عندما تسلم روبرت هابيك، حقيبة وزارة الاقتصاد والمناخ في ألمانيا، نهاية العام الماضي، ظن أنه نجح بالوصول إلى مركز سلطة يخوله تطبيق سياساته المناخية التي يروج لها منذ انضمامه لحزب «الخضر» البيئي قبل قرابة 20 سنة. فوزارة المناخ أضيفت إليها مهمة المناخ، خصيصاً، كي تكون ملائمة للزعيم المشترك السابق لـ«الخضر». وعندما تسلمها هابيك كان يخطط حقاً لإغلاق كل معامل الفحم والطاقة النووية المتبقية في البلاد، والسعي لجلب استثمارات في الطاقة الخضراء والمتجددة. لكن بعد أشهر قليلة من تسلمه منصبه، تغير كل شيء وانقلبت خططه رأساً على عقب. إذ اندلعت الحرب في أوكرانيا، وبات هابيك مسؤولاً عن أزمة الطاقة التي تلف ألمانيا، بعد قطع روسيا إمدادات الغاز إلى ألمانيا التي كانت تعتمد عليها في أكثر من 60 في المائة من وارداتها من الغاز. وهكذا وجد الوزير نفسه مضطراً للتخلي عن الكثير من خططه الأصلية، بل وحتى السير في الاتجاه المعاكس. وحقاً قرر تمديد العمل بمصانع الفحم الحجري الشديدة التلوث، وتمديد حياة معامل الطاقة النووية المتبقية في الخدمة، رغم أن هابيك بنى حياته السياسية على الترويج لفكرة التخلي عن الطاقة النووية التي يعدها حزبه خطرة وباهظة الثمن. وبدأ رحلات ماراثونية حول العالم بحثاً عن مصادر طاقة جديدة تساعد ألمانيا في تخطي أزمتها المستجدة. هكذا تحول هابيك، على الأقل خلال الأشهر الأولى من عمر الأزمة، إلى أكثر السياسيين الألمان شعبية. فقد تخطى شعبية حتى المستشار أولاف شولتز، وغدا الوجه الحكومي الأكثر نشاطاً في المقابلات واللقاءات المخصصة لطمأنة الألمان وتحضيرهم لما هو آت.
دخل روبرت هابيك البالغ اليوم من العمر 53 سنة، عالم السياسة متأخراً. كان في الأربعين من عمره عندما تفرغ كلياً للسياسة، وانتخب للبرلمان المحلي لولاية شليزفيغ هولشتاين (أقصى شمال ألمانيا) عام 2009 عن حزب «الخضر». ومنذ ذلك الوقت بدأ صعوداً سياسياً سريعاً، ذلك أنه عين في عام 2012 وزيراً للطاقة والمناخ في الولاية، وهو منصب هيأه لتسلم الحقيبة نفسها لاحقاً على المستوى الفيدرالي.
قبل الانتخابات الأخيرة التي أوصلت حزب «الخضر» للسلطة في حكومة ائتلافية، كان هابيك نجم حزبه الأبرز، وبالفعل، توقع كثيرون آنذاك أنه سيكون المستشار المقبل. فهو بدا وكأنه يتمتع بكل المؤهلات اللازمة: «الكاريزما» والفصاحة والتعاطف. إلا أن حزبه اختار «غريمته» أنالينا بيربوك (التي هي اليوم وزيرة الخارجية) لقيادة الحملة ورشحها لمنصب المستشارة. وبعد خسارة «الخضر» الانتخابات بسبب هفوات ارتكبتها بيربوك أثناء الحملة، وكثيرون أيضاً قالوا إن هذه الأخطاء ما كانت لتحصل لو كان الحزب قد اختار هابيك لمنصب المستشار.
