رؤساء العراق في العهد الجمهوري

عبد السلام عارف  -  صدام حسين  -  جلال طالباني
عبد السلام عارف - صدام حسين - جلال طالباني
TT

رؤساء العراق في العهد الجمهوري

عبد السلام عارف  -  صدام حسين  -  جلال طالباني
عبد السلام عارف - صدام حسين - جلال طالباني

بعد 38 سنة من الحكم الملكي الذي بدأ عام 1921 بتتويج الملك فيصل الأول، تحوَّل العراق إلى النظام الجمهوري صبيحة 14 يوليو (تموز) 1958. المفارقة أن العهد الجمهوري بدأ دون رئيس جمهورية، إنما عبر «مجلس سيادة» كان قد تألّف من 3 شخصيات هي: نجيب الربيعي (سني)، ومحمد مهدي كبّة (شيعي)، وخالد النقشبندي (كردي سني)، ليتولى هذا المجلس مهامّ رئيس الجمهورية.
غير أنه من الناحية الفعلية، كان قائد انقلاب 14 يوليو (تموز) 1958 عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، هو الحاكم الفعلي للبلاد. ففي العراق من يتولى منصب القائد العام للقوات المسلحة يصبح هو الحاكم الفعلي، وهو ما يلاحَظ، اليوم، في العهد الجمهوري الثاني الذي بدأ بعد عام 2003 بسقوط نظام صدام حسين على يد القوات الأميركية. فمع أن 5 شخصيات تولّت منصب رئيس الجمهورية بعد إسقاط النظام العراقي السابق، فإن السلطة الفعلية بقيت بيد رئيس الوزراء الذي يتولى في الوقت نفسه منصب القائد العام للقوات المسلحة طبقاً للدستور. والدستور العراقي نفسه، الذي جرى التصويت عليه عام 2005، أعطى رئيسَ الجمهورية مهمة حماية الدستور والسهر على تطبيقه، لكنه جرّده من معظم الصلاحيات التي تمكِّنه من حماية الدستور.
رؤساء العراق في العهد الجمهوري كان أوّلهم عبد السلام محمد عارف، الذي أنهى حكم زميله وصديقه عبد الكريم قاسم في انقلاب 8 فبراير (شباط) عام 1963، كان عسكرياً برتبة مشير؛ وهي أعلى رتبة في المؤسسة العسكرية العراقية آنذاك. ولقد شغل عبد السلام عارف منصب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة معاً. وبذا أصبحت السلطات كلها بيديه، بحيث أصبح رئيس الوزراء موظفاً عنده وإن كان بدرجة رفيعة.
بعد عبد السلام عارف، الذي قُتل بحادث سقوط طائرته عام 1966، جاء شقيقه الأكبر عبد الرحمن عارف الذي كان يحمل رتبة فريق. وخلال حكم حزب البعث العربي الاشتراكي الذي بدأ عام 1968، تولّى عسكري محترف آخر هو أحمد حسن البكر منصب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة. وحتى صدام حسين، الذي جاء بعد البكر، منح نفسه - وهو المدني - أعلى رتبة في الجيش العراقي؛ وهي الرتبة التي كان يحملها البكر (مهيب ركن) كي يسيطر على كل مقاليد الأمور في الدولة.
ولكن، بعد عام 2003 تغيّر الأمر تماماً. فمناصب الرئاسات الثلاث جرى توزيعها حسب المكوّنات الرئيسة الثلاثة (الشيعة والسنة والكرد) لكن بمضامين مختلفة. فمنصب رئيس الوزراء الذي أُنيطت به مهمة قيادة القوات المسلحة أصبح من حصة الشيعة بوصفهم المكوّن السكاني الأكبر في البلاد، ومن ثم فإن المنصب التنفيذي الأول (رئاسة الوزراء) أصبح من حصتهم. أما منصب رئيس الجمهورية ذي المهام التشريفاتية الرمزية فقد أصبح من حصة الكرد، ما عدا الفترة الانتقالية، في حين صارت رئاسة البرلمان حصة العرب السنة.
الحاكم المدني الأميركي بول بريمر (2003 ـ 2004)، كان يدير الأمور فعلياً في العراق بسلطات مطلقة منحه إياها الرئيس الأميركي (آنذاك) جورج بوش الابن، بينما يديرها شكلياً ما سُمّي في حينه «مجلس الحكم». ولقد تولى غازي الياور (أحد شيوخ قبيلة شمذر) منصب أول رئيس جمهورية انتقالي بعد سقوط حكم صدام حسين. هذه الفترة الانتقالية التي أمضاها الياور رئيساً للعراق بلا أية صلاحية، لم تتعدّ السنة الواحدة. وخلال تلك السنة (2004 ـ 2005)، حين لم يكن هناك برلمان، أُوكلت كل السلطات التشريعية والتنفيذية إلى أول رئيس وزراء بعد التغيير هو الدكتور إياد علاوي.
وفي عام 2005 حين أُجريت الانتخابات وانتُخب أول برلمان، سُمّي جلال طالباني أول رئيس منتخب للعراق لدورتين. وبعد انتهاء ولاية جلال طالباني (تُوفي قبل نهاية ولايته) انتُخب زميله في حزب «الاتحاد الوطني الكردستاني» فؤاد معصوم رئيساً (2014 ـ 2018). وكان معصوم قد تنافس مع الرئيس السابق الدكتور برهم صالح، ولقد فاز معصوم بالتصويت داخل كتلة التحالف الكردستاني، قبل توزع الحزبين الكرديين على كتلتين.
وفي عام 2018 فاز الدكتور صالح، على مرشح «الحزب الديمقراطي الكردستاني» فؤاد حسين. وفي تلك الفترة كان الرئيس الحالي الدكتور عبد اللطيف رشيد قد طرح نفسه مرشحاً مستقلاً، لكن الجولة حُسمت لصالح.
وأخيراً، عام 2022، مع اشتداد الخلاف بين الحزبين الكرديين، وبروز الخلاف الشخصي بين برهم صالح ومسعود، طرح عبد اللطيف رشيد نفسه مرشحاً مستقلاً ليظفر في نهاية المطاف بالمنصب، ليكون بذلك الرئيس الخامس، والكردي الرابع الذي يتولى رمزياً أعلى منصب في الدولة العراقية.


