هل يشبه اليوم البارحة فعلاً بالصراعات والمصالح؟

صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
TT

هل يشبه اليوم البارحة فعلاً بالصراعات والمصالح؟

صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته
صورة نشرها الجيش اللبناني في «تويتر» لموقوف ومخدرات ضبطها في أثناء إحدى مداهماته

الماضي هو ذاكرة الحاضر، كما الحاضر هو ذاكرة المستقبل، علّنا نأخذ العبر من أخطاء الماضي كي لا نكررها.
إذا عدنا إلى الماضي؛ أي حقبة الخمسينات والستينات والسبعينات، نرى أن دول المنطقة، غير المستقرة سياسياً، لم تشجع العرب على تنفيذ أي مشاريع فيها لأسباب عديدة، أهمها:
- الاقتصاد الموجّه والمتقلب تبعاً للأمور السياسية، مما ولّد في بلدان عربية سلسلة من الانقلابات العسكرية بين الفينة والأخرى، في العراق وسوريا مثلاً، حيث كان هناك أكثر من انقلاب في الشهر الواحد تقريباً، مما جعل هذه البلدان غير مستقرة ومعرضة للمشكلات في أي لحظة.
- التأميم الذي حدث في مصر خلال عهد الرئيس جمال عبد الناصر، والذي كان مطلباً شعبياً، غالباً ما أدى إلى اهتزاز الوضع المالي والتمويلي للمستثمرين العرب، لذا فضلوا عدم المخاطرة وخسارة ثرواتهم هناك.
- البيئة الاجتماعية التي جعلت من الصعب على الأجنبي الاختلاط بالمجتمع وبالحياة اليومية للسكان الأصليين.
من المفيد أن نذكر فرضية نظرية الجماعة «Goup Hypthesis» في وضعية بلد عالم ثالثي... وسنختار فرضية ستة مفكرين حول تفسّخ الدول، كمثال قبرص ودول البلقان. وهذه الفرضية قابلة للتطبيق على أوضاع وأنماط مختلفة. وعلى أساس فرضية نظرية الجماعة، بالإمكان تكوين فرضية قابلة للتطبيق على وضع ما. وكان الهدف الأساسي لمنظّري الصراع الأوائل، مثل ميكيافيللي، وهوبس، ولوك، معرفة الروابط التي تجمع الدول بعضها ببعض. أما روسو، وبيرك، وماركس، فقد ركزوا أفكارهم على تماسك الجماعات والدفاع عنها وتطورها.
أما دويتش، فيعتبر أن أياً من المفكرين الستة لم يهتم بمسألة تفسخ الدول، أو المجموعات السكانية الكبيرة، إلى دول ومجموعات أصغر. لذا، فإن هؤلاء المفكرين الستة، بتركيزهم على تفسير لا تقسيم الجماعات، قد أهملوا جزءاً من العملية الاجتماعية – السياسية.
يفترض دويتش أن النظم الصراعية تتصف بالتفاوت أو التعارض السلبي. وفي تعامله وعلاقاته، يشجع النظام شريكاً على حساب آخر، حيث يُكافَأ الشريك الأول ويُعاقب الشريك الثاني. وإذا ما استطاعت الجماعات المتصارعة داخل النظام الواحد الوجود والتعايش لفترة طويلة، فسيكون باستطاعتها، في النهاية، تطوير وتكوين مصالح مشتركة. وهي؛ أي هذه المجموعات، ستستمر في تعايشها رغم الصراع إذا ما كانت الإجراءات والمصالح التي تحافظ على التعايش كثيرة ومتنوعة. ولكي تستمر النظم بالحياة، على العلاقات والمعاملات أن تبنى على أساس التشجيع والمكافأة للأفراد والأجهزة التي تؤلف النظام، لا على أساس المعاقبة والقهر. فيما يعتبر هورتم أن النظام الصراعي بمثابة صراع سياسي مكثف ومستمر بين المجموعات ذات الأهداف العالمية المتعارضة. هذا الصراع يؤدي إلى ما يسميه لاغون بـ«نموذج – الصراع». وهذا النموذج يحدد النظم السياسية المؤلفة من وحدات متعارضة. وتتصف أهداف هذه الوحدات بالممانعة المتبادلة. إنها تعمل في «وضع نتيجة جمعه صفر»؛ بمعنى أن ربحاً لمجموعة ما يوازيه خسارة مماثلة لمجموعة أخرى. ويمكن عرض تلخيص لاغون لفرضيات «النموذج – الصراع» على الشكل التالي:
1 – تتصف كل النظم الاجتماعية بدرجات متفاوتة من اللامساواة.
2- إن التغيير كامن في نظام اجتماعي.
3- يتأثر كل من الاستمرار والتغيير بالقوة النسبية للأحزاب المتنافسة، وليس بالصراع بحد ذاته. وبمعنى آخر، يأتي التغيير الاجتماعي من التحولات الحاصلة في موازين القوى.
