(خاص)
على الضفة الشرقية لنهر الكونغو الهادر تقوم مدينة كينشاسا، ثالث أكبر عاصمة في أفريقيا بعد القاهرة ولاغوس، وأحد العناوين الرئيسية للنهضة الأفريقية الموعودة منذ عقود، والتي تبدو اليوم بعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى فيما ترزح تحت وطأة مديونية هائلة واعتماد مفرط على الخارج وجفاف مزمن في شرايين الاقتصاد الإنتاجي.
مطالع هذا القرن، كانت الكونغو تجسّد الآمال الكبرى المعقودة على القارة الأفريقية بعد أن بدت النزاعات الدموية صفحة من الماضي، وعادت معدلات النمو الاقتصادي تتجاوز 5 في المائة سنوياً، فيما كانت المواد الخام تتدفّق بوفرة لتلبية الاحتياجات المتنامية في أسواق الصين وتركيا والهند والبرازيل، والاستثمارات الخارجية تعود لتمويل البنى التحتية والقطاعات الإنتاجية وتحديثها. في موازاة ذلك، كانت القوى الإقليمية الكبرى، مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبلدان المغرب العربي، تدفع بقاطرة القارة السمراء نحو آفاق غير مسبوقة من النمو الموعود. لكن ما لبث أن استقرّ ذلك التفاؤل في المخيّلة الجماعية، حتى اصطدم بواقع يكاد يكون قدرياً في هذه القارة: النمو الاقتصادي لم يخفف من وطأة الفقر الذي استمر في الانتشار، وعادت الرياح تنفخ في جمر الصراعات والنزاعات المسلحة، فيما كانت تداعيات تغيّر المناخ تستنزف الموارد وتقضي على العديد من الفرص الإنمائية، قبل أن يأتي زلزال الجائحة، وبعده الحرب في أوكرانيا، ليكشفا مدى هشاشة هذه القارة المكبّلة باعتمادها على المصادر الخارجية رغم الموارد الهائلة التي تزخر بها.
يقول ديمبا ديمبيليه، رئيس المعهد الأفريقي للبحوث والتعاون، إن ذلك النمو الاقتصادي لم تستفد منه سوى حفنة ضئيلة من رجال الأعمال الذين أودعوا أرباحهم في المصارف الأميركية والأوروبية، وإنه كان في الواقع أقرب إلى السراب إذ كان ثمرة عوامل خارجية مثل خفض الديون الخارجية بمبادرة من مجموعة الدول الصناعية أواخر تسعينات القرن الماضي، فضلاً عن بعض التحولات الإيجابية على الساحة الدولية، في الوقت الذي بقيت البنى التحتية تعاني من المشاكل نفسها، والمخاطر المالية تحطم أرقاماً قياسية، بينما القطاع الزراعي يسجّل أدنى المستويات الإنتاجية في العالم.
ومع ظهور جائحة «كوفيد-19» التي، رغم تداعياتها الصحية المعتدلة نسبياً في أفريقيا، دخل اقتصاد القارة لأول مرة منذ عقدين في مرحلة من الانكماش العميق، حيث تراجع إجمالي الناتج القومي بنسبة 5.6 في المائة ليشكّل، وفقاً لبيانات المؤسسات المالية الدولية، 4.7 في المائة فقط من إجمالي الناتج العالمي، وهو أدنى مستوى منذ مطالع القرن الحالي. في غضون ذلك، كان إنتاج المراكز الصناعية الأفريقية الكبرى يتراجع بنسبة 7.2 في المائة، بينما كانت تقارير البنك الدولي تفيد بالتحاق 29 مليون أفريقي إضافي بقوافل الفقر المدقع، وأن القارة تحتاج لفترة لا تقلّ عن خمس سنوات لاستعادة معدلات النمو السابقة.
