هل يستطيع الإنسان أن يحيا ويدرك ذاته خارج بني قومه؟

تجمع في نيويورك سبتمبر الماضي حول «ليتل أمل»، وهي دمية لمهاجرة سورية خيالية تبحث عن والدتها أسوة بالأطفال المنفصلين عن عائلاتهم (إ.ب.أ)
تجمع في نيويورك سبتمبر الماضي حول «ليتل أمل»، وهي دمية لمهاجرة سورية خيالية تبحث عن والدتها أسوة بالأطفال المنفصلين عن عائلاتهم (إ.ب.أ)
TT

هل يستطيع الإنسان أن يحيا ويدرك ذاته خارج بني قومه؟

تجمع في نيويورك سبتمبر الماضي حول «ليتل أمل»، وهي دمية لمهاجرة سورية خيالية تبحث عن والدتها أسوة بالأطفال المنفصلين عن عائلاتهم (إ.ب.أ)
تجمع في نيويورك سبتمبر الماضي حول «ليتل أمل»، وهي دمية لمهاجرة سورية خيالية تبحث عن والدتها أسوة بالأطفال المنفصلين عن عائلاتهم (إ.ب.أ)

ثلاث حقائق ينطوي عليها ويضمنها الشعور القومي في وجدان الإنسان الفرد: الانتساب إلى هوية تاريخية، والانتماء إلى جماعة حاضنة، ومعاندة العدم من أجل البقاء في سجل الزمن. في مقابل الضمانات الوجودية الإيجابية النافعة هذه، يَضطرّ الشعورُ القومي الإنسان إلى الخضوع لمصالح الجماعة العليا، والائتمار بتقاليدها وأعرافها، ومناصرة قراراتها وأفعالها في معترك العلاقات الناشطة بين الأمم، أو بين الأقوام، أو بين المجتمعات. لذلك كانت القوميّات، منذ نشأتها القديمة وعلى تعاقب أطوارها، سبباً خلفياً في إثارة العصبيات وإذكاء الاضطرابات وإشعال الحروب. فهل يستطيع الإنسان المعاصر، من بعد أن عاين أهوال الاقتتال القومي، أن يختبر انتماءه وانتسابه واستمراره الزمني الرمزي من غير أن يخضع لأحكام الوعي القومي المتشنّج وإملاءات الأنظومة الجماعية الضاغطة؟
لن أخوض في غمار تأريخ القوميات القديمة والوسيطية والحديثة، بل أكتفي بتأييد النظريّة التي تعتمد القرن الثامن عشر منطلقاً حديثاً لتجلّيات القومية، وطوراً متقدماً من أطوار تكوُّن هيئتها التاريخية التي اكتملت ملامحها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إثر تفكك المتّحدات الملَكية والإمبراطورية والسلطانية الكبرى: الإمبرطورية البروسية، والإمبراطورية النمسوية-الهنغارية (الهابسبورغ)، والقيصرية الروسية، والسلطنة العثمانية. لا شك في أن ظاهرة الانحلال هذه بعثت الشعور القومي في وجدان الشعوب الصغيرة المقهورة التي كانت ملتئمة في متّحدات كيانية أصغر قبل أن يبتلعها المستبدّ المقتدر.
أما العروة الوثقى التي تربط كل جماعة قومية على حدة، فيستجليها المرء بيسر في ضمّة من العوامل التوحيدية: العرق، والأرض، واللغة، والدين، والتاريخ المشترك، والتقاليد والأعراف والممارسات، أو قلْ الثقافة الجماعية الشعبية الواحدة التي منها تنبثق تصورات الكون الجامعة وتذوّقات الحياة الصاهرة. إذا اجتمعت هذه الحقائق في وجدان الإنسان الفرد، أحس للتوّ أنها تضمن له هويّته، وتُرسخ فيه كينونته، وتُعزز عنده مناعته الجوّانية. فإذا به يهبّ لنصرة جماعته والذود عن قوميّته التي تنعقد على تواطؤ الحقائق الكيانية التوحيدية هذه. غير أن الإحساس القومي البدائي هذا ينبغي أن يخضع لعملية تهذيبية نقدية تستصفي جوهر هذه الحقائق، وتهبُ الإنسان الهويّة الأرحب التي تليق به. لذلك لا بد من النظر الفاحص الموضوعي في كل حقيقة على حدة، حتى تتبين لنا مخاطر التشويه التي تصيبها حين يعتصم بها الإنسان الفرد اعتصاماً تعصبياً متشنجاً.
