لغة تلعب على السطح وعينها مشدودة إلى العمق

بهية طلب في «نساء التفاح»

لغة تلعب على السطح وعينها مشدودة إلى العمق
TT

لغة تلعب على السطح وعينها مشدودة إلى العمق

لغة تلعب على السطح وعينها مشدودة إلى العمق

عن الحزن والألم ومفارقات الحب والأصدقاء والذكريات يدور ديوان «نساء التفاح» للشاعرة بهية طلب، الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. تبرز هذه المفارقات دلالياً ورمزياً عبر «جدل الاستدعاء والإحالة»، بما يوفره من مساحة أرحب للمخيلة الشعرية، وحرية القفز ما بين الأزمنة والأمكنة، وتشكيل حالة من الحوار، تتسع بتنوع المصادر المستدعاة، وطرق الإفادة منها وتوظيفها في النص الشعري، وخلق مجال حيوي لتراسلات الحواس.
يطالعنا هذا على نحو لافت في القسم الأول من الديوان «نسائي المضيئات»، وفيه تستدعي الشاعرة باقة من نجمات السينما، بشكل يوحي بعشقها لهن وللسينما أيضاً، وتسمي بعض النصوص بأسماء أفلام شهيرة أجنبية ومصرية، تستدعيها وتحيل إليها في شكل لا يخلو من حس المناظرة والتماثل والمفارقة الضمنية، بين ما تطرحه الذات الشاعرة من صراعات ورؤى ومشاعرَ عاطفية محبطة ومنكسرة في الغالب الأعم، وبين ما تنشده وتصبو إليه من خلال الإحالة إلى أجواء هذه النصوص السينمائية، ومنها: «ذهب مع الريح»، «أين عمري»، وأيضاً «جسور ماديسون» في نص بعنوان «فرانشيسكا»، بطلة الفيلم والرواية. كما يبرز الولع بقصص الحب التراثية الكلاسيكية وحكايات عشاقها، ابنة الحكي الشفهي، والمخيلة البصرية التشكيلية، كما في «ليلى والذئب» و«قرط لؤلوي»، وكذلك الجمال المغدور، في «أنجلينا» وصراع المُلك بشقيه الخاص والعام في «المتجردة»، زوجة النعمان بن المنذر ملك الحيرة. تلعب القصائد على ما آلت إليه مصائر هؤلاء الأبطال ومآزقهم في الوجود والحياة، وتبدو كأنها مجموعة من المرايا المتجاورة، على سطحها تنعكس هواجس وهموم الذات الخاصة في الحب والألم والحزن. كما تعكس درامياً الزمن الهارب المنفلت من قبضة هذه الذات ووعيها القلق المؤلم بنفسها وواقعها الشائك. تقول الشاعرة في نص «فرانشيسكا»:
«الملل
الملل
لماذا لا يمل جسدي
مع أني مللت ملامحي جميعاً
هذا الرجل جعلني أرى كل الزهور صفراءَ
صفراءَ فقط.
والجدرانَ
ووجوهَ الناس
والجسرَ الذي يؤرخ الآن لمحبتنا
أصفر.
لماذا لم يجلب زهوراً ملونة
ولم يقل أحبك
حين يتركني ألم الضوء من على الجدران.
أبتسم لغدٍ لا أعرف فيه غير الانتظار.
هكذا يبدو الوجه الأول للمشهد في النص، شاحباً وذابلاً، غارقاً في تيه الانتظار، مثقلاً بنمطية العيش وضغوط الواقع والحياة، لكن سرعان ما ينفتح النص نفسه على وجهه الآخر في الفيلم، على الحب وقدرته على تفتيت الواقع اليومي وخلق طقوس من السحر والدهشة، في ظلالها يشف الزمن مقطراً من شوائب العادة ورتابة المألوف، ليصبح زمناً خاصاً مثقلاً بحالة من الصفاء والنشوى:
« أنتَ في ثلاثة أيام
أوقفتني على هذا الجسر
وعبرتَ بي إلى حلمٍ
لم أكن أرى أي جمال في جسرٍ
تعبره الأقدام
ويشبه حياتي
في ثلاثة أيام
اشتريت ثوباً لا يستر أنوثتي
وامتلأ فمي بالضحكات»
بتراوحات فنية ودلالية يتواتر هذا الهم في القصائد الأخرى، ويتناص مع حكايات شهيرة من تراث الحكي القصصي تركز على الحب باعتباره العاطفة الإنسانية الأنقى، فالذئب في نص «ليلى والذئب» يتجرد من شراسته، ويتحول إلى صديق ومسامر، ورفيق يمكن التنزه معه بمحبة، يقهقه ويغني، ويتسع برمزيته ليصبح حلماً شجياً ومرحاً من أحلام الطفولة. وفي «أين عمري» يتأمل النص الحنين، ويصفه بأنه «طفل جائع على موائد اليتامى» في إشارة تتسع فيها الفجوة بين الأعراف التقليدية، وصراع البطلة في الفيلم لنيل حريتها واستقلالها، من ركبة الزواج برجل في سن والدها. بقوة الإحالة يتحول الحلم بالحربة المنشودة، إلى صدى رنين وذبذبة شعرية تتناثر في أجواء النص على هذا النحو تقول:
« ثوب أبيض بنقط سوداء
وكلوش واسعٌ
وأفك تجاعيد شعري
وأجعله حراً
فلم أكن حرة أبداً
