ظلال المدن... والصمت

داخل الاستديو اللندني للفنان الفرنسي هيرفي كونستانت

كونستانت بين أعماله
كونستانت بين أعماله
TT

ظلال المدن... والصمت

كونستانت بين أعماله
كونستانت بين أعماله

لم أتخيل قط أن تلك السلالم الرطبة القريبة من منطقة هاكني البوهيمية، شرق لندن، ممكن أن تؤدي إلى استديو كبير ومتنوع الأعمال والإبداعات الفنية، كما هو استديو الفنان الفرنسي المقيم في لندن هيرفي كونستانت.
حالما يدخل المرء ذلك الاستديو الكبير الشبيه بالقبو، أطلقتُ عليه «عرين الفنان»، فإنه ينسى تماماً ما يحدث في العالم الخارجي، ويتماهى مع اللوحات والكتب وأصص النباتات الداخلية والتماثيل وفرش الرسم وأجهزة التسجيل وغيرها من مقتنيات الفنان الشخصية. قد يبدو للوهلة الأولى أن ذلك الاستديو/ القبو مبعثر ومليء بأشياء كثيرة، لكن مع التمعن والتماهي بالجدران التي تملؤها اللوحات أيقنت أن المكان مرتب جداً وبعيد عن التشظي، لكنه أسلوب الفنان المميز في حياته كما في أعماله كما في صوته ومظهره. إنه تشظ بانتظام وبعثرة محكمة.
سجلنا ما يقرب الساعة بين سؤال وجواب، وحديث عن التجربة الشخصية والفن والسينما والشعر (سجل بصوته العميق بعضاً من قصائد رامبو وأرفقه بأعماله الفيلمية).
حينما سألته ما هو هدفه من الرسم، وهو الفنان متعدد الأساليب بين التخطيط والرسم والطباعة وصناعة الأفلام وإلقاء القصائد، أجابني:
- الأمر معقد بالنسبة لي، كنت أبحث عن الحب والاهتمام، وأتمنى أن أكون محبوباً، وكأن الطفل الذي جرب وحدة وقسوة الميتم ما زال يصرخ في داخلي طلباً للحب والاهتمام. فقد ولدتُ في الدار البيضاء بالمغرب بداية خمسينات القرن الماضي لأم مغربية وأب فرنسي، وارتحلتُ إلى فرنسا بعمر الخامسة بعد انفصال أبوي، وعشت في الملجأ لعدة سنوات في طفولتي. كنت وحيداً وعانيتُ من الشعور بالوحدة وصعوبة التواصل مع الآخرين. في السابعة عشرة من عمري اشتغلتُ في ورشة لتصليح السيارات في مدينة طولون جنوب فرنسا، وكان أحد الزبائن هو مدير الكونسرفتوار في مدينة طولون، واقترح علي الدراسة في المعهد، وكان ذلك بمثابة الباب الذي فُتح أمامي ولم يغلق لحد الآن، وكان باباً للأدب والموسيقى والفن. بعدها درست المسرح في باريس، وعملت ممثلاً في عدة مسارح، لكني كنت دائم الزيارة للمعارض الفنية واللوفر، وكنت أخطط وأعمل اسكتشيهات لفنانين مشهورين منهم أنتوني كيرشنر وبول كيلي وماكس بيكمان وغيرهم، وأحتفظ بها بين طيات كتبي، وحينما قدمت إلى لندن بداية ثمانينات القرن الماضي وأردتُ دراسة الفن لم أستطع الحصول على منحة دراسية، لذلك بدأت أخطط وأرسم وأبيع أعمالي لكي أعيل نفسي، لكني عرفتُ أيضاً أن هذا ما كنت أريد أن أفعله بقية حياتي. وهكذا كانت انتقالاتي من الموسيقى والمسرح إلى الفن التشكيلي، وأعتقد أن الفنون كلها متواشجة في داخلي كما الثقافات.