إن الصراع المستمر بين المجموعات المتنازعة والمتنافسة ذات الأهداف والغايات المتعارضة، سيؤدي حتماً إلى تحول في ميزان القوى، وسيؤدي أيضاً إلى التغيير واللامساواة في النظام الاجتماعي، إلا أنه إذا ما أرادت هذه المجموعات أن تتعايش وتوجد بعضها مع بعض لفترة طويلة من الزمن، فيمكن ساعتئذ أن تطور وتنمي مصالح مشتركة. ومع ذلك، عادة ما تتجاهل المصالح المشتركة أي نظام صراعي يمكن أن يشكّل عائقاً أمام التعايش بين الأحزاب الموجودة والمتنازعة؛ لأن هذه الأحزاب ستنمي مع مرور الزمن مصالح مشتركة شكّلتها الإجراءات التي تكافئ الأفراد الذين يؤيدون النظام.
أما بالنسبة إلى لبنان خلال الحرب الأهلية التي بدأت في 13 أبريل (نيسان) 1975، واستمرت سنوات طويلة، حيث نرى أن الجماعات المتصارعة والمتقاتلة والمتضاربة المصالح في نظام واحد، أخذت على المدى الطويل تتقارب بعضها من بعض لتكوّن مصالح مشتركة وتتعايش معها؛ تتحارب نهاراً وتتسامر و»تتجاور» ليلاً. لذا نرى من المفيد أن نذكر فرضية الجماعة؛ إذ إنه على الرغم من أن بعض القطاعات فيه قد بدت لفترة ما أنها موحدة ومتينة إلى حد ما (كالمؤسسات العسكرية والحكومة خلال الحرب الأهلية)، فإن لبنان لم يكن بشكل عام وطناً ودستوراً موحداً لمجتمع مترابط وموحد وذي انتماء، ولم يعمل كل أبنائه بوحدة متراصة من أجل كل أفراده وجماعاته. وهذه الهوة المحفورة هي التي شكّلت الأرض الخصبة التي شجعت بعض الأفراد على أن تشكّل وتصبح أحزاباً متنافسة، أو مجموعات ذات مصالح متصارعة. وكرّست كل مجموعة حزبية معرفتها ومهاراتها لمصلحة الحزب أو المجموعة، لا لمصلحة الجمهور والمجتمع بأسرهما.
في عام 1987، أخبرني أحد الإيطاليين، وهو صديق عزيز لأحد أصدقائي، بهذه المغامرة المدهشة التي عاشها خلال وجوده في لبنان بين عامي 1976 و1977:
«في صباح يوم قارس، وقفت في بيروت على ضفة البحر، حيث كوّة من المياه تفصل بيروت عن نقطة الالتقاء الرمزية لبيروت الشرقية والغربية، من هناك يمكنك أحياناً رؤية الزوارق التجارية وهي تدفع الأمواج باتجاه البحر المتوسط. وفي الجهة الخلفية، ارتفعت مآذن وقباب الجوامع في المدينة بشكل رائع وساحر، ثم ما لبثت أن توجهت إلى الجانب الأسوأ لخط الاتصال التجاري القديم هذا... وعند الغسق انعطفت نحو شارع قذر باتجاه مقهى الملقى (café redez-vous)، حيث قابلت هناك تاجراً معروفاً كان يشكّل مصدر معلوماتي. وأخذت من الرجل أسماء وأماكن وتواريخ كانت كلها عبارة عن قطع متنافرة تجمّع بعضها مع بعض في تلك الليلة ليولد بعد أشهر من البحث والمحاولة صورة مذهلة: إن المخططين قد أنشأوا تجارة ضخمة لتجار المخدرات في الغرب ولطالبي السلاح من الإرهابيين في كل لبنان. وأخبرني مصدر المعلومات هذا بأنه سيُقتل إذا ما كُشف أمره».
إن مصادري غير الرسمية المدعمة باستنتاجات علمية واقتصادية ثابتة، تصب في هذا الاتجاه ذاته. فجأة، وكالطاعون، انتشرت عملية تعاطي المخدرات في أرجاء كثيرة من العالم، محطمة الأرواح، وحاصدة الموت والدمار والجريمة. ولسنوات عديدة شكّلت هي والإجرام المحرك الأساسي لتجارة المخدرات، لكن هذا البلد الصغير (لبنان) لم يتوقف عن زراعة نبتة الحشيش بشكل غير مشروع حتى يومنا هذا، وتصنيعها بأشكال مختلفة، كحبوب «الكبتاغون» وغيرها، والتفنن في إخفائها والاتجار بها وتصديرها إلى الخارج، حتى وصل أخيراً إلى دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، مما تسبب في قطع علاقاتها مع لبنان لفترة، دبلوماسياً واقتصادياً وتجارياً... إلخ، لفترة. أما الآن فعادت العلاقات إلى مجاريها أخيراً؛ لأن لبنان لا يستطيع أن يعيش بسلام ووئام وازدهار من غير أشقائه العرب في المنطقة العربية.
