«كيمياء النقر»... عندما تحول الكيميائي إلى «خيّاط مواد»

خبراء تحدثوا لـ «الشرق الأوسط» عن مبررات منحها جائزة نوبل

«كيمياء النقر»... عندما تحول الكيميائي إلى «خيّاط مواد»
TT

«كيمياء النقر»... عندما تحول الكيميائي إلى «خيّاط مواد»

«كيمياء النقر»... عندما تحول الكيميائي إلى «خيّاط مواد»

كان الوصف الذي يقرب الكيمياء العضوية إلى أذهان البسطاء، أن الكيميائي أشبه بطباخ يمزج بين صنفين، لينتج في النهاية صنفا ثالثا جديدا، لكن «كيمياء النقر» التي حازت على جائزة نوبل نقلت التفاعلات إلى ما هو أعقد من ذلك، حيث يستطيع المتخصص في هذا الفرع من الكيمياء، تنفيذ مادة بمواصفات معينة حسب الطلب، فلم يعد الكيميائي في هذه الحالة طباخا، لكنه أشبه بـ«الخياط» (الترزي).

كيمياء النقر
يقول ناجح علام، أستاذ هندسة المواد بالجامعة الأميركية بالقاهرة في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، إن «نقل الكيمياء إلى هذا المستوى يستحق بلا شك الحصول على جائزة نوبل، لأن هذه الفلسفة في الكيمياء، كانت لها تطبيقات لا حصر لها».


باري شاربلس  أحد الفائزين بنوبل الكيمياء

ويعتمد علام في عمله على الخلايا الشمسية العضوية، وهي أحد مجالات اهتمامه، على مواد تم إعداها باستخدام كيمياء النقر، لكنه لا ينتجها بنفسه، ويستوردها من الخارج بأسعار مرتفعة جدا، حيث يتجاوز الغرام الواحد الألف يورو، كون المتقنين لهذا الفرع من الكيمياء قلة في العالم، فضلا عن أن إنتاج المواد بهذه الطريقة يأخذ بعضاً من الوقت، كما يوضح علام.
ويضيف: «التطبيقات الأوسع لكيمياء النقر تكون في صناعة الأدوية»، مشيرا إلى أنه تم استخدامها في علاج مشكلة تفاعل الأدوية مع الضوء، وهي المشكلة التي تبطل مفعول بعض المضادات الحيوية مثل «الأوجمنتين»، بسبب عدم إدراك الكثيرين لضرورة إبقاء الدواء محفوظا في عبوته، لأنه عندما يتم إخراجه من العبوة يحدث تفاعل للدواء مع الضوء، فيتسبب ذلك في إنتاج مواد ضارة».
من جهته يتحدث إبراهيم الشربيني، المدير المؤسس لبرنامج علوم النانو، ومركز أبحاث علوم المواد بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا في مصر، عن أحد التطبيقات المهمة لـ«كيمياء النقر» في صناعة الدواء، حيث يمكن أن تساعد في توصيل الأدوية المعدة بطريقة النانو إلى داخل الخلايا السرطانية المصابة.
يقول الشربيني لـ«الشرق الأوسط»: «الكريات النانوية المحملة بالأدوية، لكي تصل إلى داخل الخلايا، لا بد من تزيينها ببعض الجزيئات التي تتعرف على الهدف المراد توصيل تلك الكريات له، ويتم ربط تلك الجزيئات بتلك الكريات النانوية باستخدام كيمياء النقر».
ويستخدم الشربيني وصفا أشبه بوصف الخياط (الترزي) الذي استخدمه علام لشرح كيمياء النقر، مضيفا «هي أشبه بمصمم هندسي تقول له ما هي المواصفات التي تريدها في منزلك، ليخرج لك المنزل بهذه المواصفات، ولكن على المستوى الجزيئي».
ويضيف: «نحن أمام مستوى عالٍ جدا من التحكم في الجزيئات باستخدام مواد وسيطة عالية الدقة للحصول على مركب بالمواصفات المطلوبة، ويكون دور هذه المواد الوسيطة إزالة الحواجز المتباينة بين الجزيئات المراد تفاعلها للوصول لمركب جزيئي مستهدف، ثم تخرج هذه المواد الوسيطة من التفاعل بعد أداء المهمة، وأهم ما يميز هذه المواد هو التخصص، وإمكانية التعامل بدقة عالية داخل الجزيء».
ومن وصف «الترزي» و«المصمم» إلى تشبيه ثالث، لهذه الكيمياء، التي يبدو أن تكريمها حاز على تأييد الكيميائيين، فتباروا بحماس شديد في تبسيطها.