حلمت بليل ناعم
على شرفات نافذة ملهى على النيل
وكعب حذائي
يتكسر من تطوافي الطويل
في قاعة أشعلها وحدي
وأترك ثيابي ملقاة على الأرض»
ليس بعيداً عن هذه الذبذبة، صور الحرب ومشاهدها وأجواؤها الكابوسية المدمرة التي تنعكس في نص «ذهب مع الريح»، وتصبح مواجهة مستميتة وصراعاً مشبوباً، ما بين الحب والموت، الحقيقة والعهر، الذاكرة والحلم، ثم الواقع والمثال.
«يااااه
أحببته
كان زوج رفيقتي
كم عشقت هذا الوهنَ الذي يتساند على الجدران
فأقبل الجدران بعد رحيله
وكنت أنا وزوجي فارسين يقتتلان بنفس القوة
في سباقاتنا
لم يكن أحدنا منتصراً
لم يكن أحدنا مهزوماً
أنا الجميلة التي يعرفها
وهو الصائد الذي أعرفه»
على عكس أجواء هذا النص تصبح الكتابة مرادفاً للألم، وقاسماً مشتركاً يتوزع ما بين الذات الشاعرة والشخصية المستدعاة، كما في نص «أنجلينا» الذي يحيل إلى صراع الممثلة المعروفة أنجلينا جولي مع مرض السرطان، ما يشي بوشائج من الشجن والبكاء، يتناثر رذاذها في أجواء الديوان، كأنه مرثية لحياة عابرة وفاسدة، مهددة بالزوال دائماً.
«في بهو فرعوني
تجلسين كملكة
تنام النمورُ حولها في سكينة
دانت لك المدن
برجالها العابثين
يحلمون برائحة السوسن في ثيابك
المدينة يا صديقتي قاتلة
والأطباءُ خونة
لماذا أباحوا سرقة نهديك
بمقصلاتهم
ولماذا استمعت لهراءاتهم عن الألم
ربما كان أحدهم وهو يقتطع ثدييك
يحكي لمساعده في غرفة العمليات
عن صديقته التي هجرته فجأة
دون الإشارة
لعجزه عن ملاحقة أنوثتها».
يختزل هذا المقطع حزمة من السمات الفنية اللافتة في هذا الديوان: من أبرزها، أن اللغة - برغم ما يشوبها أحياناً من عوائق - تظل ابنة الصورة الشعرية، والحالة والمشهد، ابنة روح الحكاية في ومضها الشعري الخاطف، كما أنها لغة تحتفي البساطة والتلقائية، تلعب على السطح وعينها مشدودة إلى العمق، إلى ما وراء الحالة والمشهد. ومن سمات اللعب هنا، حرص الشاعرة على تذييل النص بإشارة «احتمالية»، تكشف عن المصدر الذي استدعاه النص وأحال إليه أجواءً من عالمه الشعري... على سبيل المثال تقول: «قد يرتبط بالمتن: النجمة السينمائية العالمية أنجلينا جولي».
في القسم الثاني والأخير من الديوان «حالات لامرأة حزينة»، يتوزع هذا الحزن على ثماني قصائد، ونلاحظ أن المسافة بين الذات وموضوعها تتقلص، وتصل إلى حد الالتصاق، وهو ما يعكس طبيعة هذه النصوص كونها ابنة الواقع الحي المعيش، فلا استدعاء ولا إحالة إلى ماضٍ يظل محض غبار يتناثر في الذاكرة والحلم، تلاشت المسافة التي كانت بمثابة نافذة للتلصص، والقفز فوق أسطح الأزمنة والأمكنة... وكأن الشاعرة تقول: هنا العالم كما عشته وما زلت أتنفسه وأحياه، في محيط العائلة الأم والأب والزوج والأبناء، ومحيط الأصدقاء الذين تثقلني محبتهم كثيراً إلى حد البكاء والضحك أحياناً.
في هذا الجو تنفتح الذات الشاعرة على براح الطبيعة، والأشياء البسيطة في ألفتها وعفويتها، فللأم رائحة الفرح، ولا حدود لمداعبات الأبناء ومشاكساتهم والفرح بهم أيضاً، ولا بأس أن تعلن الذات الشاعرة عن كرهها للشتاء، أو البحث عن أشواك طويلة للاحتماء، أو الاحتماء بالجدار... إنها معادلة الحياة الرخوة، تطالعنا على هذا النحو في الصفحة الأخيرة من الديوان:
«لقد مَر الموتُ من هنا
حين دخلتُ في منتصف الفيلم
ورأيت رجلاً يقتل جواداً أبيض كجواد طفولتي
وانهرت من الحزن والصراخ
نعم كان لأبي حصانٌ أبيضُ
قتله جدي برصاصة الرحمة من الألم
حين انكسرت ساقُه
لقد مر الموتُ من هنا
أنا لا أخافه
بل أخافه
حتى وأنا أكرر كل يوم دعائي
برصاصة الرحمة لي».
تنهي الشاعرة نجواها الداخلية الحائرة بتذييل دلالي لافت، يقول: «ما من هامش هنا».
فهكذا، ليس المهم التواجد في الحياة، على الهامش أو في المتن، بل المهم أن تكون أنت معنى الحياة، معنى النقص والإضافة معاً، هذا هو الحب، في أقصى مدارات وعلامات تشكله وتجرده من نوازع الخوف والقلق والانطفاء.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