لم يستسلم المخططون على الإطلاق، بل بدأوا بعد دراسة معمقة حرب التجويع. فعبر أجهزة شيطانية غير قانونية، بدأ الدولار بالارتفاع، أحياناً رويداً رويداً، وأحياناً بجنون، ليضاعف سعره في نحو ثلاثة عقود آلاف الأضعاف؛ إذ كان يساوي 2.25 ليرة لبنانية في السبعينات، ووصل في عام 2022 إلى عتبة الأربعين ألفاً.
وبدأت الاتحادات العمالية والصناعية تطالب، آنذاك، بتعديل الأجور من دون أن يكون هناك إنتاج موازٍ (كما يحدث اليوم)، مما دفع بحلقة التضخم نحو الارتفاع والجنون؛ أي الكثير من المال لشراء القليل من السلع. ولم تشكّل الزيادات في الأجور مالاً حقيقياً بسبب فقدان الإنتاج الموازي، ولم يكن هذا المال ذا قوة شرائية. وكلما حصل العمال على زيادات في الأجور، ارتفع التضخم وبدأ الاقتصاد يسير في حلقة مفرغة. وازدهرت المرافئ غير الشرعية في طول البلاد وعرضها، حارمةً الدولة من دخل جمركي مهم جداً. ولم تُدفع الضرائب ولا فواتير الهاتف والكهرباء في مناطق واسعة من لبنان، مما حرم الدولة كذلك من جزء من السيولة النقدية، وتبعاً لذلك كان على مصرف لبنان المركزي إما أن يتردد في فتح الاعتمادات أو يرفضها، وخاصة في مجالات استيراد النفط الخام، وقطع الغيار الضرورية لتشكيل الكهرباء، وسائل الغاز، وغيرها من المشتقات لتلبية الطلبات اللامتناهية.
وبدأ الدولار بالارتفاع، وبدأت الاتحادات تطالب بتعديل الأجور (تُستعمل كلمة «أجور» هنا مكان كلمة «زيادة»). والتضخم ووتيرة التضخم تتصاعد بشكل جنوني، وأصبح من المستحيل منع توقف زيادة أسعار السلع الاستهلاكية.
في وضعنا القائم، وما يحدث اليوم في عام 2022، أننا نشهد ارتفاعاً جنونياً في سعر صرف الدولار بشكل يومي، وحتى بين ساعة وأخرى، مما ينعكس سلباً على حياة الناس ومعيشتهم. لذا، أود أن أقترح حلاً قد يوافق عليه البعض ويرفضه البعض الآخر، وهو كالآتي: بما أن السعر يحدده العرض والطلب في السوق، وأسعار السلع التجارية خاضعة لهذه القاعدة، فلماذا لا نعتبر العملة سلعة تجارية أخرى تخضع للنظام نفسه، ونترك للسوق الحر تحديد سعر العملة؟ إذا حدث ذلك فحينئذ يشترط على الدولة، إن وجدت الإرادة والجدية، اتخاذ إجراءات صارمة لإقفال كل مكاتب الصيرفة غير الشرعية، وجعل المصدر الوحيد للعملة هو البنوك ومكاتب الصيرفة الشرعية التي تقوم بعملية صرف الدولار والعملات الأخرى. وبهذا تتوقف السوق السوداء تلقائياً، ويتوقف عملها. وهكذا ينخفض الطلب على الدولار، ومن ثم ينخفض سعره مقابل الليرة. وبما أننا في ظروف استثنائية، فيجب أيضاً، فرض ضريبة استثنائية غير عادية أيضاً على شراء الدولار. وهذا الاقتراح لا يتناقض والوضع القائم في البلد، ولا يؤدي إلى أي تغيير في القوانين الضرائبية التي تفرضها الدولة. إن الأمر لا يتعدى ببساطة تثبيت سعر العملة الأجنبية على أساس العرض والطلب في سوق حر (لنسمها ضريبة شراء العملة الأجنبية)، تقدر بخمسين في المائة (يمكن زيادتها وقت الضرورة) على مشتري الدولار والعملات الأجنبية الأخرى. من المفيد أن نذكر هنا أن المضاربين والتجار هم الذين يشترون العملة الأجنبية. فيما يخص مستوردي السلع (التجار والصناعيين)، فمن الممكن إعادة الضريبة لهم، شرط أن تكون البضائع قد وصلت فعلاً، لا عبر السندات التجارية المطلوبة فقط.
ما يحدد الوضع الاقتصادي لبلد ما، هو مدى تأثيره ومركز قوته داخل الأسرة الدولية من جهة، وداخل منطقة جغرافية معينة من جهة أخرى. كما أن حجم ومصدر نمو وإنتاج هذا البلد ودخله القومي يحددان وضعه العسكري أيضاً. لهذا كله، فعلى لبنان أن يطور وضعه الاقتصادي بغية تحسين مركزه وتأثيره في الأسرة الدولية، خاصة أنه، وبعد طول انتظار منذ الخمسينات، ستبدأ عملية الحفر قريباً، وسيُكتشف النفط في مناطقه البرية وبلوكاته البحرية، لينضم ويأخذ مكانه ضمن الأسرة النفطية كبلد نفطي.
* باحثة لبنانية



فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
TT

فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)

لعلّه من المغري لكل جيل أن يظن أنه يعيش تغيّراً حادّاً، وأنه يقف عند نقطة تحول في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فإن قول ذلك اليوم هو بالتأكيد أكثر صحة من أي وقت مضى. والدليل -لا جدال فيه- أن أبناء جيلي (جيل طفرة المواليد) في فترة ما بعد الحرب العالمية يعيشون تجربة غير عادية؛ لقد وُلدوا في عالم واحد، بين الدول الأوروبية والأميركية، وسوف يختفون في عالم آخر، معولم، لا مركزي، ومن دون أي حدود مكانية.

في لغة العلاقات الدولية يعني ذلك تحولاً وحشياً وانتقالاً غير منضبط من نظام مشترك بين الدول ومهيمن، عمره نحو 4 قرون، إلى عولمة متكاملة لم يعد لها مركز، ولا قيادة واضحة أو حاسمة، التي تتشكّل من خلال عدد من الجهات الفاعلة التي تخضع لأوضاع مختلفة (سياسية، واقتصادية، ودينية... إلخ) وقبل كل شيء من خلال التواصل المعمم.

من السهل تخمين العوامل التي تقف وراء هذا التمزق. إنها بالتأكيد مسألة التقدم التكنولوجي الذي ألغى المسافات، وزاد بشكل خيالي من التبادلات، ورؤية الجميع للجميع، مثل الأحداث الكبرى، بطرق لم يكن من الممكن تصوّرها في العالم من قبل.

تحوّل جدار برلين إلى رمز لانقسام أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجالَيْن سوفياتي وغربي (أ.ف.ب)

يُضاف إلى ذلك مزيد من الأسباب السياسية: إنهاء الاستعمار شبه الكامل الذي شهد ولادة الجنوب العالمي، بدءاً من الانتصار المنهجي للضعفاء على الأقوياء، وسقوط جدار برلين، الذي كَسر القواعد التي تنظّم التنافس بين القوى القديمة، لقد تم إضفاء الطابع الرسمي عليها في أعقاب عام 1945، وكان البناء التجريبي للعولمة أكثر تعقيداً بكثير من مجرد ازدهار الليبرالية الجديدة التي كانت تُشير بسذاجة إلى «نهاية التاريخ». وتحقيق الهيمنة الأميركية، ولكنه أكثر إثارة للجدل من أي وقت مضى.

لفترة طويلة، لم نرغب في رؤية الآثار الهائلة لمثل هذه الطفرات. كان انتصار المعسكر الغربي على المعسكر السوفياتي بمثابة نهاية للثنائية القطبية، من خلال خلق وهم السلام الأميركي الذي حافظ حتى على وهم نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي.

تم الحفاظ على الـ«ناتو»؛ حيث كان يعتقد أنه لا ينبغي المساس بالفريق الفائز. وكانت خيبة الأمل قوية: فقد هُزمت الولايات المتحدة في الصومال، والعراق، ثم في أفغانستان، وسرعان ما ظهرت الصين باعتبارها المستفيد الأكبر من العولمة التي كانت تُحرر نفسها من المجال الأميركي. كان هذا الإحباط الشديد هو السبب وراء التراجع الترمبي والقومي والهويتي والحمائي، الذي سرعان ما سيطر على أوروبا، التي كان عليها أن تعاني من النكسات التي جلبها العالم الجديد، خصوصاً في أفريقيا.