بناء جزيئي
يقول بنيامين شومان، الكيميائي في إمبريال كوليدج لندن، في تقرير نشرته وكالات الأنباء مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الجاري: «تخيل شخصين يسيران في غرفة فارغة في الغالب باتجاه بعضهما البعض ثم يتصافحان... هذه هي الطريقة التي يتم بها التفاعل الكيميائي الكلاسيكي، لكن ماذا لو كان هناك الكثير من الأثاث وأشخاص آخرون يسدون الغرفة، فقد لا يلتقي أحدهما الآخر، ثم تخيل الآن أن هؤلاء الناس كانوا جزيئات، وهي مجموعات صغيرة من الذرات التي تشكل أساسا كيميائيا، فإن التقاء هذه الجزيئات واتحادها معا، في بيئة يوجد بها الكثير من الأشياء الأخرى هي تلك التي تسمى (كيمياء النقر)».
وانتقل شومان من هذا التشبيه إلى تشبيه رابع، مضيفا: «فلسفة هذا الفرع من الكيمياء أنه أشبه بـ(الليغو) في التقاء الجزيئات معا في بناء جزيئي».
لكن كارولين بيرتوزي، التي شاركت جائزة نوبل في الكيمياء هذا العام مع باري شاربلس ومورتن ميلدال، قالت إن الأمر يتطلب نوعا خاصاً جدا من الليغو.
وأوضحت في نفس التقرير الذي نشرته وكالة «الصحافة الفرنسية» أنه «حتى لو كانت طائرتا ليغو محاطتين بملايين من الألعاب البلاستيكية الأخرى المتشابهة للغاية، فإنهما سينقران على بعضهما البعض فقط».
وتعود فلسفة هذه الكيمياء إلى عام 2000، حيث اكتشف كل من شاربلس وميلدال بشكل منفصل تفاعلا كيميائيا محددا باستخدام أيونات النحاس كمحفز، حيث يتمتع النحاس بالعديد من المزايا، بما في ذلك أن التفاعلات يمكن أن تتضمن الماء ويتم إجراؤها في درجة حرارة الغرفة بدلاً من الحرارة العالية التي يمكن أن تعقد الأمور.
وكانت هذه الطريقة الخاصة لربط الجزيئات أكثر مرونة وكفاءة واستهدافاً مما كان ممكنا من قبل، ومنذ اكتشافه، اكتشف الكيميائيون جميع الأنواع المختلفة للهندسة الجزيئية التي يمكنهم بناؤها باستخدام كتل «الليغو» الجديدة الخاصة بهم.