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

المشرق العربي الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

حثت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة لدى العراق، جينين هينيس بلاسخارت، أمس (الخميس)، دول العالم، لا سيما تلك المجاورة للعراق، على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث التي يواجهها. وخلال كلمة لها على هامش فعاليات «منتدى العراق» المنعقد في العاصمة العراقية بغداد، قالت بلاسخارت: «ينبغي إيجاد حل جذري لما تعانيه البيئة من تغيرات مناخية». وأضافت أنه «يتعين على الدول مساعدة العراق في إيجاد حل لتأمين حصته المائية ومعالجة النقص الحاصل في إيراداته»، مؤكدة على «ضرورة حفظ الأمن المائي للبلاد».

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي بارزاني: ملتزمون قرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل

بارزاني: ملتزمون قرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل

أكد رئيس إقليم كردستان العراق نيجرفان بارزاني، أمس الخميس، أن الإقليم ملتزم بقرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل، مشيراً إلى أن العلاقات مع الحكومة المركزية في بغداد، في أفضل حالاتها، إلا أنه «يجب على بغداد حل مشكلة رواتب موظفي إقليم كردستان». وأوضح، في تصريحات بمنتدى «العراق من أجل الاستقرار والازدهار»، أمس الخميس، أن الاتفاق النفطي بين أربيل وبغداد «اتفاق جيد، ومطمئنون بأنه لا توجد عوائق سياسية في تنفيذ هذا الاتفاق، وهناك فريق فني موحد من الحكومة العراقية والإقليم لتنفيذ هذا الاتفاق».

