكّلت الأرض الخصبة التي شجعت بعض الأفراد على أن تشكّل وتصبح أحزاباً متنافسة، أو مجموعات ذات مصالح متصارعة. وكرّست كل مجموعة حزبية معرفتها ومهاراتها لمصلحة الحزب أو المجموعة، لا لمصلحة الجمهور والمجتمع بأسرهما.
في عام 1987، أخبرني أحد الإيطاليين، وهو صديق عزيز لأحد أصدقائي، بهذه المغامرة المدهشة التي عاشها خلال وجوده في لبنان بين عامي 1976 و1977:
«في صباح يوم قارس، وقفت في بيروت على ضفة البحر، حيث كوّة من المياه تفصل بيروت عن نقطة الالتقاء الرمزية لبيروت الشرقية والغربية، من هناك يمكنك أحياناً رؤية الزوارق التجارية وهي تدفع الأمواج باتجاه البحر المتوسط. وفي الجهة الخلفية، ارتفعت مآذن وقباب الجوامع في المدينة بشكل رائع وساحر، ثم ما لبثت أن توجهت إلى الجانب الأسوأ لخط الاتصال التجاري القديم هذا... وعند الغسق انعطفت نحو شارع قذر باتجاه مقهى الملقى (café redez-vous)، حيث قابلت هناك تاجراً معروفاً كان يشكّل مصدر معلوماتي. وأخذت من الرجل أسماء وأماكن وتواريخ كانت كلها عبارة عن قطع متنافرة تجمّع بعضها مع بعض في تلك الليلة ليولد بعد أشهر من البحث والمحاولة صورة مذهلة: إن المخططين قد أنشأوا تجارة ضخمة لتجار المخدرات في الغرب ولطالبي السلاح من الإرهابيين في كل لبنان. وأخبرني مصدر المعلومات هذا بأنه سيُقتل إذا ما كُشف أمره».
إن مصادري غير الرسمية المدعمة باستنتاجات علمية واقتصادية ثابتة، تصب في هذا الاتجاه ذاته. فجأة، وكالطاعون، انتشرت عملية تعاطي المخدرات في أرجاء كثيرة من العالم، محطمة الأرواح، وحاصدة الموت والدمار والجريمة. ولسنوات عديدة شكّلت هي والإجرام المحرك الأساسي لتجارة المخدرات، لكن هذا البلد الصغير (لبنان) لم يتوقف عن زراعة نبتة الحشيش بشكل غير مشروع حتى يومنا هذا، وتصنيعها بأشكال مختلفة، كحبوب «الكبتاغون» وغيرها، والتفنن في إخفائها والاتجار بها وتصديرها إلى الخارج، حتى وصل أخيراً إلى دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، مما تسبب في قطع علاقاتها مع لبنان لفترة، دبلوماسياً واقتصادياً وتجارياً... إلخ، لفترة. أما الآن فعادت العلاقات إلى مجاريها أخيراً؛ لأن لبنان لا يستطيع أن يعيش بسلام ووئام وازدهار من غير أشقائه العرب في المنطقة العربية.
لم يستسلم المخططون على الإطلاق، بل بدأوا بعد دراسة معمقة حرب التجويع. فعبر أجهزة شيطانية غير قانونية، بدأ الدولار بالارتفاع، أحياناً رويداً رويداً، وأحياناً بجنون، ليضاعف سعره في نحو ثلاثة عقود آلاف الأضعاف؛ إذ كان يساوي 2.25 ليرة لبنانية في السبعينات، ووصل في عام 2022 إلى عتبة الأربعين ألفاً.
