في دراسة الطبيعة والمجتمع... للعلم معان مختلفة

فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)
فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)
TT

في دراسة الطبيعة والمجتمع... للعلم معان مختلفة

فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)
فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)

القرن السابع عشر، قرن حاسم في تاريخ البشرية، ففيه حدثت ثورة معرفية غير مسبوقة. في القرن السابع عشر نشر إسحاق نيوتن نظريات وقوانين المادة والحركة التي فتحت مساراً جديداً تماماً لمعرفتنا بالكون. غير أن وصف هذه الثورة المعرفية بـ«العلم» لم يحدث إلا في القرن التاسع عشر، عندما ميز الفرنسي أوغيست كومت لأول مرة بين الفلسفة الطبيعية (natural philosophy) والعلم، فحتى ذلك الوقت كان إنتاج المعرفة العلمية امتداداً لتقاليد الفلسفة الطبيعية المعروفة منذ زمن أرسطو. المفارقة هي أن كومت لم يكن من منتجي المعارف الفيزيائية، ولكنه كان الداعية الأول، أو على الأقل الأشهر والأهم، لتأسيس «علم الاجتماع (sociology)».
كان كومت مفتوناً بالتطور الحادث في العلوم الطبيعية، فدعا إلى تأسيس علم يدرس المجتمع، مسترشداً بالمنهج المتبع في العلوم للطبيعة، حتى إنه سمى العلم الاجتماعي الذي دعا إليه بـ«الفيزياء الاجتماعية».
وضع كومت أسس الفلسفة/ الوضعية وروج لها باعتبارها المنهج العلمي لدراسة المجتمع، فنشر في ثلاثينات القرن التاسع عشر كتابه «منهج الفلسفة الوضعية» في خمسة أجزاء، خصص الأجزاء الثلاثة الأولى منها لاستعراض التقدم الحادث في علوم الطبيعة ومناهجها المتبعة، فيما خصص الجزأين الأخيرين لشرح تصوراته عن علم الاجتماع الذي تبنى الدعوة إليه.
لتعزيز دعوته لتأسيس علم الاجتماع، قال كومت إن العلم الجديد سيعالج المشكلات التي يعاني منها المجتمع.
كان هذا في أعقاب الثورة الفرنسية، بكل ما جلبته من تحديات لبلده فرنسا. ربما كان هذا أحد الفروق المبكرة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، فبينما لعب الفضول والرغبة في الاكتشاف والمعرفة الدور الرئيس في تطوير العلوم الطبيعية، فإن المنفعة الاجتماعية كانت وراء الدعوات المبكرة لتأسيس العلم الاجتماعي، في مفارقة كبرى مع المآل التاريخي لنوعي المعرفة بعد قرنين من الزمان، حيث تضاعفت القيمة النفعية للعلوم الطبيعية آلاف المرات، فيما تحوم شكوك حول المنفعة التي تجلبها العلوم الاجتماعية. صحيح، إن بعض مؤسسي العلم الطبيعي الحديث - فرنسيس بيكون نموذجاً - دعوا العلماء لتركيز جهودهم على المعرفة المفيدة، إلا أن هذا لم يكن سوى رأي الأقلية الذي لم يتوقف عنده أحد، حتى إن العلم الحديث لم يسهم مباشرة في تطوير المخترعات وزيادة الثروة إلا بعد فرنسيس بيكون بأربعة قرون.
فالمخترعات الحديثة، التي غيرت شكل العالم خلال الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لم تتم على يد علماء، إنما تمت على يد فئة جديدة من المبادرين المبتكرين، الذين امتلكوا معارف تقنية، وقدراً مناسباً من الثروة، واتبعوا أساليب التجربة والخطأ لتطوير مخترعات عظيمة مثل النول الميكانيكي والقاطرة البخارية والمصباح الكهربائي ومحرك الاحتراق والسيارة.
لقد تم تطوير كل هذه المخترعات بعيداً عن الأكاديميات العلمية، وعلى يد مستثمرين طموحين. «المستثمر المخترع» هو الفئة التي قادت الثورة الصناعية، وكان على العالم أن ينتظر حتى القرن العشرين لتتكون الرابطة الأقوى بين العلم والتكنولوجيا والصناعة في عصر اقتصاد المعرفة الراهن.
العلوم الطبيعية تدرس الثبات والاستمرارية، بينما العلوم الاجتماعية تدرس التغير والانقطاع، وهذا فارق شديد الأهمية بين نوعي المعرفة.
المادة بأشكالها وأحوالها هي موضوع دراسة العلوم الطبيعية، بكل ما تتسم به المادة والقوانين الحاكمة لها من ثبات منذ الانفجار الكبير. على العكس من ذلك فقد ولد العلم الاجتماعي في القرنين الثامن عشر والتاسع، عندما أخذ المجتمع في التغير بسرعة بسبب المطبعة، وانتشار التعليم، والصناعة، وسهولة السفر، وتراكم الثروات، وظهور طبقات اجتماعية جديدة، ونشوب ثورات كاسحة قلبت النظام الاجتماعي رأساً على عقب.
هذه التغيرات السريعة هي ما لفت نظر علماء الاجتماع، وهي السبب الذي من أجل دراسته تأسس العلم الاجتماعي، فهل درس الآباء المؤسسون لعلم الاجتماع، ماركس ودوركايم وفيبر، شيئاً سوى التغير الاجتماعي؟