يغلب على أعمال هيرفي كونستانت الفنية طابع التجريد، وهناك ظلال من الرمزية والتعبيرية وحتى السوريالية، وهناك أيضاً عين الفنان الواقعية التي تلتقط أشياء استهلاكية بسيطة من الحياة اليومية وتعزلها وتجعلها في محيط مختلف لتعطي أبعاداً رمزية حاذقة تقترب من الروحانية، وتوحي باتساع مساحة الصمت في حياة الإنسان المعاصر، كما في لوحات المقص المفتوح على خلفية معتمة: تليفون أرضي مقطوع جالس على كرسي، دمية جالسة على كرسي ذي مقعد أسود. الفنان نفسه غير مهتم بتبويب أسلوبه، وهو يصرح بأن هناك فكرة ما وشخصنة في أعماله حتى لو بدتْ تجريدية، المهم أن يكون العمل الفني جيداً وأصيلاً.
رسم كونستانت عدة تخطيطات لرامبو، وأحد تخطيطاته تُعرض الآن في متحف رامبو في مدينته شارلفيل، كما أنه رسم بورتريت بحجم كبير لرامبو وهو يحتضر مستلهماً تخطيطات أخته إيزابيلا أثناء فترة وجودها مع الشاعر في مشفى بمدينة مارسيليا. رامبو في هذا البورتريت لا يشبه رامبو الشاب النزق الذي نعرف، بل هو رجل متألم ومتغضن الوجه في حالة احتضار، ويضع على رأسه قبعة أشبه ما تكون بغطاء رأس الفلاحين في مصر. ليس هذا فقط، فقد سجل هيرفي كونستانت بصوته قصيدة رامبو الشهيرة «المركب السكران» في فيديو رائع ومعبر جداً عن رامبو وعن هيرفي في الوقت ذاته، والفيديو متاح في «اليوتيوب» عبر قناة الفنان وبحاشية ترجمة إنجليزية.
يقول هيرفي كونستانت عن شغفه برامبو: «إني أتماهى مع رامبو شعراً وتجربة إنسانية فريدة. هناك حالة اغتراب كبيرة تجمعني برامبو، أنا قارئ جيد لشعره ومتتبع أيضاً لمسارات حياته وارتحاله، وأعتقد أن هناك تشابهاً حياتياً بيننا، فكلانا ولد لأب هو ضابط فرنسي خدم في المغرب العربي، وكلانا افتقد وجود الأم، لقسوتها المفرطة في حالة رامبو ولغيابها الفعلي في حالتي، وكلانا ارتحل نحو المجهول مبكراً في محاولة لحل لغز الاغتراب الذاتي، رامبو هو ملهمي الفني فأنا أستلهم من شعره بعض أعمالي الفنية، سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر».
لم تقتصر بورتريهات هيرفي كونستانت على رامبو فقط، بل رسم بورتريهات للشاعر الفرنسي فيرلين وتريستان تزارا وغيوم أبولونيير وغيرهم الكثير، لكن لا يوجد بورتريت شخصي للفنان رغم كثرة أعماله وتنوعها. وقد شارك مؤخراً مع الشاعر البريطاني آلان برايس في تجربة شعرية فنية مشتركة عبر نشر كتاب شعر بعنوان «حيرة»، وهي نصوص كتبها الشاعر استجابة أو كرد فعل شعري يقارب أعمال الفنان هيرفي كونستانت.
اخترت لوحة من لوحاته تجسد حقيبة متأهبة للسفر بلا مسافر، وقلت له: «هذه اللوحة هي بورتريت شخصي لك»، ابتسم وحكى لي حكاية الحقيبة التي رُميتْ بقوة على نافذة مرسمه الخلفية في مساء خريفي قبل سنوات: «يبدو أن الحقيبة سُرقت من أحدهم، وبعد أن أخذ اللصوص محتوياتها رموها على نافذتي، وجدتها حقيبة جيدة، وظلت ترافقني لعدة سنوات في أسفاري».
قلت له حقاً إنها أفضل بورتريت شخصي لك.