أبدأ أولاً بالعرق، فأذكّر بأن الأعراق الصافية وهمُ الأوهام في علم الأنساب. صحيح أن الجماعات القومية تختلف من قارة إلى أخرى، ومن محيط إلى آخر، غير أن الاختلاط العرقي رافق تاريخ البشر منذ تفتّح وعيهم الأول. فضلاً عن ذلك، لم يثبت حتى اليوم أن الفوارق البيولوجية بين الناس ترتبط بالصفاء العرقي على قدر ما ترتبط بالأحوال البيئية المناخية السائدة.
أنتقل ثانياً إلى الأرض لأبيّن أن الترحالية كانت سمة الحياة البشرية منذ أقدم الأزمنة. لم يَثبت لنا أن الأرض مكتوبة لقوم من دون سواهم، أو مفروزة لشعب من دون غيره. ذلك بأن الأرض مِلك الكون الأرحب، لا قدر الشعوب الملتئمة عليها. من البديهي أن يستقر قوم من الأقوام على أرض من الأراضي وفقاً لتواطؤ الأقدار والمصادفات. غير أن مثل هذا الاستقرار لا يمنحه حق الملكية المطلق، بل ينبغي أن تتوافق الأمم كلها على توزيع بقاع الأرض توزيعاً عادلاً، لا سيّما حين تتفاوت كنوز الموارد والمواد الثمينة بين منطقة وأخرى.
أمضي ثالثاً إلى اللغة لأؤكد أن الإنسان الفرد يدرك الوجود بواسطة لغته الأم التي تزوّده الأدوات والوسائل والمقولات الأساسية حتى ينخرط انخراطاً سليماً في معترك التاريخ. فاللغة، بحسب الفيلسوف الألماني هانس غيورغ غادَمر (1900-2002)، أصل الأصول وتقليد التقاليد والمؤسسة الرمزية الحاضنة. بيد أن الإنسان ليس أسيرَ اللغة الواحدة، بل يستطيع أن يتذوق غنى الوجود بالاستناد إلى الاختبارات التعبيرية التي تختزنها اللغات الأخَر، بحيث ينحت لنفسه هوية أخرى كلّما أتقن لغة جديدة.
أمضي إلى الدين، وفي يقين معظم الناس أنه الحقيقة الأنثروبولوجية الأعمق والأرسخ والأفعل. ما من أحد ينكر الأثر الوجودي الدامغ الذي يستثيره الدين وحقائقه وأحكامه وطقوسه وشعائره في وجدان الإنسان الفرد. ولكن الدين اختبار إيماني حر يربط الكائن الإنساني بمطلق متعالٍ ما ورائيّ غيبي إلهيّ لا يقوى أحد على إدراكه والإمساك به واستغلاله في بناء الهويات التاريخية المتعارضة. من حقائق الإيمان الخالص، بخلاف ذلك كله، أن يحرر الوعي من كل انتمائية قومية وتاريخية ضيقة، إذ إن الانفتاح على المطلق يضمن للإنسان الانعتاق من عصبياته المتشنجة. ومن ثمّ، لا سبيل إلى استغلال الدين وتوظيفه في تسويغ القومية.
أمرُّ بالتاريخ المشترك لأوضح أن اختبارات الناس، في جواهرها القصيّة، واحدة مشتركة تكشف لهم عن طبيعة انتسابهم إلى الوجود التاريخي. فالناس، على الرغم من تنوع تواريخهم الجماعية، يختبرون الولادة والنضج والمرض والألم والموت، ويتناسلون ويتكاثرون، ويتحابّون ويتباغضون، ويتقاربون ويتباعدون، ويعانون الكوارث الطبيعية والاضطرابات العلائقية، ويُهرقون الدماء في الاحتراب والاقتتال، وينشئون الممالك والدول ويضعون الدساتير والشرائع، ويُفصحون عن جوّانيتهم بواسطة الكلمة والريشة والنغم وما إلى ذلك من ضروب التعبير الثقافي. لا ريب في أن جميع هذه الاختبارات تستند إلى التصورات الفكرية الكبرى الناظمة الشاملة التي يستلّها الناس من مصادر الطاقات الإيحائية الدلالية التي تنطوي عليها ألسنتهم. بيد أن تنوع الألسنة لا يُبطل وحدة الجوهر الاختباري.
أنتهي بالتصورات الثقافية الناظمة التي منها تنبثق التقاليد والأعراف والممارسات، فأستدلّ بها على تنوع شرعي ضروري إغنائيّ سليم. ذلك بأن المعنى الإنساني الكوني يحتمل ضروباً شتّى من التعبير. فالناس الطافحون بالحيوية الإيمائية في أفريقيا يعبرون عن سعادتهم على غير ما يُفصح عنها الناس المنضبطون الخفِرون في الأوطان الأوروبية السكانديناڤية. فهل يسوّغ مثل الاختلاف الرائع هذا أن تنغلق القوميات وتتشنّج وتتعصب وتتنابذ وتتقاتل؟