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي رئيس الوزراء العراقي: علاقاتنا مع الدول العربية بلغت أفضل حالاتها

رئيس الوزراء العراقي: علاقاتنا مع الدول العربية بلغت أفضل حالاتها

أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن علاقات بلاده مع الدول العربية الشقيقة «وصلت إلى أفضل حالاتها من خلال الاحترام المتبادل واحترام سيادة الدولة العراقية»، مؤكداً أن «دور العراق اليوم أصبح رياديا في المنطقة». وشدد السوداني على ضرورة أن يكون للعراق «هوية صناعية» بمشاركة القطاع الخاص، وكذلك دعا الشركات النفطية إلى الإسراع في تنفيذ عقودها الموقعة. كلام السوداني جاء خلال نشاطين منفصلين له أمس (الأربعاء) الأول تمثل بلقائه ممثلي عدد من الشركات النفطية العاملة في العراق، والثاني في كلمة ألقاها خلال انطلاق فعالية مؤتمر الاستثمار المعدني والبتروكيماوي والأسمدة والإسمنت في بغداد.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي السوداني يؤكد استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»

السوداني يؤكد استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»

أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»، داعياً الشركات النفطية الموقّعة على جولة التراخيص الخامسة مع العراق إلى «الإسراع في تنفيذ العقود الخاصة بها». جاء ذلك خلال لقاء السوداني، (الثلاثاء)، عدداً من ممثلي الشركات النفطية العالمية، واستعرض معهم مجمل التقدم الحاصل في قطاع الاستثمارات النفطية، وتطوّر الشراكة بين العراق والشركات العالمية الكبرى في هذا المجال. ووفق بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء، وجه السوداني الجهات المختصة بـ«تسهيل متطلبات عمل ملاكات الشركات، لناحية منح سمات الدخول، وتسريع التخليص الجمركي والتحاسب الضريبي»، مشدّداً على «ضرورة مراعا

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي مباحثات عراقية ـ إيطالية في مجال التعاون العسكري المشترك

مباحثات عراقية ـ إيطالية في مجال التعاون العسكري المشترك

بحث رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مع وزير الدفاع الإيطالي غويدو كروسيتو العلاقات بين بغداد وروما في الميادين العسكرية والسياسية. وقال بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي بعد استقباله الوزير الإيطالي، أمس، إن السوداني «أشاد بدور إيطاليا في مجال مكافحة الإرهاب، والقضاء على عصابات (داعش)، من خلال التحالف الدولي، ودورها في تدريب القوات الأمنية العراقية ضمن بعثة حلف شمال الأطلسي (الناتو)». وأشار السوداني إلى «العلاقة المتميزة بين العراق وإيطاليا من خلال التعاون الثنائي في مجالات متعددة، مؤكداً رغبة العراق للعمل ضمن هذه المسارات، بما يخدم المصالح المشتركة، وأمن المنطقة والعالم». وبي

حمزة مصطفى (بغداد)

ما خيارات إيران بعد «نكسة» نصر الله؟

دبابات عسكرية إسرائيلية متمركزة عند الحدود الشمالية وسط مخاوف من اجتياح بري للبنان (إ.ب.أ)
دبابات عسكرية إسرائيلية متمركزة عند الحدود الشمالية وسط مخاوف من اجتياح بري للبنان (إ.ب.أ)
TT

ما خيارات إيران بعد «نكسة» نصر الله؟

دبابات عسكرية إسرائيلية متمركزة عند الحدود الشمالية وسط مخاوف من اجتياح بري للبنان (إ.ب.أ)
دبابات عسكرية إسرائيلية متمركزة عند الحدود الشمالية وسط مخاوف من اجتياح بري للبنان (إ.ب.أ)

في السنوات التي تلت الحرب العراقية - الإيرانيّة، قررت السلطة العليا في طهران اعتماد استراتيجيّة الدفاع المتقدّم (Forward Defense)، وذلك بهدف حماية الداخل الإيراني بسبب هشاشته الأمنية المرتفعة. أشرف على هذا المشروع، وخطط له، قائد «فيلق القدس» قاسم سليمانيّ، الذي ركّز على وكلاء إيران في المنطقة، من العراق إلى سوريا ولبنان ووصولاً إلى اليمن. إضافة إلى مد النفوذ في الإقليم، كان الهدف دائماً خلق درع واقية للأمن القومي الإيراني عن بُعد. كما كان الهدف خلق ستار ضبابيّ للسلوك الإيراني يعطيه القدرة على النكران والتهرّب من المسؤولية.

