«الليالي البيضاء» و«الأشرعة الحمراء» في سان بطرسبرغ

مدينة عشقها الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين

سان بطرسبرغ كانت ولا تزال نموذجا وتجسيدا للوحدة الأوروبية التي يعكسها ذلك التناغم المعماري الفريد النمط من نتاج جهود وعقول ممثلي المدارس الفرنسية مع الإيطالية والألمانية
سان بطرسبرغ كانت ولا تزال نموذجا وتجسيدا للوحدة الأوروبية التي يعكسها ذلك التناغم المعماري الفريد النمط من نتاج جهود وعقول ممثلي المدارس الفرنسية مع الإيطالية والألمانية
TT

«الليالي البيضاء» و«الأشرعة الحمراء» في سان بطرسبرغ

سان بطرسبرغ كانت ولا تزال نموذجا وتجسيدا للوحدة الأوروبية التي يعكسها ذلك التناغم المعماري الفريد النمط من نتاج جهود وعقول ممثلي المدارس الفرنسية مع الإيطالية والألمانية
سان بطرسبرغ كانت ولا تزال نموذجا وتجسيدا للوحدة الأوروبية التي يعكسها ذلك التناغم المعماري الفريد النمط من نتاج جهود وعقول ممثلي المدارس الفرنسية مع الإيطالية والألمانية

ليالي البهجة في سان بطرسبرغ... الليالي البيضاء.. «جميلة.. جميلة. جمالا لا نراه إلا حين نكون في ريعان الشباب أيها القراء الأحبة! السماء تتلألأ فيها النجوم، وتبلغ من الصفاء أن المرء يتساءل على الرغم منه حين ينظر إليها.. هل يمكن تحت مثل هذه السماء أن يعيش أناس يملأ قلوبهم البغض، وتعبث بنفوسهم النزوات». هذا ما كتبه الأديب الروسي ذائع الصيت فيدور دوستويفسكي في رائعته «الليالي البيضاء» عن ظاهرة تتفرد بها هذه المدينة وإن نازعتها فيها كثير من بلدان الشمال.
وكما استعرض دوستويفسكي أحداث قصته «الليالي البيضاء» في ليالٍ أربع سرد خلالها ما سمي «الفانتازيا الرومانسية»، قد يكون من الممكن أن نستعرض ما قُيض لنا أن نعيشه من ليال بلغت وبمحض الصدفة أيضا أربعا، بين أحضان مدينة كانت ولا تزال تثير في النفس لوعة وفي القلب شجونا.
على ضفاف نهر «نيفا»، وحيث تتعانق روافده مع الخليج الفنلندي شمال شرقي بحر البلطيق شمال غربي روسيا، تحملنا الذكريات لنسترجع معها خلود اللحظة والموقع، يوم توقف بطرس الأول قيصر روسيا الجموح مع بزوغ فجر القرن الثامن عشر، ليمسح بناظريه ذلك المكان بحثا عن موقع يصلح خطا للدفاع الأول في مواجهة ملوك السويد وفرسان الفايكنغ الذين طالما استباحوا حرمة الأراضي الروسية.
على ضفاف نهر «نيفا» نتوقف.. نرمق بناظرينا بطرس الأول في تحفته التذكارية من إهداء يكاتيرينا الثانية، تخليدا لمأثرة كانت ولا تزال مفخرة روسيا على مر التاريخ. شَخَصَ مؤسس روسيا الحديثة وقد امتطى صهوة فرس جموح، باسطا يده صوب النهر عاليا، في حزم وقوة وكأنه إعلان عن قراره التاريخي حول إنشاء عاصمته الجديدة سان بطرسبرغ في هذا المكان، في لحظة تاريخية خلدها شاعر روسيا العظيم الكسندر بوشكين ذو الأصول الأفريقية في رائعته الشعرية «الفارس النحاسي».
إنها لينينغراد أو بيتر.. أو بيتروغراد.. أو سان بطرسبرغ. ليس مهما أي الأسماء أقرب إلى القلب والعقل. المهم أن كلا من هذه الأسماء والتسميات عنوان للوحة فنية شديدة التميز. لينينغراد بشوارعها ومبانيها، بقنواتها التي يبلغ عددها 93 قناة، وجزرها التي تجاوزت المائة، بجسورها التي يعدونها 342، وضواحيها المفرطة في الأناقة، كانت ولا تزال مفردات موسوعة أدبية ضمت بين دفتيها إبداعات أبرز رموز الأدب والثقافة والفنون على مر العصور. ولكم سجلنا غير مرة وعلى صفحات «الشرق الأوسط»، في ذكرياتنا مع هذه المدينة التي طالما أثارت المشاعر وهزت النفس من الأعماق، أنها «أنيقة في غير تكلف، جميلة في غير تبرج، معالمها تبدو منسجمة في وفاق مع الكثير مما يجيش في نفوس المحبين والعشاق. نسماتها مفعمة بأطياب تاريخ تتسلل إلى النفس لتشيع أجواء البهجة المفعمة بقليل من الأسى، حزنا ولوعة على ما كان وهو كثيرة صفحاته على مر تاريخ الأمس القريب».