ذكرتُ جميع الحقائق الأنثروبولوجية التي تنطوي عليها فكرة القومية حتى أبيّن للقارئ أن الإنسان يتجاوز بغناه الكيانيّ جميع الانطوائيات القومية المهلكة. لا أنكر أن الإنسان ابنُ بيئته، ينشأ وينمو وينضج في قرائن الانتساب التاريخي إلى أرض ومحيط وثقافة ومجتمع. بيد أن هوية الإنسان تتخطى كل الانتماءات، إذ إن الكائن البشري لا تستغرقه وتُطبق عليه الهويّة القومية، ولا الهويّة الدينية، ولا أي أنظومة إيديولوجية تدّعي العصمة المطلقة في رسم آفاقه، وتحديد إمكاناته، وتعيين سبُله. ذلك بأن الإنسان كائن الانفتاحات المشرَّعة القصوى، على ما كان يذهب إليه الفيلسوف الألماني هايدغر (1889-1976) الذي تغنَّى بقوميّته الجرمانية، ولكنه عاد فأخضعها لإملاءات سر الكينونة المنغلّة في ثنايا الكائنات والموجودات والأشياء.
من الواضح أني لا ألغي واقع الانتماء القومي الطبيعي، ولكنّي أحثّ الناس على النظر في قومياتهم نظرة نسبية تضع الحقائق في نصابها التاريخي الملائم. عوضًا عن أن نتحارب من أجل إثبات هويّتنا القومية الرجراجة، يليق بنا أن نتضامن في سبيل نصرة الإنسان الفقير المعذَّب المضطهَد في أرجاء المسكونة قاطبة. ما دامت الذات الإنسانية الفردية أساس الهويّات جميعها، فإن حقوق الإنسان ينبغي أن تقوم مقام الصدارة المطلقة. أما تدبّر الخلافات القومية بين الشعوب، فتنظر فيها مجالس الأمم المتحدة التحكيمية التي يجب أن تناصر شرعة حقوق الإنسان العالمية وتراعي أوضاع التاريخ وتقلباته.
لا بدّ، في الختام، من استجلاء الالتباسات التي تكتنف الشعور القومي على وجه العموم. ذلك بأن القوميّين، على اختلاف مسوّغاتهم الفكرية، يعبّرون عن رغبة صادقة في الاستمتاع الشرعي بكرامة جماعية لا يفوزون بها إلا بفضل دفاعهم المستميت عن هويّتهم القومية المشتركة. ذلك بأنهم، في سعيهم إلى الفوز بمثل هذا الاعتراف، يصْبون إلى الانتماء إلى جماعة شريفة، تنتشب جذورُها في تاريخ بطوليّ استثنائي عريق، ويرعاها قدَرٌ غيبيّ رفيع المقام، ويسوسها قائد جليل نابغ منحدر من أرومة الأصفياء. حين تنعقد الشروط الاستثنائية هذه، يتعزز الانسجام داخل الجماعة المؤتلفة، وتتضح التباينات التي تُفضي إلى إقصاء المختلفين الذين يعاكسون مثل المشروع القومي هذا. فتضطرب العلاقات بين الأقوام، وتتحول المشاعر القومية إلى تنافرات عدائية، واصطفافات حقديّة، وانسدادات عنفيّة فتّاكة. حينئذ تنقلب القومية إلى عصبيات وطنية متشنّجة تستسهل عنف الإقصاء والإبادة. أعتقد أن التحليل النفسي الذي أنشأه عالم السياسة والعلاقات الدولية السويسري بيار دُسِناركلنس في كتابه «القومية: ماضي وهمٍ (Le nationalisme : le passé d’une illusion)» يعرّي الشعور القومي من الرغبات الدفينة التي تستوطنه وتَعطبه بانحرافاتها الضارة.
خلاصة القول أن شعوب الأرض في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، ينبغي أن تكفّ عن الاحتراب المهلك، وأن تعترف بأن تسويغاتها القومية لا تمنح حروبها الإبادية ما تُصرّ على نيله من شرعية قانونية دولية وضمانة أخلاقية عالمية. إذا قبل الناس مبدأ النسبية التاريخية وطبّقوه على تصوراتهم القومية، استطاعوا أن يتحرروا من محنة العنف المهلك، ومهّدوا لهم وللأجيال القادمة سبيل التسالم الكوني الذي يريح الأرض من مخاطر الإفناء المتربصة بنا. لا بدّ، والحال هذه، من أن يعترف القوميّون بأن قوميّتهم ليست الحقيقة المطلقة في فهم معنى الوجود الإنساني الفردي والجماعي.
* مفكر لبناني



فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».