رغم المرض... سيلين ديون تبهر الحضور في افتتاح أولمبياد باريس

النجمة العالمية سيلين ديون تغني خلال فعاليات افتتاح الأولمبياد (رويترز)
النجمة العالمية سيلين ديون تغني خلال فعاليات افتتاح الأولمبياد (رويترز)
TT

رغم المرض... سيلين ديون تبهر الحضور في افتتاح أولمبياد باريس

النجمة العالمية سيلين ديون تغني خلال فعاليات افتتاح الأولمبياد (رويترز)
النجمة العالمية سيلين ديون تغني خلال فعاليات افتتاح الأولمبياد (رويترز)

لم يمنع المرض النجمة العالمية سيلين ديون من إحياء افتتاح النسخة الـ33 من الألعاب الأولمبية في باريس، مساء الجمعة، حيث أبدعت في أول ظهور لها منذ إعلان إصابتها بمتلازمة الشخص المتيبس.

وأدت المغنية الكندية، الغائبة عن الحفلات منذ 2020، أغنية «L'hymne a l'amour» («نشيد الحب») لإديت بياف، من الطبقة الأولى لبرج إيفل.

ونجحت الفنانة الكندية رغم أزمتها الصحية الأخيرة في مواصلة شغفها كمغنية عالمية، كما أثارث النجمة البالغة من العمر 56 عاماً ضجة كبيرة بين معجبيها في عاصمة الأنوار هذا الأسبوع الحالي، حيث شوهدت محاطة بمعجبيها.

وتعاني ديون بسبب هذا المرض النادر، الذي يسبب لها صعوبات في المشي، كما يمنعها من استعمال أوتارها الصوتية بالطريقة التي ترغبها لأداء أغانيها.

ولم يشهد الحفل التاريخي في باريس عودة ديون للغناء المباشر على المسرح فقط، بل شمل أيضاً أداءها باللغة الفرنسية تكريماً لمضيفي الأولمبياد.

وهذه ليست أول مرة تحيي فيها سيلين ديون حفل افتتاح الأولمبياد، إذ أحيته من قبل في عام 1996، حيث أقيم في أتلانتا في الولايات المتحدة الأميركية.

وترقبت الجماهير الحاضرة في باريس ظهور ديون، الذي جاء عقب أشهر عصيبة لها، حين ظهر مقطع فيديو لها وهي تصارع المرض.

وأثار المشهد القاسي تعاطف عدد كبير من جمهورها في جميع أنحاء المعمورة، الذين عبّروا عبر منصات التواصل الاجتماعي عن حزنهم، وفي الوقت ذاته إعجابهم بجرأة سيلين ديون وقدرتها على مشاركة تلك المشاهد مع العالم.

وترتبط المغنية بعلاقة خاصة مع فرنسا، حيث حققت نجومية كبيرة مع ألبومها «دو» («D'eux») سنة 1995، والذي تحمل أغنياته توقيع المغني والمؤلف الموسيقي الفرنسي جان جاك غولدمان.

وفي عام 1997، حظيت ديون بنجاح عالمي كبير بفضل أغنية «My Heart will go on» («ماي هارت ويل غو أون»)، في إطار الموسيقى التصويرية لفيلم «تايتانيك» لجيمس كامرون.