تطبيقات واسعة
يقول توم براون، الكيميائي البريطاني في جامعة أكسفورد الذي عمل على كيمياء النقر فوق الحمض النووي: «التطبيقات لا حصر لها تقريبا، لكن كانت هناك مشكلة واحدة في استخدام النحاس كعامل مساعد، وهي أنه يمكن أن يكون ساما لخلايا الكائنات الحية، مثل البشر، لذلك بنت بيرتوزي على أسس عمل شاربلس وميلدال، حيث صممت طريقة خالية من النحاس لاستخدام كيمياء النقر مع الأنظمة البيولوجية دون قتلها».
ويضيف أن «الجزيئات في السابق كانت تنقر معا في خط مستقيم مسطح، لكن بيرتوزي اكتشف أن إجبارها على الانحناء قليلاً جعل التفاعل أكثر استقرارا.
وأطلقت بيرتوزي على المجال الذي ابتكرته الكيمياء المتعامدة البيولوجية، أي الوسائل المتعامدة التي تتقاطع في الزوايا القائمة. وتقول رئيسة الجمعية الكيميائية الأميركية أنجيلا ويلسون: «نحن نوعا ما في قمة جبل الجليد»، مضيفة أن «هذه الكيمياء ستغير العالم».
والاستخدامات المحتملة لكيمياء النقرات، كما قالت بيرتوزي في مؤتمر نوبل، أنها «متعددة بحيث لا يمكنني حتى حصرها، وأحد الاستخدامات هو تطوير أدوية جديدة تستهدف بعضها إجراء الكيمياء داخل المرضى البشريين للتأكد من أن الأدوية تذهب إلى المكان الصحيح»، وأضافت أن مختبرها بدأ البحث عن العلاجات المحتملة لفيروس كورونا الحاد.
أمل آخر هو أن «كيمياء النقر» يمكن أن تؤدي إلى طريقة أكثر استهدافا لتشخيص وعلاج السرطان، وكذلك جعل العلاج الكيميائي له آثار جانبية أقل خطورة.
وقالت ميلدال في تصريحها، إن كيمياء النقر استخدمت بالفعل «لإنتاج بعض البوليمرات المتينة للغاية» التي تحمي من الحرارة.
هذه التطبيقات الواسعة جدا التي لا يمكن حصرها جاءت من خلال العمل على نقطة محددة تعمق فيها الباحثون منذ عام 2000، وهذه رسالة واضحة للباحثين ترسلها جائزة نوبل هذا العام، كما يؤكد ربيعي حسن، الباحث في الكيمياء بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا.
يقول حسن لـ«الشرق الأوسط»: «هؤلاء الباحثون لم يلهثوا خلف كل ما هو جديد، لينتقلوا من مجال إلى آخر، لكنهم ركزوا جهدهم على نقطة محددة أخلصوا في دراستها لمدة 20 عاماً، فكانت الجائزة من نصيبهم».


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

نظام «كريسبر» جديد لإسكات الجينات بدلاً من «قصّها»

نظام «كريسبر» جديد لإسكات الجينات بدلاً من «قصّها»
TT

نظام «كريسبر» جديد لإسكات الجينات بدلاً من «قصّها»

نظام «كريسبر» جديد لإسكات الجينات بدلاً من «قصّها»

توصَّل باحثون في «مركز علوم الحياة بجامعة» فيلنيوس في ليتوانيا، إلى اكتشاف طريقة جديدة رائدة في مجال البحث الجيني تسمح بإسكات (أو إيقاف عمل) جينات معينة دون إجراء قطع دائم للحمض النووي (دي إن إيه).

وتُقدِّم الدراسة مساراً جديداً محتملاً لتعديل الجينات بشكل أكثر أماناً يشبه الضغط على زر «إيقاف مؤقت» على التعليمات الجينية داخل الخلايا.

آلية عمل نظام «كريسبر» الجديد

اكتشف فريق البروفسور باتريك باوش من معهد الشراكة لتقنيات تحرير الجينوم بمركز العلوم الحياتية في جامعة فيلنيوس بليتوانيا، بالتعاون مع خبراء دوليين في البحث المنشور في مجلة «Nature Communications» في 29 أكتوبر (تشرين الأول) 2024، نظاماً جديداً مختلفاً للتعديل الجيني.

وعلى عكس نظام «كريسبر كاس9 (CRISPR-Cas9)»، المعروف الذي اشتهر بقدرته على قطع الحمض النووي (DNA)، يعمل نظام «كريسبر» من النوع «آي في إيه» (IV-A CRISPR) بشكل مختلف، حيث يستخدم مركباً موجهاً بالحمض النووي الريبي لإسكات الجينات دون انشقاق خيوط الحمض النووي «دي إن إيه (DNA)».

كما يستخدم النظام الجديد مركباً مؤثراً يجنِّد إنزيماً يُعرف باسم «دين جي (DinG)». ويعمل هذا الإنزيم عن طريق التحرك على طول خيط الحمض النووي (DNA)، وتسهيل إسكات الجينات من خلال عملية غير جراحية.