سان بطرسبرغ.. أو لينينغراد أيهما أحب إلى القلب والنفس، تدعوك إلى أن تنضو القناع، فتأتيها ملبيا نداء يكتنفه غموض كثير، تنزلق في خطوات وجلة بحثا عما قد يعينك على مواجهة تبعات جنون غرام اللحظة.. فالمدن مثلها مثل البشر. قد تسلبك الفؤاد لتقع في غرامها من النظرة الأولى. إنها سيدة المدائن التي تأسر القلوب بلياليها البيضاء، وسمائها المرصعة بنجوم الفن والشعر والأدب والموسيقى. إنها المدينة التي يحترق معها الكيان تحت وطأة كبريائها الجميل.
التاريخ يقول إن بطرس الأعظم باني روسيا الحديثة، كان أسير رغبة جارفة راودته بعد أول انتصار بحري باهر أحرزه على ملك السويد كارل الثاني وحمله إلى مشارف بحر البلطيق، في أن يجد ضالته في هذا المكان. آنذاك اختار بطرس الأول مؤسس روسيا الحديثة وأحد أهم رموز نهضتها في ذلك الزمان إحدى الجزر المتناثرة في دلتا نهر النيفا لتكون قلعة الصمود، وأطلق عليها اسم اثنين من حواريي السيد المسيح «بطرس وبافيل»، وكانت النقطة التي انطلقت منها أكبر عملية بناء في تاريخ الدولة الروسية الحديثة. في مايو (أيار) 1703، أي مع مطلع القرن الثامن عشر، ظهرت المدينة التي أطلق عليها بطرس الأكبر اسم «القديس بطرس - سان بيتر»، وأضاف إليه «برغ» أي «المدينة» بالألمانية ليكتمل الاسم.. «سان بطرسبرغ» أو «سان بيترسبورغ». وسرعان ما ترامت أطرافها لتتحول تدريجيا إلى العاصمة الجديدة للدولة الروسية والتي طالما كانت ولا تزال «العاصمة الشمالية» أو «العاصمة الثقافية».
إذن يستمد التاريخ أصوله من بداية قرن يصفونه بالجنون والحكمة. هكذا قال أديب عصره الذائع الصيت ألكسندر راديشيف، الذي سجل بعضا من ملامح تلك الحقبة التاريخية في كتابه «رحلة من بيتربرغ إلى موسكو» الذي صادرته السلطات القيصرية في حينه وكان مبررا لنفي مؤلفه إلى سيبيريا.
وإذا كان تاريخ المدينة يستمد أصوله من بداية قرن وصفه راديشيف بأنه خليط بين الحكمة والجنون، فإن ما تلا ذلك من أحداث كان أقرب إلى الجنون منه إلى الحكمة، وإن رأى البعض ما هو على النقيض من ذلك. ولعل ما شهدته هذه المدينة الجميلة الرقيقة التي تحمل عن جدارة واستحقاق اسم العاصمة الثقافية للدولة الروسية على امتداد تاريخها من «كرنفال» يكشف عن مدى مأساوية وقوع حكامها في شرك تغييرات الأسماء التاريخية، ومنها الاسم القديم للمدينة والذي كان اختاره لها مؤسسها بطرس الأعظم. فمع أولى سنوات الحرب العالمية الأولى أعلن قيصر روسيا عن رغبة في إطلاق اسم قيصر روسيا الأعظم «بطرس الأكبر» على المدينة والتخلص من «برغ» الألمانية في «سان بطرسبرغ» واختيار «غراد» السلافية - الروسية، وكلتاهما تعني «مدينة»، مؤكدا ذلك في اختيار «بيتروغراد» اسما جديدا للعاصمة نسبة إلى مؤسسها بيتر أو بطرس الأعظم. وإذا كان القيصر قد انزلق إلى مخاطر التلاعب بالتاريخ، فلم يكن البلاشفة أحسن حالا، حيث سرعان ما أعلنوا فرمانهم حول إطلاق اسم زعيم ثورة أكتوبر (تشرين الأول) «لينين» على المدينة تخليدا لذكراه عقب وفاته في عام 1924، ولم يكن قد مضى على إقرار الاسم القديم أكثر من عشرة أعوام.