- هفوات وأخطاء حسابات
لكن أزمة الطاقة الحالية التي سلطت الضوء عليه أكثر من أي سياسي آخر في ألمانيا، أظهرت أنه بدوره معرض لارتكاب هفوات. فقد تسببت مقابلة واحدة أدلى بها للقناة الألمانية الأولى، مطلع الشهر الماضي، في تراجع شعبيته وخسارته لمصداقيته. وعلى عكس مقابلاته ولقاءاته العامة السابقة حين كان هابيك يظهر متعاطفاً مع الناس ومتفهماً لطبيعة الأزمة، بدا في تلك المقابلة بعيداً عن الواقع ومرتبكاً في فهم أو شرح ما يحصل. وكمثال، سُئل عن المخاوف من موجة إفلاسات قد تضرب الأعمال، خصوصاً المخابز، بسبب أزمة الغاز وارتفاع الأسعار، فرد بالقول إن «بعض الأعمال الصغيرة والمتوسطة قد تضطر للتوقف عن العمل لفترة إذا لم تعد قادرة على دفع الفواتير لكنها لن تفلس». فردت الصحافية التي كان تدير الحوار معه بتعجب: «تقول واقعياً إن هنا يعني إفلاساً!». وعلى الأثر دخلا في جدل تحول إلى نكات سوداء في مواقع التواصل الاجتماعي. إذ اتهم كثيرون هابيك بأنه يتكلم بما لا يفهمه، مشككين بقدرته على قيادة وزارته. وحقاً، أثرت تلك المقابلة على نسبة شعبيته التي انخفضت ليتخلف ليس فقط عن المستشار الاشتراكي أولاف شولتس، بل حتى زعيم المعارضة المحافظ فريدريش ميرز زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل.
من ناحية ثانية، لم تكن تلك المقابلة على الأرجح وحدها المسؤولة عن تراجع شعبية هابيك، وحزب «الخضر» أيضاً، بل هناك قرارات اتخذها وصفت بأنها غير مدروسة. ثم إن بعضها أُجبر حتى على التراجع عنها، كالضريبة على الغاز حين سمح للشركات التي تزود بالغاز بتمرير جزء من التكاليف إلى المستهلكين، على الرغم من الأرباح الطائلة التي تجنيها هذه الشركات. وكان من المفترض أن تدخل الضريبة حيز التنفيذ في أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، إلا أنها ألغيت بعد مشاورات حكومية وانتقادات واسعة لكونها تزيد العبء المالي على المستهلكين في حين تحاول الحكومة تخفيفه عنهم.
- إشكالية المفاعلات النووية
لكن القرار الأكثر جدلية بالنسبة لهابيك، كان قرار الإبقاء على مفاعلين نوويين، كان من المفترض إغلاقهما نهاية العام، في «حالة تأهب» حتى أبريل (نيسان) المقبل. لقد شكل القرار - الذي أراده الوزير البيئي «حلاً وسطاً» - أزمة بالنسبة إليه مع حزبه ومع الحزب الديمقراطي الحر، الذي هو الشريك الليبرالي في الائتلاف الحكومي الراهن بين الاشتراكيين و«الخضر» والليبراليين. فـ«الخضر» الذين يعارضون «آيديولوجياً» الطاقة النووية، ويعدونها غير آمنة، أرادوا إغلاق المفاعلات المتبقية كلياً، بينما أراد الليبراليون الإبقاء عليها عاملة، ليس فقط في «حالة تأهب»، على اعتبار أن إبقاءها عاملة من دون استخدام الطاقة التي تنتجها مسألة غير عملية بسبب التكلفة الكبيرة لتشغيلها من دون استخدامها.
هابيك، من جهته، يتذرع في قراره بأن ألمانيا لا تواجه أزمة كهرباء، بل أزمة تدفئة، كون التدفئة مرتبطة بالغاز، فيما الكهرباء تعتمد على مصادر مختلفة إضافة إلى الغاز مثل الطاقة الشمسية والهوائية وغيرها. مع هذا، لم يلق قراره إبقاء مفاعلين بـ«حالة تأهب» انتقادات من الليبراليين فقط، بل كذلك من مجموعة كبيرة من الخبراء والاقتصاديين، الذين اعتبروا أنه «القرار الأسوأ» الذي يمكن اتخاذه فيما يتعلق بالطاقة النووية، لكونه «الأغلى ثمناً من دون أن يكون هناك مقابل»، أي من دون إنتاج كهرباء.