وبدأت الاتحادات العمالية والصناعية تطالب، آنذاك، بتعديل الأجور من دون أن يكون هناك إنتاج موازٍ (كما يحدث اليوم)، مما دفع بحلقة التضخم نحو الارتفاع والجنون؛ أي الكثير من المال لشراء القليل من السلع. ولم تشكّل الزيادات في الأجور مالاً حقيقياً بسبب فقدان الإنتاج الموازي، ولم يكن هذا المال ذا قوة شرائية. وكلما حصل العمال على زيادات في الأجور، ارتفع التضخم وبدأ الاقتصاد يسير في حلقة مفرغة. وازدهرت المرافئ غير الشرعية في طول البلاد وعرضها، حارمةً الدولة من دخل جمركي مهم جداً. ولم تُدفع الضرائب ولا فواتير الهاتف والكهرباء في مناطق واسعة من لبنان، مما حرم الدولة كذلك من جزء من السيولة النقدية، وتبعاً لذلك كان على مصرف لبنان المركزي إما أن يتردد في فتح الاعتمادات أو يرفضها، وخاصة في مجالات استيراد النفط الخام، وقطع الغيار الضرورية لتشكيل الكهرباء، وسائل الغاز، وغيرها من المشتقات لتلبية الطلبات اللامتناهية.
وبدأ الدولار بالارتفاع، وبدأت الاتحادات تطالب بتعديل الأجور (تُستعمل كلمة «أجور» هنا مكان كلمة «زيادة»). والتضخم ووتيرة التضخم تتصاعد بشكل جنوني، وأصبح من المستحيل منع توقف زيادة أسعار السلع الاستهلاكية.
في وضعنا القائم، وما يحدث اليوم في عام 2022، أننا نشهد ارتفاعاً جنونياً في سعر صرف الدولار بشكل يومي، وحتى بين ساعة وأخرى، مما ينعكس سلباً على حياة الناس ومعيشتهم. لذا، أود أن أقترح حلاً قد يوافق عليه البعض ويرفضه البعض الآخر، وهو كالآتي: بما أن السعر يحدده العرض والطلب في السوق، وأسعار السلع التجارية خاضعة لهذه القاعدة، فلماذا لا نعتبر العملة سلعة تجارية أخرى تخضع للنظام نفسه، ونترك للسوق الحر تحديد سعر العملة؟ إذا حدث ذلك فحينئذ يشترط على الدولة، إن وجدت الإرادة والجدية، اتخاذ إجراءات صارمة لإقفال كل مكاتب الصيرفة غير الشرعية، وجعل المصدر الوحيد للعملة هو البنوك ومكاتب الصيرفة الشرعية التي تقوم بعملية صرف الدولار والعملات الأخرى. وبهذا تتوقف السوق السوداء تلقائياً، ويتوقف عملها. وهكذا ينخفض الطلب على الدولار، ومن ثم ينخفض سعره مقابل الليرة. وبما أننا في ظروف استثنائية، فيجب أيضاً، فرض ضريبة استثنائية غير عادية أيضاً على شراء الدولار. وهذا الاقتراح لا يتناقض والوضع القائم في البلد، ولا يؤدي إلى أي تغيير في القوانين الضرائبية التي تفرضها الدولة. إن الأمر لا يتعدى ببساطة تثبيت سعر العملة الأجنبية على أساس العرض والطلب في سوق حر (لنسمها ضريبة شراء العملة الأجنبية)، تقدر بخمسين في المائة (يمكن زيادتها وقت الضرورة) على مشتري الدولار والعملات الأجنبية الأخرى. من المفيد أن نذكر هنا أن المضاربين والتجار هم الذين يشترون العملة الأجنبية. فيما يخص مستوردي السلع (التجار والصناعيين)، فمن الممكن إعادة الضريبة لهم، شرط أن تكون البضائع قد وصلت فعلاً، لا عبر السندات التجارية المطلوبة فقط.
ما يحدد الوضع الاقتصادي لبلد ما، هو مدى تأثيره ومركز قوته داخل الأسرة الدولية من جهة، وداخل منطقة جغرافية معينة من جهة أخرى. كما أن حجم ومصدر نمو وإنتاج هذا البلد ودخله القومي يحددان وضعه العسكري أيضاً. لهذا كله، فعلى لبنان أن يطور وضعه الاقتصادي بغية تحسين مركزه وتأثيره في الأسرة الدولية، خاصة أنه، وبعد طول انتظار منذ الخمسينات، ستبدأ عملية الحفر قريباً، وسيُكتشف النفط في مناطقه البرية وبلوكاته البحرية، لينضم ويأخذ مكانه ضمن الأسرة النفطية كبلد نفطي.
* باحثة لبنانية



مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
TT

مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)

أمضت تركيا أكثر من 22 عاماً تحت حكم حزب «العدالة والتنمية» الذي شهدت مسيرته محطات حرجة وتحديات سياسية واقتصادية، بين صعود وهبوط، وانعكست على السياسة الخارجية على وجه الخصوص.

الحزب ذو الجذور الإسلامية الذي أسسه الرئيس رجب طيب إردوغان ومجموعة من رفاقه أبرزهم الرئيس السابق عبد الله غل، والسياسي المخضرم بولنت أرينتش، ظهر في 14 أغسطس (آب) 2001، وفاز منفرداً بحكم تركيا في أول انتخابات تشريعية خاضها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002، وبقي في الحكم حتى الآن.

وخاض الحزب في البداية صدامات مع النخبة العلمانية والجيش والقضاء وصلت ذروتها عند ترشيح عبد الله غل، الذي كان وزيراً للخارجية، للرئاسة عام 2007 خلفاً للرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزر.

أزمات ومعارك

أحدث ترشيح غل أزمة كبيرة في تركيا التي شهدت تجمعات مليونية في أنقرة وإسطنبول رفضاً له. وأفلت الحزب أيضاً من الحل في دعوى أقيمت ضده أمام المحكمة الدستورية التي قضت بالغرامة المالية دون الإغلاق في عام 2008، بسبب انتهاكه «مبادئ العلمانية».

ومنذ عام 2010، بدأ الحزب حملة تغييرات واسعة، عبر تعديل الدستور، بعدما استفاد من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي التي انطلقت رسمياً عام 2005 في إرساء العديد من حزم الإصلاحات في النظام القضائي والقوانين.

وخاص الحزب العديد من المعارك، كما نزع فتيل محاولات استهدفته على غرار قضايا «أرجنكون» و«المطرقة» و«القفص» التي حاول فيها عسكريون الإطاحة بحكومة إردوغان.

وعد إردوغان، الرجل القوي الذي لا يزال قابضاً بقوة على السلطة في تركيا، أن احتجاجات «غيزي بارك» في مايو (أيار) 2013، وما أعقبها من تحقيقات «الفساد والرشوة» التي جرت في 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، كانت محاولات للإطاحة بحكومته.

ونُسبت تحقيقات في تهم فساد ورشوة طالت أبناء وزراء في حكومة إردوغان ورجال أعمال مقربين منه، وامتدت إلى أفراد عائلته، إلى حركة «الخدمة» التي تزعمها حليفه الوثيق السابق، فتح الله غولن، الذي توفي منذ أشهر.

حشد من الأتراك يحتفلون وسط إسطنبول فوق دبابة هجرها ضباط من الجيش بعد محاولة انقلاب فاشلة في 16 يوليو 2016 (غيتي)

مواجهة أخيرة

كانت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو (تموز) 2016، التي نفذتها مجموعة من الجيش، نُسب إليها الانتماء إلى حركة غولن، هي آخر المواجهات التي مكنت إردوغان من إخضاع المؤسسة الحامية للعلمانية في البلاد (الجيش) بعدما تمكن من السيطرة على أجهزة الأمن والقضاء عقب تحقيقات الفساد والرشوة، وقام بتطهيرها من أنصار غولن، الذي كان حليفاً لحزب «العدالة والتنمية» منذ ظهوره.

ووسط هذه المعارك التي مكنت إردوغان وحزبه من السيطرة على جميع مفاصل الدولة وإزالة مشكلة حظر الحجاب من أجندة تركيا، كان الحزب يخوض مسار صعود اقتصادي أزال أثر الأزمة الحادة التي عاشتها البلاد في 2001، وكانت العامل الأساسي في فوزه الكاسح بأول انتخابات يخوضها.