ومع الذكريات نمضي لنشير إلى أن قسوة اللحظة ووحشة المكان وما تكبدته المدينة من مشاق وآلام الصمود، لم تكن لتحول دون تحقيق أفضل الفنون والإبداعات ومنها «سيمفونية لينينغراد» التي خلدها ابن المدينة الموسيقار ديمتري شوستاكوفيتش فيما عرفه العالم تحت اسم «السيمفونية السابعة».
أصاخ الموسيقار الشاب السمع ليسجل نبض الوطن في أغنية «الانتصار». شحذت لحظات الحصار مشاعره التي انسابت رقيقة حالمة لتسجل ما يحلو للبعض تسميته «سيمفونية لينينغراد»، ولذا لم يكن غريبا أن تكون هذه النغمات الحالمة مقدمة لما سجلته ريشة الأديب الروسي ألكسي تولستوي: «إنها تدفعك إلى طريق رائع تحفه الأفكار والعواطف وعالم حافل بالأضواء التي تمسك بتلابيبك لتطيح بك كالعاصفة، إلى أن تجد نفسك مسترخيا في هدوء على شاطئ الأحلام.. شاطئ المستقبل». على أن الأحداث التي تواترت دموية عاصفة، سرعان ما دفعت القائمين على أمور المدينة البطلة إلى التعجل بترحيل الصغار والعجزة ومعهم أبرز العلماء والفنانين إلى أعماق البلاد حفاظا على حياتهم، وتحسبا لمستقبل هم كنوزه وذخيرته. ولذا لم يكن غريبا أن يكون شوستاكوفيتش في صدارة هؤلاء الذين تقرر ترحيلهم في فبراير (شباط) 1942 إلى كويبيشيف على ضفاف نهر الفولجا. ولم يكن غريبا أيضا أن يستكمل شوستاكوفيتش سيمفونيته ليعزفها في الخامس من مارس (آذار) من العام نفسه مع أوركسترا مسرح البولشوي الذي سبقه إلى هناك.
سان بطرسبرغ كانت ولا تزال نموذجا وتجسيدا للوحدة الأوروبية التي يعكسها ذلك الانسامبل المعماري الفريد النمط من نتاج جهود وعقول ممثلي المدارس الفرنسية مع الإيطالية والألمانية. وتحت وقع هذا وذاك يجد المرء نفسه وقد أسرع الخطى صوب واحد من أهم وأجمل معالم المدينة.. صوب متحف الأرميتاج، أو الهيرميتاج» أكبر متاحف الدولة الروسية وأكثرها شهرة وأقدمها تاريخا. هنا يجد المرء نفسه بين أحضان عالم الأحلام ونفائس التاريخ.
فالمكان مجموعة من القصور تناغمت فيما بينها لتشكل سيمفونية معمارية لم ينل منها التباعد الزمني. إنه الأرميتاج الذي يستمد بدايته من نزوة جميلة لقيصرة روسيا الأشهر يكاتيرينا الثانية التي أهدت المدينة «فارسها النحاسي» - «تمثال بطرس الأكبر» على ضفاف النهر، على مبعدة خطوات من هذا المكان. قصر صغير شيده المعماري الذائع الصيت آنذاك فالين ديلاموت أرادته ملحقا للقصر الكبير بحثا عن عزلة مع النفس والذات مما استحق معه تسمية «الهيرميتاج – أو الأرميتاج»، هذا القصر سرعان ما بدا في اتساق وانسجام مع القصور الأربعة التي تجاورت على ضفاف نهرها الخالد «نيفا»: قصر الشتاء مقر حكم القياصرة من تصميم المعماري المعروف راستريللى، وقصر الأرميتاج الكبير أو القديم للمعماري فيلتين، ثم مسرح القصر لكفارينغي، وأخيرا الأرميتاج الجديد للمعماري كليفيتس. هذا الانسامبل المعماري سرعان ما تحول إلى واحد من أهم معالم الدولة الروسية. تقول الأدبيات التاريخية إن بطرس الأول مؤسس روسيا الحديثة خَلّده من خلال هواية جمع التحف واللوحات الفنية الثمينة. قالوا إن لوحة لفنان مجهول حملت اسم «محاكمة المسيح» أطلقت العنان لرغبة دفينة في اقتناء كل ما يمكن أن يعني لاحقا الخلود للزمان والمكان. البداية تمثلت في فرمان قيصري يقضي بجمع كل الأعمال الفنية العالية القيمة والتماثيل والمشغولات الذهبية