ورغم أن تداعيات الجائحة عمّت العالم بأسره، فإن القارة الأفريقية انفردت بثلاث ميزات عن الأقاليم الأخرى: أولاً، أنها انعزلت عن الخارج بسبب سوء المواصلات الجوية فيما حال عدم وجود شبكات تجارية وطيدة دون التواصل البيني داخل القارة. ثانياً، عدم قدرة الحكومات الأفريقية على اتّخاذ تدابير نقدية لتحفيز الاقتصاد للتخفيف من حدة الجمود الإنتاجي كما فعلت جميع الدول الغربية تقريباً. وثالثاً، ضخامة القطاع الاقتصادي غير المنظم التي حالت دون اعتماد إجراءات فاعلة للحماية الاجتماعية.
إلى جانب ذلك، كانت الديون الخارجية تواصل استنزاف موارد البلدان الأفريقية التي تخصص حوالي 30 في المائة (في بعض البلدان تصل هذه النسبة إلى 60 في المائة) من موازناتها لجدولة هذه الديون المستحقة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبعض الحكومات الأجنبية، مثل الصين، والمصارف الخاصة. وقد فشلت المحاولات التي بذلها بعض القادة الأفريقيين لإقناع الدول الغنية بشطب الديون الخارجية للقارة التي لم تحصل سوى على 5 في المائة من المساعدات الطارئة لصندوق النقد، وبقيت وحدها معزولة في مواجهة الأزمة.
لكن التجربة الأقسى التي واجهتها القارة الأفريقية خلال الجائحة نشأت عن استئثار الدول الغنية بالجزء الأكبر من اللقاحات التي لم تكن أفريقيا تنتج سوى 1 في المائة منها. وما زالت نسبة التغطية اللقاحية المتدنية، التي لا تتجاوز حتى الآن 20 في المائة من مجموع السكان الأفارقة، تحول دون الانتعاش الاقتصادي في القارة، بينما كان الاهتمام الدولي يتّجه نحو أوروبا الشرقية مع اندلاع الحرب في أوكرانيا أواخر فبراير (شباط) الماضي، وما تأتّى عنها من كارثة تموينية في البلدان الأفريقية التي تستورد نصف استهلاكها من القمح من روسيا وأوكرانيا، فيما كان ارتفاع أسعار المحروقات يدفع نحو مستويات غير مسبوقة في أسعار المواد الأساسية التي لم تعد في متناول أعداد كبيرة من السكان.
وتقول مديرة المكتب الإقليمي لبرنامج الغذاء العالمي في أفريقيا الوسطى إن معدلات الفقر والجوع بلغت مستويات قياسية في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة أو تعرّضت لفترات طويلة من الجفاف أو الأمطار الغزيرة، مثل القرن الأفريقي والكونغو وموزامبيق وإثيوبيا وتشاد حيث يعتمد الملايين من السكان على المعونة الغذائية التي يقدمها البرنامج، والتي انخفضت إلى النصف في الأشهر الأخيرة، فيما كانت معدلات سوء التغذية بين الأطفال تتضاعف ثلاث مرات في مدغشقر وتشاد والرأس الأخضر.
وكان من الطبيعي أن تنعكس هذه الأزمات الاقتصادية والمعيشية المتراكمة على الأوضاع السياسية، حيث شهدت القارة الأفريقية في الفترة الأخيرة سلسلة من الانقلابات، بدأت في السودان ثم في غينيا ومالي وبوركينا فاسو وتشاد وغينيا بيساو والنيجر، في الوقت الذي تتسع دائرة المخاوف من تطورات مماثلة في العديد من البلدان الأخرى.
ويجهد المسؤولون في الاتحاد الأفريقي منذ أشهر لتفعيل معاهدة التجارة الحرة التي وقّعها القادة الأفارقة عام 2018 في العاصمة الرواندية كيغالي، والتي تُعلَّق عليها آمال كبيرة لإنشاء سوق أفريقية موحدة للسلع والخدمات، وتسمح بحرية التنقل داخل بلدان الاتحاد، وتلغي 90 في المائة من الرسوم الجمركية على التجارة البينية.