بكلام آخر، بات بمقدور إيران أن تُطلق صاروخاً ما، أو مسيّرة، على إسرائيل تحت غطاء الوكلاء. وقد تُجرّب أسلحتها أيضاً تحت المعيار نفسه. ومن هنا، تم ابتكار مفهوم وحدة الساحات بعد بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، حيث قاتلت إيران بالوكيل حسب المبدأ التالي: إذا خسر يخسر لوحده، وإذا ربح تربح إيران معه. جرّبت إيران هذا المبدأ للمرة الأولى في حرب يوليو (تموز) 2006 بين إسرائيل و«حزب الله». لكن تجربة الحرب الحالية تبدو مختلفة تماماً.

استراتيجية إيران بعد الحرب على غزّة

آثار الدمار الذي خلّفته الغارات الإسرائيلية على مبانٍ في الضاحية الجنوبية لبيروت في 28 سبتمبر (إ.ب.أ)

بعد بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي، عمدت إيران، عبر وكيلها الأهم، «حزب الله»، إلى فتح جبهة لبنان كجبهة إسناد تسمح بتثبيت كثير من القوات الإسرائيليّة على الجبهة الشمالية مع لبنان، بهدف تخفيف الضغط عن قطاع غزة. وإذا كان تثبيت القوات الإسرائيليّة على الحدود اللبنانية هدفاً استراتيجياً لـ«حزب الله»، فهو قدّم أيضاً خدمة غير مباشرة لهذه القوات. كيف؟ سمح للإسرائيليين بمزيد من الوقت للتعرف على طريقة تنظيم، وكيفيّة عمل، مقاتلي «حزب الله»، بالطبعة المُحدّثة (Updated) - فإسرائيل لديها منذ سنوات قائمة واسعة بمواقع «حزب الله» وتحركات قياداته، لكن الشهور التي مرت منذ بدء التوتر على جبهة لبنان سمحت لها بمزيد من الوقت لتحديث «بنك الأهداف». تعرّف الجيش الإسرائيليّ على الأسلحة الجديدة التي يملكها الحزب، وعلى كيفية خوض المعارك ضمن مبدأ القتال المشترك (Combined).

ولأن المعركة تستلزم حركيّة مستمرّة للقيادات العسكريّة، استطاعت إسرائيل استهداف القيادات الميدانيّة لـ«حزب الله» بأعداد كبيرة. حيّدت قيادات المناطق العسكريّة على جبهة الجنوب اللبناني. طالت الضربات، كما يبدو، جميع قيادات «قوة الرضوان»، وهي قوة النخبة في «حزب الله».

جنود إسرائيليون داخل قطاع غزة (رويترز)

بالإضافة إلى كل ذلك، شكّل الوجود العسكريّ الإسرائيلي المُثبّت في الشمال، نقطة انطلاق للحملة الشاملة الحالية على «حزب الله»، كما ساعد في التحضير للانتقال من الحرب الحالية الموضعيّة وحرب الاستنزاف (Positional Warfare)، إلى حرب المناورة، في حال قرّرت إسرائيل خوض الحرب البريّة، بحسب ما يلوّح مسؤولوها. ومعلوم أن إسرائيل عزّزت مؤخراً القيادة الشمالية المؤلفة من 4 فرق عسكريّة أصلاً، بفرقتين إضافيتين.

حاول «حزب الله» في البداية إشغال القوات الإسرائيلية على الحدود مع لبنان، لكنه لم يتدخل عسكرياً لضرب الحشود التي كانت تتجمع على حدود قطاع غزة، تمهيداً لدخوله في إطار القضاء على «حماس». ربط الحزب لاحقاً وقف النار على الجبهة اللبنانية بوقف النار على جبهة قطاع غزّة. وهنا، يتظهّر خلل في التفكير الاستراتيجيّ، خصوصاً أن نجاح الاستراتيجيّة التي يتبعها «حزب الله» صار يتعلّق مباشرة بحسابات الإسرائيليّين في القطاع. وضع «حزب الله» في الواقع شرط نجاح استراتيجيّته بيد عدّوه اللدود، بنيامين نتنياهو.