ما يجدر ذكره هنا، أنه حتى العام الماضي كانت ألمانيا تعتمد على الطاقة النووية لإنتاج قرابة 13 في المائة من حاجتها من الكهرباء، ولقد انخفضت هذه النسبة بعد إغلاق مفاعلين في نهاية العام الماضي والإبقاء على ثلاثة سيغلق مبدئياً واحد منها نهاية هذا العام، ويبقى اثنان بـ«حالة تأهب» لاستخدامهما «في حالة الطوارئ». ثم إن المستشارة السابقة ميركل كانت عام 2011 قد اتخذت قراراً، أيده معظم الألمان آنذاك، يقضي بإغلاق كل المفاعلات النووية في البلاد، وذلك بعد وقوع كارثة فوكوشيما النووية في اليابان، تفادياً لحوادث شبيهة. وللعلم، اتخذت ميركل القرار آنذاك مع أنها، كعالمة فيزيائية، كانت تؤيد الطاقة النووية وتعدها انتقالية. وبالتالي، بدأت ألمانيا منذ ذلك الحين إغلاق مفاعلاتها النووية الـ17 تدريجياً، وتبقى منها الثلاثة التي كان من المفترض إغلاقها نهاية هذا العام.
في سياق متصل، تسبب قرار هابيك بالإبقاء على مفاعلات نووية مفتوحة بأزمة له شخصياً مع مؤيديه من «الخضر»، الذي بدأوا يعدونه «خائناً» لقضيتهم. ونتيجة لذلك لم يعد هابيك يتحرك من دون حماية ومجموعة كبيرة من رجال الأمن، خوفاً من التعرض له، في ظل التهديدات التي يتلقاها. ومن الواضح الآن أن كثرة من مؤيديه باتوا غاضبين ويعدون لرحيله. وفي اليوم الذي أعلن خلال مؤتمر صحافي عن قراره تمديد إقفال المفاعلين النوويين، كان ناشطون من «الخضر» ينتظرون خارج القاعة حاملين يافطات يدعونه فيها لإقفالهما على الفور. وامتد هذا السخط في أوساط واسعة من ساسة حزب «الخضر» الذي بات يواجه انتخابات محلية صعبة في ولايات كانت تؤيده. بل إن منهم من أخذ يتهمه بالتفكير بطموحه السياسي الشخصي، لا مبادئ الحزب، وبأنه يخطط منذ الآن للترشح لمنصب المستشار عام 2025 بالترويج لنفسه على أنه «يضع البلاد قبل حزبه».
- نقاشات... وواقعية
لكن حتى الآن، على الأقل، يحظى هابيك بدعم كتلته النيابية وقيادة الحزب، التي يبدو أنها تتفهم صعوبة موقفه، رغم أن هذا الدعم يبدو ضعيفاً، واستغرق أياماً من النقاشات والإقناع. هذا، وعلى هذا الصعيد، نقلت «دير شبيغل» أن هابيك كان يريد الإبقاء على المفاعلات عاملة لا في «حالة تأهب» فقط، وأن مجموعة من الفاعلين المعارضين بشكل قوي للطاقة النووية داخل الحزب، بينهم وزيرة الخارجية بيربوك، نجحوا في إقناعه بالتخلي مؤقتاً عن فكرة إبقاء المفاعلات عاملة، وهو ما دفعه إلى التفكير في «حل وسط»، واقتراح إبقائها في «حالة تأهب» تخوفاً من أزمة كهرباء كبرى في فصل الشتاء.
