هل يستطيع الإنسان أن يحيا ويدرك ذاته خارج بني قومه؟

تجمع في نيويورك سبتمبر الماضي حول «ليتل أمل»، وهي دمية لمهاجرة سورية خيالية تبحث عن والدتها أسوة بالأطفال المنفصلين عن عائلاتهم (إ.ب.أ)
تجمع في نيويورك سبتمبر الماضي حول «ليتل أمل»، وهي دمية لمهاجرة سورية خيالية تبحث عن والدتها أسوة بالأطفال المنفصلين عن عائلاتهم (إ.ب.أ)
TT

هل يستطيع الإنسان أن يحيا ويدرك ذاته خارج بني قومه؟

تجمع في نيويورك سبتمبر الماضي حول «ليتل أمل»، وهي دمية لمهاجرة سورية خيالية تبحث عن والدتها أسوة بالأطفال المنفصلين عن عائلاتهم (إ.ب.أ)
تجمع في نيويورك سبتمبر الماضي حول «ليتل أمل»، وهي دمية لمهاجرة سورية خيالية تبحث عن والدتها أسوة بالأطفال المنفصلين عن عائلاتهم (إ.ب.أ)

ثلاث حقائق ينطوي عليها ويضمنها الشعور القومي في وجدان الإنسان الفرد: الانتساب إلى هوية تاريخية، والانتماء إلى جماعة حاضنة، ومعاندة العدم من أجل البقاء في سجل الزمن. في مقابل الضمانات الوجودية الإيجابية النافعة هذه، يَضطرّ الشعورُ القومي الإنسان إلى الخضوع لمصالح الجماعة العليا، والائتمار بتقاليدها وأعرافها، ومناصرة قراراتها وأفعالها في معترك العلاقات الناشطة بين الأمم، أو بين الأقوام، أو بين المجتمعات. لذلك كانت القوميّات، منذ نشأتها القديمة وعلى تعاقب أطوارها، سبباً خلفياً في إثارة العصبيات وإذكاء الاضطرابات وإشعال الحروب. فهل يستطيع الإنسان المعاصر، من بعد أن عاين أهوال الاقتتال القومي، أن يختبر انتماءه وانتسابه واستمراره الزمني الرمزي من غير أن يخضع لأحكام الوعي القومي المتشنّج وإملاءات الأنظومة الجماعية الضاغطة؟
لن أخوض في غمار تأريخ القوميات القديمة والوسيطية والحديثة، بل أكتفي بتأييد النظريّة التي تعتمد القرن الثامن عشر منطلقاً حديثاً لتجلّيات القومية، وطوراً متقدماً من أطوار تكوُّن هيئتها التاريخية التي اكتملت ملامحها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إثر تفكك المتّحدات الملَكية والإمبراطورية والسلطانية الكبرى: الإمبرطورية البروسية، والإمبراطورية النمسوية-الهنغارية (الهابسبورغ)، والقيصرية الروسية، والسلطنة العثمانية. لا شك في أن ظاهرة الانحلال هذه بعثت الشعور القومي في وجدان الشعوب الصغيرة المقهورة التي كانت ملتئمة في متّحدات كيانية أصغر قبل أن يبتلعها المستبدّ المقتدر.
أما العروة الوثقى التي تربط كل جماعة قومية على حدة، فيستجليها المرء بيسر في ضمّة من العوامل التوحيدية: العرق، والأرض، واللغة، والدين، والتاريخ المشترك، والتقاليد والأعراف والممارسات، أو قلْ الثقافة الجماعية الشعبية الواحدة التي منها تنبثق تصورات الكون الجامعة وتذوّقات الحياة الصاهرة. إذا اجتمعت هذه الحقائق في وجدان الإنسان الفرد، أحس للتوّ أنها تضمن له هويّته، وتُرسخ فيه كينونته، وتُعزز عنده مناعته الجوّانية. فإذا به يهبّ لنصرة جماعته والذود عن قوميّته التي تنعقد على تواطؤ الحقائق الكيانية التوحيدية هذه. غير أن الإحساس القومي البدائي هذا ينبغي أن يخضع لعملية تهذيبية نقدية تستصفي جوهر هذه الحقائق، وتهبُ الإنسان الهويّة الأرحب التي تليق به. لذلك لا بد من النظر الفاحص الموضوعي في كل حقيقة على حدة، حتى تتبين لنا مخاطر التشويه التي تصيبها حين يعتصم بها الإنسان الفرد اعتصاماً تعصبياً متشنجاً.