هذا في الواقع خرق يُبطل القواعد القديمة، ولكنه أيضاً يُبطل ممارسات ورؤى وحتى مفاهيم «جغرافيتنا السياسية» القديمة: لن يتعافى حتى تصبح اللعبة العالمية الجديدة، المكونة من الاعتماد المتبادل والتنقل والديناميكيات الاجتماعية، أكثر كفاءة بشكل لا نهائي.

ثلاثة إخفاقات

من استراتيجيات القوة القديمة هو كتابة تاريخ جديد. أولئك الذين يعرفون كيفية القيام بذلك سوف يفوزون، أما الآخرون، الراسخون في حنينهم، فسيخاطرون بأن يجدوا أنفسهم معزولين ومهمشين بشكل تدريجي. وهكذا شهدت العقود الأولى من هذه الألفية الجديدة ثلاثة إخفاقات على الأقل: إخفاق القوة الكلاسيكية، وإخفاق التحالفات التقليدية، وإخفاق التراجع الوطني. الأمر متروك للجميع لاستخلاص العواقب.

إن فشل القوة يُشير إلى تقادم الاستراتيجية التي استلهمها كلوزفيتز، فلم تعد الحرب قادرة على حل المشكلات التي تخلّت عنها السياسة في السابق، وذلك بسبب افتقارها إلى الفاعلية التي كانت تنسب إليها بالأمس. لم تعد هناك حرب تحمل هذه «المعركة الحاسمة»، التي أشار إليها الاستراتيجي البروسي، التي حدّدت الفائز بوضوح.

وبعيداً عن كونها علامة القوة، فإن الحرب اليوم ترتدي ثياب الضعف: حرب الأقوياء، الذين أصبحوا عاجزين في الصراعات الأفريقية والآسيوية والأوروبية اليوم، حرب الأطراف الذين يذهبون في أغلب الأحيان إلى الصراع، ولم يعودوا في صراعات. باسم السلطة، ولكن تحت تأثير التحلل المؤسسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. لهذه الأسباب تتتابع اتفاقات السلام، ولكن بقدر متزايد من عدم الفاعلية، في حين تستنزف القوى الإقليمية والعالمية نفسها دون أن تكسب شيئاً.

أدى إنهاء الاستعمار إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول (أ.ب)

إن عجز القوة، المرتبط بالعولمة القائمة على الاعتماد المتبادل والشمول المعمم، لا يدمّر فكرة الهيمنة القديمة فحسب، بل أيضاً فكرة التحالف أو الكتلة أو المعسكر. لقد أدى إنهاء الاستعمار، والفرص التي أتاحها مؤتمر باندونغ، ثم سقوط جدار برلين، إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول، التي أدركت تدريجياً أن التأثيرات غير المتوقعة كانت أكثر ربحية بكثير من التحالفات المبرمجة مسبقاً. وعلى هذا، فإن العالم القائم على تحالفات تواجه بعضها بعضاً قد نجح في عالم مجزّأ ومرن؛ حيث أصبحت «التحالفات المتعددة» أو الشراكات المرنة والمتغيرة هي القانون الآن. ويجد العالم الغربي نفسه معزولاً، وهو محاصر في حصن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينضح بجو من الثقة بالنفس يُحافظ على عدم الثقة بأولئك الذين هم خارجه، خصوصاً في الجنوب العالمي.

هناك إغراء كبير لتصفية الحسابات، بإحياء القومية والسيادة والانغلاق على الذات، وغالباً ما يذهب الأمر إلى حدّ الدلالات العنصرية، أو على أي حال هرمية. ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يسفر عن شيء؛ كما قال الفيلسوف تزفيتان تودوروف: «ليس لدى القوميين ما يبيعونه». وهذا التأكيد واضح في عالم تحكمه العولمة؛ حيث يتعيّن علينا أن نتعلّم كيف نعيش في نظام دولي يتسم بالتبادل. وتخاطر الشعبوية الوطنية بتعزيز قوتها تحت تأثير الخوف، في حين تظل عالقة في موقف احتجاجي حصري. إنها علامة من علامات زمن التحولات؛ حيث يبدو خيار الاحتجاج أفضل من تحمُّل مسؤولية الحكم.

* خبير فرنسي في العلاقات الدولية