صعود اقتصادي وتقلبات سياسية

استمر الصعود الاقتصادي، وساعد في ذلك اعتماد حزب «العدالة والتنمية» سياسة «صفر مشاكل» مع دول الجوار التي أسس لها وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي تولى لاحقاً رئاسة الحكومة، التي كان لها الفضل في إذابة الجليد في علاقات تركيا مع محيطها في الشرق الأوسط والعالم العربي، فضلاً عن توسيع علاقات تركيا بالشرق والغرب.

ولم تخف توجهات السياسة التركية في هذه الفترة اعتمادها على نظرية «العثمانية الجديدة»، واستعادة مناطق النفوذ، التي انطلقت من نظرية «العمق الاستراتيجي» لـ«داود أوغلو»، وبعدما بدأت تركيا التمدد من الدول العربية إلى أفريقيا اعتماداً على أدوات الدبلوماسية الناعمة والمساعدات الإنسانية وعامل الدين والتاريخ المشترك، جاء ما عرف بـ«الربيع العربي» ليقلب سياسة تركيا إلى التدخل المباشر والخشن عبر أدوار عسكرية امتدت من سوريا وليبيا إلى القرن الأفريقي، وفتحت لها باب التوسع بإقامة القواعد العسكرية في الخارج.

وتسبب انحياز تركيا إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات متشددة، ودعمها في تونس ومصر وسوريا وليبيا، في حصارها في المنطقة، وهو ما حاول سياسيوها تبريره بشعار «العزلة القيمة».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان... ربع قرن عاصف بالتحولات (غيتي)

بين الكرد والقوميين

جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 لتضيف مزيداً من التوتر إلى علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين بسبب ما عدّته أوروبا وأميركا، استغلالاً لها في سحق معارضي إردوغان على اختلاف انتماءاتهم وليس أنصار غولن فقط، والتوسع في انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير عبر الاعتقالات الواسعة، وإغلاق المنصات الإعلامية، وهو ما أدى إلى «دفن» مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي كانت مجمدة بالفعل منذ عام 2012.

الحال، أن الانسداد في العلاقات مع أوروبا كان قد تأجج في فترة الانتخابات البرلمانية في تركيا عام 2015 التي شهدت مصادمات مع الكرد، وخسر فيها حزب «العدالة والتنمية» الأغلبية للمرة الأولى في الانتخابات التي أجريت في 7 يونيو (حزيران) من ذلك العام للمرة الأولى في مسيرته، قبل أن يلجأ إردوغان إلى الانتخابات المبكرة في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، ليفوز بها حزبه.

وفي هذه الفترة كان «العدالة والتنمية» أطلق في عام 2013 مبادرة للسلام الداخلي وحل المشكلة الكردية، قبل أن يعلن إردوغان إنهاءها في 2015 قائلاً إنه لا توجد مشكلة كردية في تركيا.

وأثبتت القضية الكردية أنها الورقة التي يلجأ إليها إردوغان في لحظات الضعف التي يمر بها حزبه وتتراجع شعبيته، فقد عاد الحديث في الأسابيع الماضية عن مبادرة جديدة للحل، أطلقها رئيس حزب «الحركة القومية»، الحليف لإردوغان، دولت بهشلي، ودعا من خلالها إلى حوار مباشر مع زعيم حزب «العمال الكردستاني» المحكوم بالسجن مدى الحياة في تركيا، عبد الله أوجلان، بل دعوته للحديث في البرلمان، والنظر في العفو عنه.

وجاءت هذه الخطوة، كما يرى مراقبون، محاولة من إردوغان لجذب كتلة أصوات الكرد بعد الهزيمة التي تلقاها حزبه في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي، بعدما فاز بصعوبة بالغة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023، والحصول على دعم نواب حزب «الديمقراطية المساواة للشعوب»، المؤيد للكرد لفتح الطريق أمام إردوغان للترشح للرئاسة للمرة الرابعة في انتخابات مبكرة تُجرى قبل عام 2028 بطلب من 360 نائباً، وهو ما لا يملكه «تحالف الشعب»، الذي تأسس مع تحول البلاد إلى النظام الرئاسي عام 2018، ليضم حزب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، وأحزاب قومية وإسلامية أخرى صغيرة مثل «الوحدة الكبرى»، و«هدى بار».