مقالات ذات صلة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

يوميات الشرق «تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر  في تشجيع الشباب على القراءة

«تيك توك» أكثر جدوى من دور النشر في تشجيع الشباب على القراءة

كشفت تقارير وأرقام صدرت في الآونة الأخيرة إسهام تطبيق «تيك توك» في إعادة فئات الشباب للقراءة، عبر ترويجه للكتب أكثر من دون النشر. فقد نشرت مؤثرة شابة، مثلاً، مقاطع لها من رواية «أغنية أخيل»، حصدت أكثر من 20 مليون مشاهدة، وزادت مبيعاتها 9 أضعاف في أميركا و6 أضعاف في فرنسا. وأظهر منظمو معرض الكتاب الذي أُقيم في باريس أواخر أبريل (نيسان) الماضي، أن من بين مائة ألف شخص زاروا أروقة معرض الكتاب، كان 50 ألفاً من الشباب دون الخامسة والعشرين.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق «تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

«تيك توك» يقلب موازين النشر... ويعيد الشباب إلى القراءة

كل التقارير التي صدرت في الآونة الأخيرة أكدت هذا التوجه: هناك أزمة قراءة حقيقية عند الشباب، باستثناء الكتب التي تدخل ضمن المقرّرات الدراسية، وحتى هذه لم تعد تثير اهتمام شبابنا اليوم، وهي ليست ظاهرة محلية أو إقليمية فحسب، بل عالمية تطال كل مجتمعات العالم. في فرنسا مثلاً دراسة حديثة لمعهد «إبسوس» كشفت أن شاباً من بين خمسة لا يقرأ إطلاقاً. لتفسير هذه الأزمة وُجّهت أصابع الاتهام لجهات عدة، أهمها شبكات التواصل والكم الهائل من المضامين التي خلقت لدى هذه الفئة حالةً من اللهو والتكاسل.

أنيسة مخالدي (باريس)
يوميات الشرق آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

آنية جزيرة تاروت ونقوشها الغرائبية

من جزيرة تاروت، خرج كم هائل من الآنية الأثرية، منها مجموعة كبيرة صنعت من مادة الكلوريت، أي الحجر الصابوني الداكن.

يوميات الشرق خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

خليل الشيخ: وجوه ثلاثة لعاصمة النور عند الكتاب العرب

صدور كتاب مثل «باريس في الأدب العربي الحديث» عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، له أهمية كبيرة في توثيق تاريخ استقبال العاصمة الفرنسية نخبةً من الكتّاب والأدباء والفنانين العرب من خلال تركيز مؤلف الكتاب د. خليل الشيخ على هذا التوثيق لوجودهم في العاصمة الفرنسية، وانعكاسات ذلك على نتاجاتهم. والمؤلف باحث وناقد ومترجم، حصل على الدكتوراه في الدراسات النقدية المقارنة من جامعة بون في ألمانيا عام 1986، عمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة اليرموك وجامعات أخرى. وهو يتولى الآن إدارة التعليم وبحوث اللغة العربية في «مركز أبوظبي للغة العربية». أصدر ما يزيد على 30 دراسة محكمة.

يوميات الشرق عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

عمارة القاهرة... قصة المجد والغدر

على مدار العقود الثلاثة الأخيرة حافظ الاستثمار العقاري في القاهرة على قوته دون أن يتأثر بأي أحداث سياسية أو اضطرابات، كما شهد في السنوات الأخيرة تسارعاً لم تشهده القاهرة في تاريخها، لا يوازيه سوى حجم التخلي عن التقاليد المعمارية للمدينة العريقة. ووسط هذا المناخ تحاول قلة من الباحثين التذكير بتراث المدينة وتقاليدها المعمارية، من هؤلاء الدكتور محمد الشاهد، الذي يمكن وصفه بـ«الناشط المعماري والعمراني»، حيث أسس موقع «مشاهد القاهرة»، الذي يقدم من خلاله ملاحظاته على عمارة المدينة وحالتها المعمارية.

عزت القمحاوي

الفيلم السعودي «ثقوب» يفتتح مسابقة آفاق عربية بـ«القاهرة السينمائي»

فيلم «ثقوب» يدور حول قضايا اجتماعية متنوعة (مهرجان القاهرة السينمائي)
فيلم «ثقوب» يدور حول قضايا اجتماعية متنوعة (مهرجان القاهرة السينمائي)
TT

الفيلم السعودي «ثقوب» يفتتح مسابقة آفاق عربية بـ«القاهرة السينمائي»

فيلم «ثقوب» يدور حول قضايا اجتماعية متنوعة (مهرجان القاهرة السينمائي)
فيلم «ثقوب» يدور حول قضايا اجتماعية متنوعة (مهرجان القاهرة السينمائي)

افتتح الفيلم السعودي «ثقوب» مسابقة «آفاق عربية» بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ45، بحضور صنّاع العمل، وهو العرض العالمي الأول للفيلم الذي يخرجه عبد المحسن الضبعان.