استراتيجيّة نتنياهو

في المقابل، كان نتنياهو يخطط لغزة منذ عام 2005. ففي ذلك الوقت استقال من حكومة آرييل شارون، لأن هذا الأخير قرر الانسحاب من قطاع غزّة من جانب واحد. ويريد نتنياهو الآن حكم غزة عسكرياً، ومن هنا يأتي تعيينه لمسؤول عسكري في القطاع تحت غطاء مهمة إنسانيّة. وهو يستغل الفرصة الاستراتيجيّة التي تلت عملية «طوفان الأقصى»، لتصفية حساباته مع ما يُعرف بـ«محور المقاومة». فبعد سنة من تدمير قطاع غزّة، ومحاولة عزله عن العالم الخارجيّ، انتقل نتنياهو فجأة إلى الضفة الغربيّة لضرب هيكلية مقاومة بدأت تتظهّر وتتمأسس، بدعم إيرانيّ عبر تهريب السلاح من سوريا وعبر الأردن. وبذلك، يكون نتنياهو قد أمّن ظهر الجيش الإسرائيليّ الذي بات بإمكانه التوجّه إلى جبهة لبنان.

الخطط الإسرائيلية... المثلث الاستراتيجي

ركّز الجيش الإسرائيلي على مراكز الثقل في المثلث الاستراتيجي لـ«حزب الله»، والمؤلف من:

  • منطقة جنوب الليطاني، وارتباطها بمنطقة البقاع ككلّ.
  • منطقة البقاع الشمالي (الهرمل)، وهي الأبعد عن جنوب الليطاني. في هذه المنطقة يعتقد الجيش الإسرائيليّ أن لـ«حزب الله» فيها مخازن لوجيستيّة ذات قيمة استراتيجيّة. وهي، أي المنطقة، تعدّ صلة الوصل والتواصل مع الداخل السوري.
  • وأخيراً منطقة الضاحية في جنوب بيروت، حيث مركز القيادة الأساسيّ لـ«حزب الله»، بكل أبعاده، الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة.

ففي كلّ منطقة من هذا المثلث، سعت إسرائيل إلى زرع الفوضى داخل بيئة «حزب الله» وبنيته قبل بدء التصعيد الكبير حالياً. فجّرت أجهزة الاتصالات التي يحملها عناصر الحزب وقياداته، ما أدى إلى مقتل وجرح آلاف منهم (ومن المواطنين العاديين أيضاً). أتبعت إسرائيل هذه التفجيرات بتصعيد استهداف قيادات الحزب الأساسيّة، حتى وصل الأمر إلى قتل أمينه العام حسن نصر الله في الغارات الضخمة على مقر القيادة الرئيسي في الضاحية الجنوبية. وإذا أضيفت هذه الاغتيالات إلى الاغتيالات التي حصلت على مسرح جنوب الليطاني، فيمكن القول إن «حزب الله» يعاني حالياً من نقص قيادي استراتيجيّ وعملاني بشكل كبير.

يستهدف نتنياهو الوكيل الأبرز، والأقوى، لـ«محور المقاومة». فهو يُشكّل جوهرة التاج في المشروع الإيراني الإقليميّ. فإذا سقط، فقد ينهار المشروع الذي استثمرت فيه إيران منذ عام 1983. فهل ستسمح إيران بذلك؟ وهل أخطأ كل من «حزب الله» وإيران بالحسابات الاستراتيجيّة؟ وهل وصل ما يُسمّى مشروع المقاومة إلى الامتداد الأقصى، خصوصاً أنه وبعد نقطة الامتداد الأقصى يبدأ المردود السلبيّ للمشروع؟ هل اعتقدت إيران أن الحرب على غزّة قد تعطيها الشرعيّة الإقليميّة لمشروعها؟