أبدأ أولاً بالعرق، فأذكّر بأن الأعراق الصافية وهمُ الأوهام في علم الأنساب. صحيح أن الجماعات القومية تختلف من قارة إلى أخرى، ومن محيط إلى آخر، غير أن الاختلاط العرقي رافق تاريخ البشر منذ تفتّح وعيهم الأول. فضلاً عن ذلك، لم يثبت حتى اليوم أن الفوارق البيولوجية بين الناس ترتبط بالصفاء العرقي على قدر ما ترتبط بالأحوال البيئية المناخية السائدة.
أنتقل ثانياً إلى الأرض لأبيّن أن الترحالية كانت سمة الحياة البشرية منذ أقدم الأزمنة. لم يَثبت لنا أن الأرض مكتوبة لقوم من دون سواهم، أو مفروزة لشعب من دون غيره. ذلك بأن الأرض مِلك الكون الأرحب، لا قدر الشعوب الملتئمة عليها. من البديهي أن يستقر قوم من الأقوام على أرض من الأراضي وفقاً لتواطؤ الأقدار والمصادفات. غير أن مثل هذا الاستقرار لا يمنحه حق الملكية المطلق، بل ينبغي أن تتوافق الأمم كلها على توزيع بقاع الأرض توزيعاً عادلاً، لا سيّما حين تتفاوت كنوز الموارد والمواد الثمينة بين منطقة وأخرى.
أمضي ثالثاً إلى اللغة لأؤكد أن الإنسان الفرد يدرك الوجود بواسطة لغته الأم التي تزوّده الأدوات والوسائل والمقولات الأساسية حتى ينخرط انخراطاً سليماً في معترك التاريخ. فاللغة، بحسب الفيلسوف الألماني هانس غيورغ غادَمر (1900-2002)، أصل الأصول وتقليد التقاليد والمؤسسة الرمزية الحاضنة. بيد أن الإنسان ليس أسيرَ اللغة الواحدة، بل يستطيع أن يتذوق غنى الوجود بالاستناد إلى الاختبارات التعبيرية التي تختزنها اللغات الأخَر، بحيث ينحت لنفسه هوية أخرى كلّما أتقن لغة جديدة.
أمضي إلى الدين، وفي يقين معظم الناس أنه الحقيقة الأنثروبولوجية الأعمق والأرسخ والأفعل. ما من أحد ينكر الأثر الوجودي الدامغ الذي يستثيره الدين وحقائقه وأحكامه وطقوسه وشعائره في وجدان الإنسان الفرد. ولكن الدين اختبار إيماني حر يربط الكائن الإنساني بمطلق متعالٍ ما ورائيّ غيبي إلهيّ لا يقوى أحد على إدراكه والإمساك به واستغلاله في بناء الهويات التاريخية المتعارضة. من حقائق الإيمان الخالص، بخلاف ذلك كله، أن يحرر الوعي من كل انتمائية قومية وتاريخية ضيقة، إذ إن الانفتاح على المطلق يضمن للإنسان الانعتاق من عصبياته المتشنجة. ومن ثمّ، لا سبيل إلى استغلال الدين وتوظيفه في تسويغ القومية.
أمرُّ بالتاريخ المشترك لأوضح أن اختبارات الناس، في جواهرها القصيّة، واحدة مشتركة تكشف لهم عن طبيعة انتسابهم إلى الوجود التاريخي. فالناس، على الرغم من تنوع تواريخهم الجماعية، يختبرون الولادة والنضج والمرض والألم والموت، ويتناسلون ويتكاثرون، ويتحابّون ويتباغضون، ويتقاربون ويتباعدون، ويعانون الكوارث الطبيعية والاضطرابات العلائقية، ويُهرقون الدماء في الاحتراب والاقتتال، وينشئون الممالك والدول ويضعون الدساتير والشرائع، ويُفصحون عن جوّانيتهم بواسطة الكلمة والريشة والنغم وما إلى ذلك من ضروب التعبير الثقافي. لا ريب في أن جميع هذه الاختبارات تستند إلى التصورات الفكرية الكبرى الناظمة الشاملة التي يستلّها الناس من مصادر الطاقات الإيحائية الدلالية التي تنطوي عليها ألسنتهم. بيد أن تنوع الألسنة لا يُبطل وحدة الجوهر الاختباري.
أنتهي بالتصورات الثقافية الناظمة التي منها تنبثق التقاليد والأعراف والممارسات، فأستدلّ بها على تنوع شرعي ضروري إغنائيّ سليم. ذلك بأن المعنى الإنساني الكوني يحتمل ضروباً شتّى من التعبير. فالناس الطافحون بالحيوية الإيمائية في أفريقيا يعبرون عن سعادتهم على غير ما يُفصح عنها الناس المنضبطون الخفِرون في الأوطان الأوروبية السكانديناڤية. فهل يسوّغ مثل الاختلاف الرائع هذا أن تنغلق القوميات وتتشنّج وتتعصب وتتنابذ وتتقاتل؟
