«الشرق الأوسط» تنشر حلقات من كتاب «الزمن الجميل» للكاتب الفرنسي فرانز أوليفيه جيزبير (1- 3): كتاب مثير ينزع «ورقة التين» عن الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران

يكشف «التاريخ الحميمي للجمهورية الخامسة» ويغوص في أسرار رؤسائها

فرانسوا ميتران وزوجته دانيال ميتران في حفل افتتاح أولمبياد ألبيرفيل 8 فبراير 1992 (غيتي)
فرانسوا ميتران وزوجته دانيال ميتران في حفل افتتاح أولمبياد ألبيرفيل 8 فبراير 1992 (غيتي)
TT

«الشرق الأوسط» تنشر حلقات من كتاب «الزمن الجميل» للكاتب الفرنسي فرانز أوليفيه جيزبير (1- 3): كتاب مثير ينزع «ورقة التين» عن الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران

فرانسوا ميتران وزوجته دانيال ميتران في حفل افتتاح أولمبياد ألبيرفيل 8 فبراير 1992 (غيتي)
فرانسوا ميتران وزوجته دانيال ميتران في حفل افتتاح أولمبياد ألبيرفيل 8 فبراير 1992 (غيتي)

لا تحصى ولا تعد الكتب التي تتحدث عن الجمهورية الخامسة التي أرسى الجنرال شارل ديغول، أسسها، في خمسينات القرن الماضي. كما أن الكتب التي تتحدث عن التحولات السياسية والاقتصادية التي حصلت خلال ثمانية عهود تضج بها رفوف المكتبات التي تزداد غنى وثراءً مع كل موسم ثقافي. بيد أن ما يسعى إليه القارئ هو التعرف على ما يجري وراء الستارة، في الخفاء، وراء التصريحات المدوزنة. وهو يريد أن يلج إلى الخصوصيات والحميميات، لتظهر له صورة الرجل السياسي على حقيقتها، بعيداً عن النمطيات والسرديات الرسمية.
المعضلة أن أمراً كهذا ليس في مستطاع أي كاتب أو محلل. فهو يحتاج لرواد عرفوا الشخصيات العامة وعاشروها واطلعوا على أسرارها الخبيئة، ولهم القدرة والشجاعة لنقلها إلى القارئ. ولا شك أن فرانز أوليفيه جيزبير، الصحافي والكاتب والمحلل، له باع طويل في ذلك. ولعل أفضل دليل هو كتابه الجديد «الزمن الجميل، التاريخ الحميمي للجمهورية الخامسة»، المجلد الثاني، الصادر عن دار «غاليمار».

ميتران (يمين) مع الرئيس الأميركي رونالد ريغان في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض (غيتي)