تدور أحداث الفيلم حول «راكان»؛ الرجل الذي خرج للعالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورطه في قضية مرتبطة بالتطرف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة بعدما تغيرت أفكاره، لكن حياته على المستوى المادي لم تكن الأفضل في ظل معاناته من ضيق ذات اليد، وعمله في ورشة إصلاح سيارات بجانب إشرافه على بعض أعمال المقاولات.

يظهر «راكان» الذي يقوم بدوره الممثل السعودي مشعل المطيري، وهو مشتت ومهموم بشكل واضح منذ المشاهد الأولى مع استئجاره لمنزل جديد بمبلغ يصل إلى 30 ألف ريال سنوياً، وهو المنزل الذي يلتهم جزءاً كبيراً من دخله المحدود، في حين يوجد بالمنزل «ثقب» واضح، لكنه لا ينتبه إليه بسبب الضغوط التي يواجهها.

مع مرور الوقت والأحداث، تتبدى الكثير من التفاصيل عن حياته الماضية المليئة بالظلام والاضطراب النفسي الذي يعيشه بين الماضي والحاضر، بالإضافة إلى علاقته مع شقيقه التي تشكل جانباً مهماً في الأحداث وطريقة التعامل معها، بجانب والدته وزوجته التي تطلب منه ترميم «الثقب» الموجود في المنزل.

وخلال الندوة التي أعقبت عرض الفيلم، أعرب المنتج أيمن النقيب عن سعادته بالمشاركة في «القاهرة السينمائي»، مشيراً إلى أن الفيلم عرض قصة واقعية بأسلوب سينمائي حديث مع استخدام تجربة بصرية تعزز الفكرة التي يتناولها العمل.

وأضاف أنهم حرصوا على التطرق للتشوهات الاجتماعية للشخصيات في الأحداث، معتبراً أن الفيلم بمثابة «محاولة لتقديم أصوات سينمائية مختلفة» بميزانيات محدودة.

مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (مهرجان القاهرة السينمائي)

واعتبر الناقد السعودي عبيد التميمي أن «طموح المخرج عبد المحسن الضبعان في العمل اصطدم بتردده في التعامل مع عدة أمور خلال الأحداث»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أنه «بالرغم من اللقطات الأولى التي جعلت العمل يبدو واعداً عبر سرد الكثير من التفاصيل المختلفة والمتميزة، فإن المونتاج وكثرة الأفكار التي جرى طرحها خلال مدة الشريط أثرت بشكل كبير على سرعة الإيقاع والأحداث».

ولفت إلى أن «اعتماد المخرج على الحوارات التفصيلية بجانب الرمزية لم يكن في صالح العمل، في ظل غياب لافت للمشاعر الإنسانية بالحوارات باستثناء مشاهد محدودة».

ويعزو التميمي قرار المخرج الاعتماد على الحوار بجانب التلميحات والسرد البصري إلى «استشعار القلق من عدم وضوح ما سعوا لتنفيذه في الأحداث».

ويرى الناقد الفني المصري محمد عبد الرحمن أن الفيلم «انطلق من فكرة لها جاذبية مختلفة للمشاهد، لكن مع مرور الأحداث وقع صنّاع الفيلم في فخ الإطالة غير المبررة»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «العمل جعل المتفرج في حيرة حول فهم دوافع الشخصيات وتفاصيلها».

وأشاد عبد الرحمن بأداء البطل مشعل المطيري قائلاً: «لقد تعايش مع الشخصية بشكل يتسق مع مختلف المراحل التي مر بها»، في حين عدّ أن «المعالجة الخاصة بالفكرة على مستوى الصورة حملت مناورة مع المتفرج ربما تؤدي بالبعض لفقدان الشغف في تتبع الأحداث».

و«يحمل الفيلم لمحات فنية»، بحسب الناقد المصري أحمد سعد الدين الذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «العمل طرح مشكلة مهمة وناقشها بشكل جيد نوعاً ما، لكن بإيقاع بطيء نسبياً»، معتبراً أن العمل بمثابة خطوة جيدة لمثل هذه النوعية من الأعمال.