في أي حال، هذه «التسويات» التي يجد هابيك نفسه مضطراً لاتخاذها اليوم ليست غريبة كلياً عنه. فهو ينتمي لما يعرف بـ«الجناح الواقعي» داخل حزب «الخضر»... مقابل جناح «الحالمين» أو «المثاليين». ثم إنه منذ تسلمه زعامة الحزب بشكل مشترك مع أنالينا بيربوك، عام 2018، نجح الوزيران «الأخضران» لفضل سياساتهما الوسطية في إعادة «الخضر» إلى موقع التنافس مع الأحزاب التقليدية، وحولته سياساتهما إلى قوة سياسية حقيقية استطاعت تقاسم السلطة. ورغم أن هابيك دخل الحكومة حاملاً بعض الأفكار «المثالية»، فهو سرعان ما وجد نفسه مضطراً للانقلاب على الكثير منها بسبب الحرب في أوكرانيا. وما كانت فقط السياسات البيئية هي التي اضطر هابيك لتعديلها، بل كذلك السياسات المتعلقة بالتسليح والتدخل في الصراعات. فالحزب البيئي الذي لطالما صوت ضد التدخلات العسكرية الخارجية، تحول إلى المحرك الأساسي داخل الحكومة الذي يروج لمساعدات عسكرية متزايدة لأوكرانيا ودعم حكومتها في حربها ضد روسيا.
- خلفية هابيك
قد تكون خلفية روبرت هابيك، قد ساعدته في التحول إلى الرجل القادر على التواصل مع الناخبين بسهولة أكثر من السياسيين الآخرين، رغم النكسات الأخيرة، الناجمة ربما عن تزايد الضغوط عليه والإرهاق الذي يتعرض له منذ تسلمه منصبه. فقبل دخوله السياسة، كان هابيك المولود في مدينة لوبيك بشمال البلاد على مقربة من الحدود الدنماركية، منخرطاً في الفلسفة والأعمال الأدبية، في كل من ألمانيا والدنمارك التي يتكلم لغتها. وعن دراسته الجامعية في الفلسفة والآداب والترجمة، فهو درس في جامعة فرايبورغ (ألبرت لودفيغس) العريقة بجنوب ألمانيا، ثم جامعة روسكيلده في الدنمارك، قبل أن يحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة هامبورغ.
بعد ذلك بدأ مع زوجته أندريا بالوش، التي أنجب منها 4 أطفال، رحلة عائلية وعملية شملت كتابة مؤلفات وترجمة قصائد من الإنجليزية إلى الألمانية. إلا أن اهتماماته بدأت تتغير عندما بلغ الثلاثين من عمره، وقرر الانضمام إلى حزب «الخضر» في ولايته شليزفيغ - هولشتاين عام 2002، وبعد سنتين من انضمامه انتخب زعيماً لتنظيم الحزب في الولاية. وبعدها انطلق صعوداً ليصل إلى تسلم زعامة الحزب بشكل مشترك مع آنالينا بيربوك عام 2018، ودخولهما معاً إلى الحكومة الحالية بعد إسهام أداء الحزب في تشكيل الغالبية الجديدة في الانتخابات الأخيرة من تحالف الاشتراكيين والليبراليين والبيئيين.
وهنا لا بد من القول، إنه رغم كل تراجع شعبية هابيك في الأسابيع الماضية، فهو ما زال من أكثر الوزراء استقطاباً للأضواء. فهو الرجل الذي يحمل على كاهله عبء التأكيد من أن فصل الشتاء سيمر على الألمان بمأمن من نقص الغاز أو انقطاع للكهرباء أو التدفئة، وكذلك من دون أن تزيد الأعباء الاقتصادية على المواطنين. وهي مهمة ليست بالسهلة. وقد دفعت هذه الضغوط هابيك قبل أيام إلى توجيه انتقادات لاذعة للولايات المتحدة، أكبر حلفاء ألمانيا، لما قال إنه «استغلال للأزمة بين الأصدقاء»، وبيع الغاز المُسال لألمانيا بأسعار خيالية. وبالفعل، يبدو أن هابيك يعمل على مدار الساعة منذ أشهر، لتأمين موارد جديدة من الغاز بأسعار معقولة، تعوض عن الغاز الروسي الذي كان يصل لألمانيا بأسعار منخفضة، بينما تجد الحكومة نفسها مضطرة الآن إلى استيراد الغاز المُسال من أماكن بعيدة بأسعار خيالية.