في كتابه الجديد، ينكب جيزبير على أربعة عهود، يبدأها مع الرئيس جورج بومبيدو، خليفة الجنرال الكبير في قصر الإليزيه، وينتهي بعهد الرئيس جاك شيراك، الديغولي الآخر. وما بينهما، يغوص جيزبير في أسرار رئيسيين آخرين هما الأرستقراطي فاليري جيسكار ديستان والاشتراكي فرنسوا ميتران. ومن بين الأربعة، يبدو مع كل صفحة من الكتاب أن علاقة خاصة نمت بين الصحافي الشاب والزعيم الاشتراكي الذي واكب القرن العشرين، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية عهده الثاني في عام 1995، وكان أحد أبرز الفاعلين فيه.
يتوقف الكاتب عند الشخصية المعقدة التي تختبئ وراء صورة الرجل السياسي الذي وصل إلى الرئاسة في ثالث محاولة له، فيما الأولى كانت بمواجهة ديغول، ويرسم صورة علاقاته الأسرية وخارج النطاق الأسري. ذلك أن ميتران، صاحب كتاب «الانقلاب الدائم» الذي كرسه للتنديد بعودة ديغول إلى السلطة، الذي عده انقلاباً على الديمقراطية، كانت صداقاته تندرج في دوائر لا تتقاطع. كان ميتران رجل الأسرار والتكتم والازدواجية والتخفي، يظهر ما يريد ويترك في الظل ما يريد إبقاءه بعيداً عن الأعين. ولعل الصفحات التي كرسها الكاتب لحياة ميتران العاطفية ومغامراته النسائية تكشف هذه الطباع.
لم يكن ميتران يعيش حياة واحدة. كان جمعاً في صيغة المفرد. وكان عدة رجال في زمن واحد. ميتران كان متزوجاً من دانيال، امرأته الشرعية التي له منها ثلاثة أبناء هم باسكال وجان كريستوف وجيلبير، إلا أنه كانت له امرأة أخرى، ليست عشيقة ليلة أو وليدة لقاء... كلا. لقد كانت آن بانجو أكثر من ذلك بكثير. كانت عشق حياته، والضوء الذي كان يرفده بالسعادة طيلة أربعين عاماً.
لنترك الكلام لفرانز أوليفيه جيزبير يتحدث عن هذا الجانب:
في بداية العلاقة مع ميتران، دعا الأخير جيزبير إلى ملاقاته باكراً في منزله القائم مقابل كاتدرائية نوتردام لتسليمه بعض مقطوعاته الشعرية الغزلية التي سيستخدمها في كتاب يعده. وبعد انتظار زاد على أربعين دقيقة، وصل ميتران من الخارج مبعثر الشعر، غير حليق الذقن، وكأنه خارج لتوه من غرفة النوم، وبادر ضيفه قائلاً إن أشعاره موجودة في علبة كرتونية مركونة في غرفة «مسيو جان»، واسمه الكامل جان بالنسي. وما فهمه جيزبير لاحقاً أن جان هذا هو عشيق دانيال ميتران. والغريب أنه كان يعيش في منزل الرئيس اللاحق كأحد أفراد الأسرة. و«مسيو جان» كان مدرب التنس لسيدة فرنسا الأولى وعشيقها منذ سنوات. ويكتب جيزبير: «كنت أعلم أنه قريب من دانيال، لكن في ذاك الصباح فهمت أنه عشيقها وأن اتفاقاً جرى بين فرنسوا ودانيال منذ الستينات، بعد المغامرات النسائية المتكررة للأول، وقوامه أن لكل منهما أن يعيش الحياة التي يريدها لكنهما يبقيان معاً».

ميتران وزوجته دانيال (وسط) مع الأميرة الراحلة ديانا وأمير ويلز وقتها تشارلز خلال مأدبة في قصر الأليزيه 7 نوفمبر 1988 (غيتي)

دانيال كانت تعلم أن ميتران يعيش عملياً مع آن بانجو، وميتران يقبل بأن يعيش «مسيو جان» في منزلهما. وكانت أشعار الغزل موجهة للزوجة غير الشرعية التي أعطته لاحقاً ابنة هي مازارين، التي اعترف بها شرعياً في أواخر أيامه.
آن بانجو «أصبحت الأولى» بعد أن أبعد زوجته الشرعية، وهي التي تتخطى الأخريات من النساء اللواتي عرفهن ميتران، السابقات واللاحقات. لقد كانت حبه الكبير، ولهه، عشقه، الضوء المتبقي عندما ينطفئ كل شيء، وهي التي كتب لها آلاف الأشعار التي نشرت في كتاب من 1246 صفحة، عام 2016 بعنوان «رسائل إلى آن، 1962 - 1995». ومما كتبه لمن يسميها شمسه: «أعيش، أموت، أحترق وأغرق» في حبك.
التقى ميتران آن بانجو للمرة الأولى في عام 1957، وهي ابنة عائلة كان يعرفها عن قرب، إذ كان يلعب الغولف مع والدها الصناعي فرنسوا بانجو على الشاطئ الأطلسي، قريباً من منتجع هوسبورغ. وانتظر ميتران ست سنوات حتى بلوغ آن سن الرشد (21 عاماً). لكن فارق السن (27 عاماً) لم يكن عائقاً يحول دون تقاربهما. وفي عام 1963، وجد ميتران أن الوقت قد حان ولم يعد من سبب يحول دون التلاقي.