والفضية والتي يمكن أن تشكل لاحقا مجموعة فنية متكاملة. أما الخطوة الثانية فتمثلت في 255 لوحة فنية اقتنتها يكاتيرينا الثانية في مدينة برلين تخليصا لدين لم يستطع أحد كبار التجار الألمان سداده. وكانت غالبية هذه اللوحات من أعمال مشاهير الفنانين الهولنديين والألمان ومنها «بورتريه الشاب الذي يمسك بالقفاز» من روائع الفنان فرانس هالس من المدرسة الألمانية. وقد ساهمت علاقات يكاتيرينا مع الأصدقاء الفرنسيين في تنمية ذوقها الفني إلى جانب ما بذله سفيرها في باريس الأمير جوليتسين من جهود لجمع كل ما تقع عليه عيناه من ذخائر فنية في الخارج. ويذكر التاريخ أن جوليتسين جمع عددا هائلا من الأعمال الفنية التي سارع بإرسالها على متن باخرة شاء حظه العاثر أن تلقى حتفها في أعماق بحر البلطيق على مقربة من الشواطئ الفنلندية، وإن قالت المصادر التاريخية إن الحظ كان قد أسعده بتخلف إحدى أثمن اللوحات عن اللحاق بزميلاتها وهي لوحة «عودة الابن الضال» للفنان ريمبرانت التي تزين مع زميلتها «دانايا» جناحه الممهور باسمه في الطابق الثاني بمتحف الأرميتاج وسط إجراءات أمن مشددة لها ما يبررها. ففي عام 1985 وفي حادث مأساوي عجيب تعرضت «دانايا» التي تمثل صورة لابنة القيصر الأسطوري أركيس وقد استلقت عارية على إحدى الأرائك، لمحاولة خرقاء من جانب معتوه فاجأ زوار المتحف آنذاك بقذفها بمحلول حارق سرعان ما أتبعه بطعنتين غادرتين، تضافرت جهود كل الأوساط الفنية العالمية لتلافي ما لحق باللوحة من آثار مميتة وإعادتها إلى الأضواء التي تتمتع بها اليوم داخل إطار زجاجي واق من الرصاص مع عدد آخر من مثيلاتها في الأرميتاج اليوم. وليس ثمة شك في أن هذا المكان الذي يضم بين جنباته ما يزيد على ثلاثة ملايين ونصف مليون قطعة فنية يظل متفرد المكانة بوصفه أسطورة فنية وملحمة رائعة مفرداتها أروقة وديكورات مفرطة في الأناقة بغير تكلف، مما يجعله يبدو أشبه بدعوة رقيقة إلى تناسي ترهات الماضي، والتسامي فوق أحزان التاريخ.
على أن صورة سان بطرسبرغ لا يمكن أن تكتمل إذا خلت من ضواحيها بما تضمه بين جنباتها من قصور وتراث ثقافي تاريخي يحار المرء أمام مواهب وعبقرية مبدعيه. فمن ضاحية «بيترغوف» بنوافيرها الرائعة المبهرة وقصورها التاريخية، إلى مدن بوشكين، وتسارسكويه سيلو (قرية القيصر)، تتقافز الخطى لتحملنا إلى ستريلنا. في هذه الضاحية تصافح الأنظار قصر قسطنطين الذي أراده بطرس الأكبر «فرساي روسيا الحديثة»، وهو القصر الذي أعاده إلى الحياة فلاديمير بوتين ابن لينينغراد وقيصر روسيا الحديثة، في الذكرى الثلاثمائة لتأسيس المدينة في عام 2003 ليكون رمزا جديدا للمدينة جنوب الخليج الفنلندي لبحر البلطيق. وكان بوتين استطاع من خلال هذا القصر إبهار ضيوفه من زعماء أوروبا والعالم ممن شاركوه الاحتفالات الأسطورية بهذه المناسبة، وعاد ليدخل عليه الكثير من التجديدات في إطار استعداد روسيا لاستضافة قمة الثمانية الكبار في سان بطرسبرغ في عام 2006.
ولا يسعنا في ختام حكاياتنا من سان بطرسبرغ عن سان بطرسبرغ، إلا أن نردد مع عشاقها في الشرق والغرب ما سبق وقاله شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين في رائعته «الفارس النحاسي».. «يا رائعة بطرس.. إني أعشقك».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)