ذكرتُ جميع الحقائق الأنثروبولوجية التي تنطوي عليها فكرة القومية حتى أبيّن للقارئ أن الإنسان يتجاوز بغناه الكيانيّ جميع الانطوائيات القومية المهلكة. لا أنكر أن الإنسان ابنُ بيئته، ينشأ وينمو وينضج في قرائن الانتساب التاريخي إلى أرض ومحيط وثقافة ومجتمع. بيد أن هوية الإنسان تتخطى كل الانتماءات، إذ إن الكائن البشري لا تستغرقه وتُطبق عليه الهويّة القومية، ولا الهويّة الدينية، ولا أي أنظومة إيديولوجية تدّعي العصمة المطلقة في رسم آفاقه، وتحديد إمكاناته، وتعيين سبُله. ذلك بأن الإنسان كائن الانفتاحات المشرَّعة القصوى، على ما كان يذهب إليه الفيلسوف الألماني هايدغر (1889-1976) الذي تغنَّى بقوميّته الجرمانية، ولكنه عاد فأخضعها لإملاءات سر الكينونة المنغلّة في ثنايا الكائنات والموجودات والأشياء.
من الواضح أني لا ألغي واقع الانتماء القومي الطبيعي، ولكنّي أحثّ الناس على النظر في قومياتهم نظرة نسبية تضع الحقائق في نصابها التاريخي الملائم. عوضًا عن أن نتحارب من أجل إثبات هويّتنا القومية الرجراجة، يليق بنا أن نتضامن في سبيل نصرة الإنسان الفقير المعذَّب المضطهَد في أرجاء المسكونة قاطبة. ما دامت الذات الإنسانية الفردية أساس الهويّات جميعها، فإن حقوق الإنسان ينبغي أن تقوم مقام الصدارة المطلقة. أما تدبّر الخلافات القومية بين الشعوب، فتنظر فيها مجالس الأمم المتحدة التحكيمية التي يجب أن تناصر شرعة حقوق الإنسان العالمية وتراعي أوضاع التاريخ وتقلباته.
لا بدّ، في الختام، من استجلاء الالتباسات التي تكتنف الشعور القومي على وجه العموم. ذلك بأن القوميّين، على اختلاف مسوّغاتهم الفكرية، يعبّرون عن رغبة صادقة في الاستمتاع الشرعي بكرامة جماعية لا يفوزون بها إلا بفضل دفاعهم المستميت عن هويّتهم القومية المشتركة. ذلك بأنهم، في سعيهم إلى الفوز بمثل هذا الاعتراف، يصْبون إلى الانتماء إلى جماعة شريفة، تنتشب جذورُها في تاريخ بطوليّ استثنائي عريق، ويرعاها قدَرٌ غيبيّ رفيع المقام، ويسوسها قائد جليل نابغ منحدر من أرومة الأصفياء. حين تنعقد الشروط الاستثنائية هذه، يتعزز الانسجام داخل الجماعة المؤتلفة، وتتضح التباينات التي تُفضي إلى إقصاء المختلفين الذين يعاكسون مثل المشروع القومي هذا. فتضطرب العلاقات بين الأقوام، وتتحول المشاعر القومية إلى تنافرات عدائية، واصطفافات حقديّة، وانسدادات عنفيّة فتّاكة. حينئذ تنقلب القومية إلى عصبيات وطنية متشنّجة تستسهل عنف الإقصاء والإبادة. أعتقد أن التحليل النفسي الذي أنشأه عالم السياسة والعلاقات الدولية السويسري بيار دُسِناركلنس في كتابه «القومية: ماضي وهمٍ (Le nationalisme : le passé d’une illusion)» يعرّي الشعور القومي من الرغبات الدفينة التي تستوطنه وتَعطبه بانحرافاتها الضارة.
خلاصة القول أن شعوب الأرض في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، ينبغي أن تكفّ عن الاحتراب المهلك، وأن تعترف بأن تسويغاتها القومية لا تمنح حروبها الإبادية ما تُصرّ على نيله من شرعية قانونية دولية وضمانة أخلاقية عالمية. إذا قبل الناس مبدأ النسبية التاريخية وطبّقوه على تصوراتهم القومية، استطاعوا أن يتحرروا من محنة العنف المهلك، ومهّدوا لهم وللأجيال القادمة سبيل التسالم الكوني الذي يريح الأرض من مخاطر الإفناء المتربصة بنا. لا بدّ، والحال هذه، من أن يعترف القوميّون بأن قوميّتهم ليست الحقيقة المطلقة في فهم معنى الوجود الإنساني الفردي والجماعي.
* مفكر لبناني



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.