جبهات وحدة الساحات

تعتقد إسرائيل أنها ضربت جبهتين من جبهات «وحدة الساحات»، هما قطاع غزّة والضفة الغربيّة. وهي اليوم تتعامل بقوّة مع الجبهة الأهم والأخطر عليها، جبهة لبنان. ولكن ماذا عن المتبقي من وحدة الساحات، أي اليمن والعراق وإيران؟

لا تشكّل جبهة العراق خطراً وجوديّاً على إسرائيل كما تشكّل جبهة لبنان. أما اليمن، فقد يكون مشكلة لإسرائيل، لكنه أيضاً مشكلة إقليميّة ودولية نظراً إلى سلوك الحوثيين في باب المندب. فماذا تبقّى من وحدة الساحات؟ إيران بالطبع. فماذا عنها؟

اعتمدت إيران استراتيجية الخنق أو «الأناكوندا» حول إسرائيل. وصلت هذه الاستراتيجيّة إلى الامتداد الأقصى لها، وبدأ الارتداد السلبي ينعكس على الأصيل في هذه الاستراتيجيّة. وإذا كان الأصيل يطلب دائماً تورّط الوكيل في الحروب بالواسطة (Proxy) لتحقيق أهدافه الجيوسياسيّة، فقد يؤدّي سلوك الوكيل في بعض الأحيان إلى جرّ الأصيل إلى حرب لا يريدها، وغير مستعدّ لها.

صور لنصر الله وقاسم سليماني بالعاصمة اليمنية صنعاء في 28 سبتمبر (إ.ب.أ)

تكمن معضلة إيران الحاليّة (Dilemma) في عدم توفّر الخيارات الاستراتيجيّة المناسبة. هي تعاني اليوم من حالة «خاسر - خاسر»، في أيّ خيار تأخذه. فإن تركت الوكيل، فسوف تفقد مصداقيتها. وسوف تذهب جهودها واستثماراتها سدى. وسوف يسقط مشروعها الإقليمي. وسوف ينقلب عليها الأصيل لأنها تركته في مهبّ الريح. لكنها إن تدخّلت لحماية الوكيل، فسوف تدفع الأثمان الكبيرة، وسوف تنقلب عليها استراتيجيتها الأساسيّة (الدفاع المتقدّم)، وسوف يُضرب الداخل الإيرانيّ بكل أبعاده، خصوصاً السياسيّة، وهي أبعاد تتعلّق بديمومة النظام.

أظهرت الأحداث الأخيرة، وما قبلها في الداخل الإيراني، مدى هشاشة الأمن القومي الإيرانيّ. تظهّر هذا الأمر في سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية المتكررة للعلماء النوويّين؛ وأبرزهم بالطبع محسن فخري زاده. كما تظهّر أيضاً في سرقة إسرائيل للأرشيف النووي من محيط العاصمة طهران. لكن صورة الضعف الأخطر لإيران تظهّرت عقب مقتل الرئيس إبراهيم رئيسيّ. فقد استعانت إيران بقوى خارجية للوصول إلى مكان تحطّم مروحيّته، ما سلّط الضوء على حالة سلاح الجوّ الإيراني الكارثيّة.

هاجمت إيران إسرائيل في 13 و14 أبريل (نيسان) الماضي، بمسيّرات وصواريخ باليستية وصواريخ «كروز». تكتّل الغرب، وفي طليعته أميركا، حول إسرائيل. أُسقط ما يقارب من 99 في المائة من هذه الوسائل. لكن الردّ الإسرائيلي الرمزي والمحدود على الهجوم الإيراني في 19 من الشهر نفسه، عكس ضعف الدفاعات الجويّة لإيران وانكشاف أمنها القومي، خصوصاً مشروعها النوويّ. فقد استهدف الطيران الإسرائيلي، ومن فوق الحدود مع العراق (كما يبدو)، منصات دفاع جوّي من طراز «إس - 300» ليدمّرها، وهي التي من المفروض أن تحمي المنشآت النووية الإيرانيّة. فماذا لو وقع سيناريو مواجهة حربية مع إسرائيل؟ وكيف سيكون عليه السلوك الأميركيّ؟