العلم الطبيعي يدرس الظاهرة الطبيعة الثابتة فيشرحها (explain)، فيما العلم الاجتماعي يدرس الظاهرة الاجتماعية المتغيرة، فيزيد معدلات تغيرها سرعة.
عندما يقول الماركسيون إن الرأسمالية نظام محكوم عليه بالسقوط بفعل تناقضاته، وإن الثورة هي طريق خلاص البروليتاريا المعذبة، فهم يحرضون العمال لتنظيم أنفسهم، بينما تأخذ الحكومات والرأسماليون حذرهم، فيقدمون تنازلات للعمال، ويجتهدون لاختراق تنظيماتهم النقابية والحزبية، فتكف الطبقة العاملة عن أن تكون معذبة، ولا تحدث الثورة، ويستمر النظام الرأسمالي باقياً.
الماركسية، ومثلها كل النماذج المعرفية راديكالية الطابع، تخلط بين تفسير الظاهرة الاجتماعية والعمل بنشاط لتغيير الواقع الاجتماعي.
الحركية الأكاديمية (academic activism) المنتشرة في جامعات غربية كثيرة ترفع الحواجز بين قاعات الدرس والميدان، فيجري تسييس العلم الاجتماعي، وتختلط وظائف الشرح والتفسير والتعبئة والتحريض والتغيير.
علوم الطبيعة تراكمية، تتراكم فيها المعرفة طبقة فوق أخرى بشكل تدريجي، فيبحث العلماء كل في مجال اهتمامه، انطلاقاً من الافتراضات نفسها المستمدة من النموذج المعرفي paradigm، الذي يتوافق العلماء على صلاحيته كنموذج تفسيري للكون وظواهر الطبيعة، والذي يعد العمل في إطاره شرطاً للتمتع بالشرعية والاعتراف من الجماعة العلمية.
غير أن المشكلات تتراكم، ويتزايد عدد الأسئلة التي يعجز النموذج المعرفي السائد عن الإجابة عنها بشكل مقنع، فيظهر نموذج جديد يقدم إجابة عن الأسئلة التي وقف النموذج السابق أمامها عاجزاً.
هذه هي لحظة حدوث الثورة العلمية، التي يحدث فيها ما أسماه توماس كون «استبدال النموذج (paradigm shift)»، فيحل النموذج الجديد محل النموذج القديم، وتنتقل الممارسة العلمية كلياً إلى الإطار والنموذج الجديد.
لقد مثل النموذج المعرفي الذي طوره إسحاق نيوتن في نهايات القرن السابع عشر، النموذج المتوافق عليه بين كل العلماء لأكثر من قرنين من الزمان، حتى جاء ألبرت أينشتاين في مطلع القرن العشرين ليضع نظرية النسبية، لتصبح هي النموذج والإطار الجديد الذي تتم الممارسة العلمية في داخله، وفقط في داخله.
تتطور العلوم الاجتماعية وفقاً لمنطق مختلف، فهناك قدر أقل من التراكم وقدر أكبر من التوازي والتجاور. دارس العلوم الاجتماعية لا يمكنه التقدم إلى الأمام دون أن يقرأ الأصول الكلاسيكية بنفسه، والعلماء الاجتماعيون ما زلوا يقرأون ماركس وفيبر وميكيافيللي وأرسطو.
على العالم الاجتماعي الجيد أن يبدأ القصة من بدايتها في كل مرة؛ لأن التراكم محدود، ولأن كل قراءة طازجة للكلاسيكيات تخلق فرصة لتأسيس جديد تماماً. أمر كهذا لا يعد ضرورياً بالمرة لدى علماء الطبيعة، فالمرء بإمكانه أن يصبح عالم فيزياء متميزاً دون أن يقرأ النصوص التي كتبها كوبرنيكس وجاليلي ولا حتى نيوتن، فهو يصدق ما نقله له عنهم من سبقه من العلماء؛ لأنهم جميعاً يعملون ضمن النموذج المعرفي نفسه، ويفهمون النصوص العلمية بالشكل نفسه.
النماذج المعرفية في العلوم الاجتماعية لا تزيح بعضها، أو تحل محل بعضها البعض. النماذج الجديدة تظهر، فتزاحم النماذج القديمة، لكن لا تحل محلها. الماركسية والحركات الاجتماعية والبنائية الوظيفية والنسوية وما بعد الكولونيالية، هي قائمة جزئية بنماذج معرفية شائعة في العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن. تعدد النماذج المعرفية، وما يأتي معها من تعدد البرامج والتقاليد البحثية يصيب العلم الاجتماعي بالتفتت، ويجعله فاقداً لبؤرة التركيز، له هويات متعددة، فنبدو أحياناً كما لو كنا نتحدث عن علم اجتماعي متعدد، وليس علم اجتماعي واحد.
لكن ماذا يبقى من العلوم الاجتماعية لو فقدت التعددية الراهنة؟ هل ستصبح العلوم الاجتماعية أفضل حالاً لو انضبط العلماء جميعاً في إطار نموذج معرفي واحد، الماركسي أو الوظيفي أو النسوي؟
الإجابة هي بوضوح لا.
يبدو أن تشتت الهوية هو الثمن المتعين على العلم الاجتماعي دفعه للحفاظ على التعدد الضروري لفهم ظاهرة اجتماعية معقدة تستعصي على التبسيط والاختزال.
ربما كانت المشكلة ليست في تعدد النماذج المعرفية، وإنما في حروب القبائل التي تنشب بين جماعات العلماء والباحثين من المدارس العلمية المختلفة، والتي تمنع تعظيم الاستفادة من تعدد النماذج والمدارس، فتدفع المعرفة لتعدديتها ثمناً أعلى بكثير مما يمكن أن تدفعه لو أن هناك درجة أعلى من التعايش والتعاون العابر للنماذج المعرفية.
* باحث مصري



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».