عشيقة ميتران آن بانجو وابنتها مازارين خلال مراسم تشييع جنازته في 11 يناير 1996 بجارناك (غيتي)

يقول جيزبير، إن ميتران «كان يقصفها بالرسائل». ولم تكن آن شابة سهلة المنال، وكان على ميتران أن يكون صبوراً. وبعد حصولها على شهادة البكالوريا، «صعدت» آن إلى باريس للدخول إلى معهد الفنون الجميلة، وجاءت توصية من والدها لـميتران بأن «يرعاها»، وهو ما حصل. وبالفعل، استقبلها ميتران في بيته وفي إطار عائلته طيلة شهور. ويروي الكاتب أنهما كانا يسيران معاً ليلاً، يداً بيد، في شوارع باريس، وكان حبهما في بدايته بريئاً، رومنطيقياً، عذرياً، حتى ربيع عام 1964 حيث جرى بينهما ما كان متوقعاً. وكتب لها ميتران في اليوم الذي تلا ليلة حبهما: «لا أعتقد أننا سننسى تاريخ 13 مايو (أيار) 1963، لقد كنت هذه الليلة سمائي وأرضي... غمرتني سعادة جارفة، ذات قوة رهيبة. لقد أعطيتني الكثير، وآمل أن أرد إليك الجميل سعادة مجنحة». وبعد سنوات من وفاة ميتران قالت آن بانجو لصحافي بريطاني ما يلي: «أن تكون معجباً بالشخص الذي تحب يحمل إليك سعادة لا تضاهى، أنت لن تتثاءب أبداً، إنه التجدد الدائم». بيد أنها أضافت: «كانت 32 عاماً من السعادة العميقة، ولكن أيضاً من التعاسة. كانت سنوات صعبة».
رغم «الحب الكبير»، لم يكن ميتران الرجل الذي تكفيه امرأة. كان يريدهن جميعاً وفي وقت واحد. وبقيت آن بانجو، التي شغلت مناصب رفيعة في عالم المتاحف، بعيدة عن الأنظار طيلة العقود الثلاثة التي أمضتها مع ميتران، حبها الأول وربما الأخير. ولم يعرف الفرنسيون صورتها إلا بعد أن ذاعت قصة حبها مع ميتران، وظهرت صورة ابنتهما مازارين، إذ شاركت في دفن ميتران وكانت مازارين متكئة على كتفها، في الصف الثاني. أخفت وجهها بنظارتين سوداوين، وكانت تريد أن تبقى نكرة حتى لا يكون وجودها مصدر إزعاج للرجل الكبير.

صورة للمنزل الريفي للرئيس ميتران في جارانك جنوب فرنسا التقطت في 7 يناير 2006 (أ.ف.ب)