وتسبب التحالف مع القوميين في انتقال «العدالة والتنمية» من حزب وسطي إصلاحي يخدم الشعب بلا تمييز ويعمل على دفع الاقتصاد والانضمام للاتحاد الأوروبي، إلى حزب يرفع شعارات الفكر القومي والأمة، ويبشر بالعثمانية الجديدة و«الوطن الأزرق» في ظل نظام يصفه معارضوه في الداخل وحلفاؤه في الغرب بأنه يكرس الديكتاتورية وحكم الفرد منذ إقرار النظام الرئاسي من خلال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها عام 2017.

إردوغان (يمين) ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني في ديار بكر جنوب تركيا نوفمبر 2013 (غيتي)

ألغاز السياسة الخارجية

ربما تكون السياسة الخارجية لتركيا تحت حكم إردوغان و«العدالة والتنمية» هي أكبر الألغاز المحيرة، فبعدما أريد لها الانفتاح وتصفير المشاكل، انتقلت منذ 2011 إلى التدخل في أزمات المنطقة، ثم رفعت شعار «العزلة القيمة»، بعدما حدثت شروخ عميقة في العلاقات مع محيط تركيا الإقليمي من مصر إلى دول الخليج إلى سوريا والعراق، في مرحلة ما، ثم محاولة العودة بعد 10 سنوات ضائعة إلى مسعى «تصفير المشاكل» مرة أخرى.

وهكذا عملت تركيا على إصلاح العلاقات مع دول الخليج ومصر، وعدم التمادي في تدمير العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من إدانتها الصارخة لحربها في غزة ولبنان وهجماتها في سوريا، وصولاً إلى الحوار الإيجابي مع اليونان وأرمينيا.

واتسمت هذه السياسة أيضاً بتبديل غير مستقر للمحاور بين الشرق والغرب، عبر محاولة توظيف ورقة العلاقات مع روسيا والصين وإيران، وتقديم طلب عضوية في مجموعة «بريكس»، والحضور في قمة منظمة شنغهاي للتعاون على المستوى الرئاسي، للضغط من أجل تحريك مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكسر فتور العلاقات مع أميركا.

وشكل التذبذب في العلاقات بين تركيا وروسيا ملمحاً مميزاً، وكذلك مع إيران، لكن بصورة أقل علانية، إلى أن دخلت العلاقات معهما منعطفاً حاداً بسبب التطورات الأخيرة التي أطاحت بحكم بشار الأسد في سوريا، فضلاً عن عدم الرضا من جانب روسيا عن نهج تركيا في التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية.

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان على هامش قمة منظمة شنغهاي في سمرقند سبتمبر 2022 (أ.ف.ب)

هواجس المستقبل

الآن، وبعد نحو ربع قرن ساد فيها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، يبدو أن إردوغان يجد صعوبة كبيرة في تنفيذ وعده لناخبيه عقب فوزه بالرئاسة في مايو 2023 بتأسيس «قرن تركيا».

يواجه إردوغان الآن معارضة عرفت طريقها إلى الشارع بعد أكثر من 22 عاماً من التشتت، وركاماً اقتصادياً أجهض ما تحقق من مكاسب في الحقبة الذهبية لحزبه، الذي أتى بالاقتصاد، والذي قد يرحل بسببه، بعدما بدأ رحلة تراجع منذ تطبيق النظام الرئاسي في 2018، مع صعوبة التغلب على المشاكل الهيكلية، وكسر حلقة التضخم الجامح وغلاء الأسعار وتآكل الدخل.

كما يدخل الحزب عام 2025 مع سؤال كبير وملحّ: «هل يضعف (العدالة والتنمية) أو يتلاشى إذا غابت عنه قيادة إردوغان القوية؟»، ومع هذا السؤال يبدو أن سيناريوهات مقبلة في الطريق لإبقاء الرجل على رأس الحزب والسلطة في تركيا.