تقنية «كريسبر-كاس9» للقص الجيني

هي أداة تعمل كمقص جزيئي لقص تسلسلات معينة من الحمض النووي (دي إن إيه). وتستخدم الحمض النووي الريبي الموجه للعثور على الحمض النووي المستهدف. و«كاس9» هو البروتين الذي يقوم بالقص، وهذا ما يسمح للعلماء بتعديل الجينات عن طريق إضافة أو إزالة أو تغيير أجزاء من الحمض النووي، وهو ما قد يساعد على علاج الأمراض الوراثية، وتعزيز الأبحاث.

** آفاق جديدة لتعديل الجينات بشكل أكثر أماناً وغير جراحي

بروتينات وحلقات

يستخدم نظام «كريسبر» من النوع «IV-A» بروتينين مهمين، هما «Cas8»، و«Cas5» للعثور على بقع محددة على الحمض النووي (DNA). ويبحث هذان البروتينان عن تسلسل قصير من الحمض النووي بجوار المنطقة المستهدفة التي تتطابق مع دليل الحمض النووي الريبي. وبمجرد العثور عليه يبدآن في فك الحمض النووي وإنشاء هياكل تسمى حلقات «آر (R)».

وحلقات «آر» هي الأماكن التي يلتصق فيها الحمض النووي الريبي بخيط واحد من الحمض النووي (DNA)، وتعمل بوصفها إشارةً للنظام لبدء إيقاف أو إسكات الجين.

وكما أوضح البروفسور باوش، فإن «آر» في حلقة «R» تعني الحمض النووي الريبي. وهذه الهياكل أساسية لأنها تخبر النظام متى وأين يبدأ العمل. ولكي تكون حلقات «آر» مستقرةً وفعالةً يجب أن يتطابق الحمض النووي، ودليل الحمض النووي الريبي بشكل صحيح.

وظيفة إنزيم «دين جي»

يساعد إنزيم «DinG» نظام «كريسبر» على العمل بشكل أفضل من خلال فك خيوط الحمض النووي (DNA). وهذا يجعل من الأسهل على النظام التأثير على قسم أكبر من هذا الحمض النووي، ما يجعل عملية إسكات الجينات أكثر فعالية وتستمر لفترة أطول.

وأشار البروفسور باوش إلى أنه نظراً لأن إنزيم «DinG» يمكنه تغيير كيفية التعبير عن الجينات دون قطع الحمض النووي، فقد يؤدي ذلك إلى تطوير أدوات وراثية أكثر أماناً في المستقبل.

تطبيقات محتملة لتخفيف تلف الحمض النووي

يحمل الاكتشاف إمكانات هائلة لتحرير الجينوم والبحث في المستقبل، إذ يمكن أن تخفف الطبيعة غير القاطعة لهذه الطريقة من المخاطر المرتبطة بتلف الحمض النووي( DNA). وهو مصدر قلق عند توظيف تقنيات تحرير الجينات الحالية.

ومن خلال تمكين تعديل الجينات دون إحداث تغييرات دائمة في الحمض النووي( DNA) يمكن أن يكون هذا النهج الجديد مفيداً بشكل خاص في التطبيقات السريرية مثل العلاج الجيني للاضطرابات الوراثية. كما أن القدرة الفريدة لهذا النظام على عبور الحمض النووي دون إجراء قطع، أمر مثير للاهتمام لتطبيقات تحرير الجينات المتقدمة.

الدقة والسلامة

ويعتقد فريق البحث بأن هذه الطريقة يمكن أن تزوِّد العلماء وخبراء التكنولوجيا الحيوية بأدوات أكثر دقة لدراسة وظائف الجينات وتصحيح التشوهات الجينية بطريقة خاضعة للرقابة.

ويمثل الاكتشاف تقدماً كبيراً في مجال البحث الجيني؛ حيث يفتح نظام «كريسبر» من النوع «IV-A» آفاقاً جديدة لتعديل الجينات بشكل أكثر أماناً وغير جراحي، ويمكن أن تحدث هذه الطريقة ثورةً في كيفية دراسة الأمراض الوراثية وعلاجها، مع التركيز على الدقة والسلامة.