وبعكس آن بانجو، كانت دانيال ميتران حاضرة على الصعيد الفرنسي السياسي والاجتماعي العام. كانت شخصية متحررة عرفت بميولها اليسارية وبدفاعها عن الحريات وعن المحرومين والمعذبين في الأرض، ومنهم أكراد العراق. وكانت ترأس مؤسستها «فرنسا الحريات» التي كانت تريدها صوتاً لعدالة على المستوى العالمي.
ولسنوات طويلة، أخفى ميتران الجزء الغامض من حياته، إلى أن خرجت الأمور إلى العلن وهو في قصر الإليزيه. استغل ميتران موقعه الرئاسي لوأد الأخبار والشائعات التي تتحدث عن حياته الخفية وعن وجود آن بانجو، وكان كل مساء يترك قصر الإليزيه مع فرنسوا دو غروسوفر، صديقه الشخصي، الذي كان يقيم في المبنى الذي أسكن فيه آن بانجو، لإيهام موظفي القصر بأنه يخرج معه في نزهة. لكن، رغم التدابير والإجراءات التي اتخذها مستعيناً بموقعه، لم تبق حياته الخفية بعيدة عن أنظار وأسماع الصحافة التي لم تكن تجرؤ على إخراجها إلى العلن. ويروي بيار، سائقه الخاص، في كتاب أصدره قبل سنوات بعنوان: «القيادة من اليسار»، أنه فتح يوماً صندوق السيارة في الساحة الداخلية لقصر الإليزيه، وفوجئ من كان إلى جانبه بأنه يحتوي على ألعاب للأطفال. ولكن بعد أن ذاع سر آن بانجو ومازارين، تخلى ميتران عن التخفي وبدأ بالخروج معهما إلى المطاعم والمسارح والأماكن العامة. وأكثر من مرة اصطحبته مازارين في رحلات استجمام خارجية، منها رحلة إلى مصر بدعوة من الرئيس حسني مبارك.
مازارين أصبحت منذ سنوات كاتبة قديرة ومحترمة، ومثقفة لها وزنها في الساحة الثقافية الفرنسية.
الرئيس الاشتراكي كان حقيقة زير نساء. وكانت له كوكبة من النساء اللواتي كن يتحلقن حوله. يقول جيزبير عن ميتران: «يا لعجبي! كيف أن كافة هاته النسوة تسامحن ميتران لسلوكه الممجوج. ما هو سره الذي مكنه من أن يتجنب الاختلاف معهن، لا بل أن يحولهن لاحقاً إلى مساعدات له ويتكئ عليهن لتحقيق نجاحه؟ إنها حقيقة مهنة. حتى وفاته، كان دوماً محاطاً بالنساء... كان يحتاط ويتكتم. كان يكذب، وربما كان يصدق كذبه... لا أحد يعلم أعداد اللواتي عرفهن من مساعدات ووزيرات وصحافيات: نساء من كل نوع التقى بهن صدفة، في الشارع أو في القطار. عاشر نجمات، وكانت له علاقة حب فاضحة في فترة ما مع المغنية داليدا التي قبلها أمام أعين العابرين أمام صالة سينما في جادة الشانزليزيه».
لكن مغامراته العاطفية لم تجعله ينقطع عن زوجته الشرعية، يقول جيزبير: «عندما تكون دانيال إلى جانبه كانت تثير حنقه، وعندما تكون بعيدة عنه كان يشعر بغيابها. وبعد وصوله إلى الرئاسة، استنبط ميتران قصة ذهابه يومياً إلى منزله (المشترك مع دانيال) بحجة الاطلاع على بريده، لكن في الحقيقة لتبادل بعض العبارات معها قبل أن يلتحق بآن بانجو، حيث كان يقضي الليل بقربها».
وخلاصة الكاتب أن ميتران لم تكن تكفيه امرأتان. كان يريدهن كلهن معاً، وذلك حتى نهاية حياته.
ومن الإجحاف اختصار ميتران بعلاقاته النسائية. فالرجل الذي كان أحد أركان المشهد السياسي الفرنسي طيلة أربعة عقود على الأقل، كان مثقفاً وأديباً ومفكراً، إضافة إلى كونه سياسياً ماهراً، لا بل ماكراً. فقد نجح في تجميع اليسار بكافة مكوناته تحت رايته، وركب الموجة ليصل إلى رئاسة الجمهورية التي كانت حلمه الأكبر، وبقي في قصر الإليزيه 14 عاماً. كان ميتران مدرسة ثقافية وتاريخية وسياسية، وكتب بنفسه سيرة حياته وأسطورتها. كان سجين الجيش الألماني في بداية الغزو النازي لفرنسا، وفشل في الهرب من معتقله مرتين، إلا أنه نجح في المرة الثالثة. واتهم بالتعاون مع نظام فيشي الذي خضع للألمان ونفذ إراداتهم بما فيها محاربة المقاومة الفرنسية، لكنه قدم نفسه على أنه مقاوم. وكان خصمه الأكبر الجنرال ديغول.
ونشأت بين جيزبير وميتران علاقة خاصة. ولا يخفي الكاتب إعجابه وحبه لهذا الرئيس رغم اختلافهما السياسي. وثمة رابط يجمع بينهما، هو يبرز في كل سطر من السطور التي كتبها جيزبير عنه.
ويبقى أن الأخير يدخلنا إلى عالم ميتران الخاص، إلى حميميته، حيث يعريه وينزع عنه الغطاء الذي يختبئ تحته ليظهر لنا حقيقة الرجل المتعدد والمتنوع.

«الشرق الأوسط» تنشرحلقات من كتاب «الزمن الجميل» يكشف «التاريخ الحميمي لرؤساء الجمهورية الخامسة» (2- 3): شيراك... شهية مفتوحة للنساء والطعام... وطبقه المفضل رأس العجل المطبوخ
 

«الشرق الأوسط» تنشرحلقات من كتاب «الزمن الجميل» يكشف «التاريخ الحميمي لرؤساء الجمهورية الخامسة» (3-3): «الزمن الجميل» يرسم صورة «الرئيس الأرستقراطي» المتأرجح بين التقليد والحداثة

 


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.