اغتيال نصر الله

في ظل هذه الأهداف والاستراتيجيات المتصارعة بين إسرائيل ومحور المقاومة، وجّهت الدولة العبرية ضربة كبرى لخصومها باغتيال أمين عام «حزب الله». فماذا عن التداعيات؟

أتى اغتيال نصر الله بعد محاولة إسرائيل تفريغ الحزب من تركيبته الهرميّة في كل الأبعاد؛ في البنية العسكريّة والبيئة الحاضنة، وبطريقة متدّرجة وسريعة، وبشكل لم يترك للحزب وقتاً كافياً لالتقاط الأنفاس واسترداد زمام المبادرة. كان الهدف التدمير الماديّ، بالإضافة إلى ضرب كيفيّة وعي مجتمع «حزب الله» لدوره وأهميّته (Cognitive Shock).

أتى الاغتيال ليتحدى مباشرة الدور الإيراني في المنطقة، عبر استهداف مركز ثقل ما يُسمّى وحدة الساحات، خصوصاً أن نصر الله بدأ يلعب دوراً محوريّاً في المشروع الإيراني الإقليميّ، خصوصاً في الفترة التي تلت اغتيال قاسم سليماني.

تتمثّل معضلة إيران الحالية في انعدام الخيارات الجيّدة. فهي «خاسر - خاسر» في كلّ الحالات. فإن تدخّلت، فسوف يُضرب الداخل الإيرانيّ. وإن تمنّعت وتردّدت، فسوف تفقد مصداقيتها، وبالتالي يضيع الاستثمار الإيراني الذي بدأ منذ الثمانينات فيما يُسمّى محور المقاومة، لتنهار المنظومة.

تتطلّب إعادة ترتيب وضع «حزب الله» إعادة تركيب المنظومة القياديّة وفي كلّ الأبعاد، خصوصاً أن إسرائيل أفرغت الحزب من الرأس ومن هرميّته العسكريّة. وإعادة ترتيب وضع الحزب سيحتاج بالطبع إلى وقت ليس بقصير. لكن الوقت هو العدوّ القاتل لـ«حزب الله» حالياً. كما أن إعادة تركيب الحزب تحتّم البدء من مركز الأمين العام البديل، إلى مجلس الشورى، إلى المجلس الجهاديّ، وصولاً إلى القيادات الميدانيّة العملانيّة التي تقاتل حالياً دون رأس مُدبّر.

صورة أرشيفية لحسن نصر الله في الضاحية الجنوبية لبيروت يوم 22 أكتوبر 2001 (أ.ف.ب)

هل ستحاول إيران الآن إدارة بيروت مباشرة بعد أن كانت تديرها بالواسطة في ظلّ غياب نصر الله؟ في البداية، قد يكون على إيران أن تسترجع بعضاً من المصداقيّة في أوساط مؤيدي وكلائها الذين يخشون أنها تخلت عنهم، سواء كان ذلك «حماس» أو «حزب الله». وستكون إيران أيضاً بحاجة لاسترجاع مصداقيّتها والخوف منها في عيون الأعداء المتربّصين بها. في حالة كهذه، يقول العلم السياسي إن الحل لمشكلة ما بين متحاربين قد يتظّهر بحالتين هما: أن يبيد فريق الفريق الآخر، وبذلك يفرض المنتصر حلوله بالقوّة، أو أن يسعى الفريق الأضعف إلى تعديل ديناميكيّة موازين القوى القائمة كي يحجز له مكاناً على الطاولة. فكيف سيكون عليه السلوك الإيراني؟

لا يبدو أن وضع إيران الإقليمي جيّد، ولا يبدو أن لديها خيارات جيّدة كثيرة. ولذلك قد يمكن القول إنها ستسعى، بعد هذه النكسة، إلى محاولة تحسين وضعها والانتقال من حالة «خاسر - خاسر» إلى مرحلة لن تكون حتماً مرحلة «رابح - رابح». فهل ستنجح في ذلك؟