ويعوّل الخبراء على هذه المعاهدة لتحقيق الحلم الأفريقي بإزالة الحواجز الداخلية في القارة، التي ورثت من الاستعمار سلسلة من الانقسامات الجغرافية والعرقية تولّدت منها خصومات وعداوات حالت حتى الآن دون تحقيقه. ويتفق الخبراء على أن وراء هذا الحلم يكمن مفتاح التغيير الحقيقي الكبير الذي تحتاج إليه أفريقيا، وهي النهضة الصناعية في القارة التي، رغم مواردها الطبيعية الهائلة، لا تساهم بأكثر من 2.7 في المائة من الإنتاج الصناعي العالمي. وتجدر الإشارة إلى أن القارة الأفريقية التي يقترب تعداد سكانها من المليارين، تختزن أيضاً نسبة عالية من جميع المعادن الأساسية للتحولات التكنولوجية الكبرى.
ولمواجهة التحديات الهيكلية واللوجيستية الضخمة أمام هذه المعاهدة التجارية التي يتوقف على تفعيلها مستقبل الاقتصاد الأفريقي، انطلقت عدة مشاريع كبرى للبنى التحتية مثل مصفاة النفط التي يجري إنشاؤها في نيجيريا بكلفة تزيد على 21 مليار دولار، والتي ستكون الأكبر في العالم. وفي ساحل العاج، وضعت الحكومة حجر الأساس لبناء مصنع بطاقة معالجة 50 ألف طن من الكاكاو سنوياً، علماً أن هذا البلد ينتج، إلى جانب جارته غانا، 60 في المائة من الكاكاو في العالم بنسبة من الأرباح الصافية لا تزيد على 6 في المائة في سلسلة القيمة، ينتظر أن تصل إلى 25 في المائة في حال تصدير الإنتاج بعد معالجته.
الغابون من جهتها، وبعد أن كان اقتصادها يعتمد على صادرات النفط، تتجه الآن إلى الرهان على الصناعات الخشبية التي أصبحت المصدر الثاني لمنتوجاتها إلى السوق العالمية. وفي السنغال، بدأت الحكومة بتشييد مصنع ضخم لإنتاج اللقاحات، بدعم من البنك الأوروبي للاستثمار وإشراف معهد باستور الفرنسي، بطاقة إنتاج 300 مليون جرعة سنوياً من اللقاحات لكل أنواع الأمراض.
وتهدف كل هذه المبادرات إلى توفير فرص عمل في قارة تشكّل البطالة فيها بين الشباب واحدة من أخطر القنابل الموقوتة التي تهدد استقرارها الاجتماعي، في الوقت الذي تسعى إلى إحداث تغيير جذري في النمط الإنتاجي الذي كان يقوم حتى الآن على تصدير المواد الخام.
في غضون ذلك، عادت المنظمات الدولية إلى دق ناقوس الخطر بشأن التداعيات الكارثية المرتقبة لتغيّر المناخ في القارة الأفريقية، وناشدت الدول الغنية الإسراع في مد يد العون إلى البلدان الأكثر تضرراً من هذه التداعيات رغم أنها تتحمل أقل قدر من المسؤولية لكونها خارج دائرة الإنتاج الصناعي أو بقيت على هامشها. وكان برنامج الأمم المتحدة للبيئة قد أفاد في تقريره الأخير بأن موجات الجفاف تضاعفت ثلاث مرات في العقود الأربعة المنصرمة، وتسببت في موجات من المجاعة والهجرات الداخلية التي بلغ عدد النازحين فيها 40.5 مليون شخص العام الماضي، منهم 30 مليوناً بسبب ظواهر مناخية مثل الجفاف والأعاصير والفيضانات وحرائق الغابات.
أفريقيا في انتظار النهضة الموعودة
«الشرق الأوسط» تجول في القارة التي تستنزف الديون الخارجية مواردها... ومعدلات الجوع تبلغ مستويات قياسية
أفريقيا في انتظار النهضة الموعودة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة