محمد الغزي: الاحتفاء بالثقافة التونسية في الرياض ألغى ثنائية المتن والهامش

الشاعر التونسي يرى أن المشرق العربي ظل لعقود طويلة يجهل أسماء مهمة

محمد الغزي
محمد الغزي
TT

محمد الغزي: الاحتفاء بالثقافة التونسية في الرياض ألغى ثنائية المتن والهامش

محمد الغزي
محمد الغزي

يرى الشاعر والناقد التونسي محمد الغزي أن الشرق العربي لم يتمكن من التعرف على التيارات الثقافية التي كانت تموج داخله، وانغلق على أصوات قليلة، مثل أبو القاسم الشابي في الشعر، ومحمود المسعدي الذي أصبح من علامات السرد العربي، وظلت رموز الثقافة التونسية مجهولة في الشرق العربيّ «لم ينعطف عليها أحد من النقاد بالنظر والتحليل».
وهو يرى في هذا الحوار أن رموز الثقافة التونسية لم يخترقوا الجدار الذي يفصل ثقافة المتن عن ثقافة الهامش، وأن احتفاء «معرض الرياض الدولي للكتاب» بالثقافة التونسية «يعيد الاعتبار للثقافات العربية التي عُدّت ثقافات الهامش»، وأن «ثنائية المتن والهامش باتت ملغاة».
أصدر الغزي عدداً من المجموعات الشعرية، بينها: «كتاب الماء... كتاب الجمر» (1982)، و«ما أكثر ما أعطى... ما أقل ما أخذت» (1991)، و«كثير هذا القليل الذي أخذت» (1999)، و«سليل الماء» (2004)، و«كالليل أستضيء بنجومي» (2006)، و«ثمّة ضوء آخر» (2007، وأخيراً مجموعته الشعرية الجديدة «استجب إن دعتك الجبال». هنا حوار معه على هامش مشاركته في «معرض الرياض الدولي للكتاب»:

> كيف ترى حضور الثقافة التونسية في «معرض الرياض الدولي للكتاب»؟
- إلى وقت قريب كان أبو القاسم الشابي هو الشاعر التونسي الوحيد الذي وصل صوته ونصه إلى كل البلاد العربية، ليستقرّ في الأذهان رمزاً للثقافة التونسية، وربّما زاحمه، في مرحلة ثانية، محمود المسعدي، الذي استطاع، هو أيضاً، تجاوز الحدود، ليصبح من علامات السرد العربي.
إذا استثنينا هذين العلمين؛ فإنّ بقية رموز الثقافة التونسية ظلّت مجهولة في الشرق العربيّ، لم ينعطف عليها أحد من النقاد بالنظر والتحليل. ثمة اعتقاد استبدّ بأذهان الدارسين في تلك الفترة مفاده بأن الشابي زهرة بريّة نبتت، في غفلة من الطبيعة، في أرض موات، ولهذا لم يكلفوا أنفسهم مؤونة البحث عن أسماء أخرى، مختزلين الثقافة التونسية في الشابي؛ والشابي في عدد من الأبيات الحماسية فحسب. هكذا جهل الشرق لعقود طويلة أسماء مثل الطاهر الحداد، والطاهر بن عاشور، والفاضل بن عاشور، ومحمد الحليوي، وعلي الدوعاجي، وهم من مجايلي الشابي الذين لم يتمكنوا من اختراق الجدار الذي يفصل ثقافة المتن (الشرق العربي) عن ثقافة الهامش (المغرب العربي).
هكذا بقيت الثقافة التونسية، على امتداد عقود، يكتنفها الغموض، لم يكلّف أحد من نقادنا في المشرق نفسه مؤونة الاهتمام بها، وتبديد الغموض الذي يحيط بها.
> لكن الوضع تغيّر... انكسرت قوالب الهامش والمتن... ألا تلاحظ الحضور التونسي في المشهد الثقافي العربي؟
- صحيح؛ الآن تغيرّ الأمر، وباتت الثقافة التونسية من أكثر الثقافات العربية حضوراً وقوة وإشعاعاً، من خلال إبداع مبدعيها، ومباحث مثقفيها، ودراسات أساتذتها الكبار الذين نقلوا أحدث النظريات النقدية الغربية إلى الثقافة العربية وأثروا تأثيراً حاسماً في أجيال من الجامعيين العرب.
في هذا السياق الجديد؛ يجري احتفاء «معرض الرياض الدولي للكتاب» بالثقافة التونسية. إنه احتفاء بثقافة مأخوذة بالحداثة والتجديد، مأخوذة بفكرة التقدم، مشغولة بسؤال التطور، مهتمة بالحوار تعقده مع الآخر. مجال اهتمامها ليس البلاد التونسية؛ وإنما الوطن العربي... إضافة إلى كل ذلك؛ فإنّي أرى في هذا الاحتفاء إعادة اعتبار للعديد من الثقافات العربية التي عُدّت إلى وقت قريب ثقافات الهامش والأطراف والفروع؛ ومن ضمنها الثقافات المغاربية والخليجية... هذا الاحتفاء يشير إلى أن ثنائية المتن والهامش القديمة باتت ملغاة، لا شيء يسندها بعد الآن أو يزكيها. فالهوامش باتت، نتيجة عوامل كثيرة، مراكز ومتوناً، وباتت قادرة على الضخ إلى جذع الثقافة العربية بمياه جديدة.
> حدثنا عن تجربتك... تبدو متنقلاً بين أشكال شعرية عدة...
- خلال مشاركتي في فعاليات معرض الرياض، سأساهم بقراءة مجموعة من قصائدي تصور مختلف مراحل تجربتي الشعرية. فكتاباتي يأخذ بعضها برقاب بعض. فأنا أتقدّم ملتفتاً، باستمرار، إلى الوراء. كل قصيدة أكتبها هي، في نظري، تقويم لقصيدة سابقة؛ استدراك عليها، تعديل لها. فكلما فرغت من كتابة قصيدة خامرني الإحساس بأنها في حاجة إلى تعهد ومراجعة... من هذا الإحساس تتولّد القصيدة الجديدة، وكأنّ وظيفة القصيدة الجديدة استكمال ما ظلّ ناقصاً في القصيدة التي سبقتها؛ ملء بياضها، إفشاء ما ظلّ مكتوماً فيها، بهذه الطريقة تتحوّل الكتابة إلى حركتين متناقضتين، متكاملتين: مراجعة وتقدم، التفات وتطلع.
لقد حاولت اختبار أهم الأشكال الشعرية، وقد أفضى بي ذلك إلى الاقتناع بأن لكل نوع طاقاته الشعرية الهائلة. ولست من القائلين بوجود علاقة بين الأشكال الشعرية وحداثة النص. كل الأشكال الشعرية يمكن أن تكون حديثة، قادرة على قول تجربة الشاعر. المزية في «شعرية» النص؛ في قوته الاستعارية، في كثافته الرمزية... الشعرية هي روح الشعر الباقية بعد أن يطوي النسيان كل شيء، هي عين «نمر بلايك» المتقدة في الليل الأليل، هي مصدر دهشة المتقبل ورعشته. فليست كل قصيدة عمودية خالية بالضرورة من الشعرية لالتزامها بالوزن والقافية، وليست كل قصيدة نثر تنطوي على شعرية عالية لأنها خرجت على قوانين الإيقاع القديمة.

رمزية الماء
> الشاعر السعودي محمد العلي لديه ديوان شعر وقصيدة مشهورة بعنوان «لا ماء في الماء»، وجدتُ أنك أيضاً لديك مجموعتان شعريتان حاضر فيهما الماء: «كتاب الماء... كتاب الجمر»، و«سليل الماء» وبينهما فاصل 20 عاماً... إلى ماذا يرمز الماء في شعرك؟
- يعدّ الماء من الرموز الكيانية الكبرى التي ترددت تردداً لافتاً في ثقافتنا العربية؛ فهو الذي يصنع الحياة كما الموت، ولا حركة إلا به...
أما في علم النفس التحليلي؛ فقد أخذ أبعاداً جديدة؛ فهو الرحم، وأمّ كل الأشياء، لهذا عدّه يونغ من الرموز الأكثر قدماً للأمومة، مؤكداً أنه أكثر العناصر أنوثة.
لكن الماء، مثله مثل كل الرموز، متحول، متغير، ويمكن أن يأخذ مع كل شاعر أبعاداً جديدة.
بالنسبة إليّ؛ الماء يرتبط في وجداني بمسقط رأسي، فالأسطورة تقول إنّ القيروان قد بنيت على شفا بئر؛ استعذب الفاتحون الأوائل ماءها فأسسوا مدينتهم قربها. من هذا الماء ولدت هذه المدينة، ومنها ولدت حضارة من أهم الحضارات الإنسانية. هذه البئر ما زالت قائمة إلى حدّ الآن وسط المدينة وما زال الناس يزورونها.
لكن الماء في قصيدتي قد أخذ طابعاً أكثر حميمية في معظم الأحيان، حيث ارتبط بذكريات الطفولة، بأبي الذي يصعد إلى السطح ليشمّ الغيوم قبل مقدمها... بصوت الماء داخل المزاريب، بالخروج ونحن أطفال نستسقي السماء، باعتقادي أن البحر فوقنا... بفسقية الأغالبة القريبة من بيتنا والتي بناها الولاة العباسيون قبل ألف سنة.
بعبارة واحدة؛ أقول إنه أكثر الرموز تواتراً في قصائدي، بل أذهب إلى حد القول إنه المصدر الأهم للصور والاستعارات التي تتردد في قصائدي... «أنا كائن من ماء وعشب»... هكذا تقول كل النصوص التي كتبت.

لوثة الإبداع
> قدمّت أكثر من 14 قصة للأطفال، وفاز كتابك «رسالة إلى الشتاء» بجائزة أفضل كتاب تونسي للأطفال عام 2013. ويقول عنك أحمد عبد المعطي حجازي إنك تتكلّم «بلهجة طفل»، ولديك «لغة تصطاد من الصور الوحشيّة والخواطر العميقة ما يدهشنا».. ماذا تعني لك الكتابة للطفل؟ كيف تصف النقص في أدب الطفل ضمن المكتبة العربية؟
- ثمّة في ثقافتنا العربيّة تهوين واضح من شأن الأدب الموجّه للأطفال، وهذا التهوين يرتدّ إلى أمرين اثنين متداخلين:
أوّلهما: الإيمان بأنّ الكتابة للأطفال عمل سهل لا يحتاج إلى موهبة تسنده أو ثقافة تدعمه.
ثانيهما: حُسبان الطفل، بحكم حداثة سنّه، عاجزاً عن التقويم والتمييز، فهو متقبل سلبيّ ليست له القدرة على المفاضلة والموازنة والإيماء إلى ما هو أحقّ بالقراءة وما هو أجدر بالإهمال والنسيان. لهذا وجدنا كتّاباً دون موهبة تمحّلوا تأليف قصص للأطفال لا تنطوي على أيّة قيمة جماليّة، فيما تنكّب مبدعونا الكبار عن تعاطي هذا الأدب ترفّعاً أو تعفّفاً أو بحثاً عن سلامة موهومة.
إن هذا الأدب في حاجة إلى مبدع كبير يدرك أسرار لعبة الكتابة ويعرف مآزقها ومضايقها على حدّ عبارة البحتري. فهذا الأدب، شأنه شأن كلّ كتابة أدبيّة، في حاجة إلى «لوثة الإبداع» حتّى يأتي على غير مثال سابق فيمتع الطفل ويشدّه إليه. إنّ هذا الأدب، إذا استخدمنا عبارات الناقدة جون إيكن، في حاجة إلى شاعر شبه مجنون يحمل فكرة رائعة، تصرّ على الخروج من ذهنه من دون إكراه.
> صدرت مؤخراً مجموعتك الشعرية «استجب إن دعتك الجبال»، تخاطب في القصيدة الأولى «المعتمد بن عباد»، قائلاً: وحده كان شيخي الغراب يعلمني درسه
ويعيد الوصية:
يا ابن ماء السماء
استجب إن دعتك الجبال، فثمة ينعقد البرق
ثمة تولد كل الغيوم.
إلى ماذا تشير غربة ابن عباد وانكساره؟
- كنت قبل سنوات قليلة في قصر المعتمد بن عباد بمدينة إشبيلية حين تداعت إلى ذهني قصائد الشاعر التي قدمت على نحو درامي سيرة حياته في تحولاتها الغريبة وتقلباتها المفاجئة. كانت حياة الرجل أشبه ما تكون بإحدى التراجيديات اليونانية القديمة، أو بإحدى مسرحيات شكسبير حيث تأخذ الحياة شكل كابوس مخيف، شكل بيت أشباح مرعب.
هذه القصائد التي تنطوي على طاقة درامية كبيرة هي التي ألهمتني كتابة هذا النص. كنت مأخوذاً بهذا الأمير الذي اتكأ على الشعر ليواجه ويقاوم. كان أعزل إلا من اللغة يحتمي بها ليواصل الحياة، وليؤجل باستمرار نهايته. هكذا أصبح الشعر، في مدوّنته، رديف الحرية، رديف المقاومة.
واخترت أن أصور في القصيدة أكثر اللحظات تراجيدية في حياة الرجل: الخروج من القصر في اتجاه المنفى. حاولتُ استدعاء تلك اللحظات بما تنطوي عليه من قوة درامية، والحفر فيها، كما حاولت تقمص شخصيته، والتكلم بصوته.
القصيدة كانت شكلاً من أشكال قصيدة القناع حيث تتداخل تجربتان: تجربة الشاعر وتجربة المعتمد بن عباد، فتتشابكان وتتماهيان. فتجربة المنفى التي عاشها المعتمد هي المعادل الموضوعي لتجربة المنفى التي يعيشها كلّ شاعر. ففي كل شاعر ثمة المعتمد بن عباد، وفي سيرة كل شاعر هناك منفى ما، هناك غربة ما. وفي حياة كل شاعر هناك بلنسية الحلم.
> كيف تنظر للقصيدة الحديثة؟
- القصيدة الحديثة هي قصيدة السؤال والغموض. الشاعر لم يعد فيها نبياً مخصوصاً برسالة، كما كان في المدرسة الرومانطيقية، ولم يعد يحمل «بشارة» لأناس ينتظرونها. الشاعر الحديث بات أقرب إلى الأكمه الذي يتحسّس العالم بعصا الكلمات؛ أي بات هو أيضاً يبحث عن الحقيقة مثله مثل جميع الناس.
لا شك في أن الجرح والشعر أخوان... لكن الجرح الذي يحمله الشاعر المعاصر ليس جرح العقل؛ وإنما هي جروح أنكى وأعمق... إنها جروح اجتماعية وفكرية ووجودية...
> من بين شعراء جيلك في المغرب العربي، لم تجذبك كثيراً قصيدة النثر...
- كنتُ إلى وقت قريب أكتب قصيدة التفعيلة ضمن الجيل الذي أنتمي إليه، وربما كان سبب إقبال جيلنا على هذه القصيدة تماهيها، في ذهنه، مع الحداثة. فقصيدة التفعيلة هي قصيدة الرواد من أمثال البياتي والسياب وأدونيس، وهي أيضاً قصيدة الإيقاع التي أعادت تنظيمه دون أن تتخلّى عنه.
لكن في السنوات الأخيرة أقبلتُ على اختبار هذه القصيدة بعد أن اقتنعت بأنها تتيح للشاعر إمكانات تعبيرية وإيقاعية جديدة غير التي تتيحها قصيدة التفعيلة... لا أريد أن أتبسط في سؤال الإيقاع، لكن أقول: إذا كان الوزن في قصيدة الشطرين والتفعيلة سابقاً على الشاعر، جاهزاً سلفاً، فإن الإيقاع في قصيدة النثر منبثق من داخل القصيدة، مرتبط بتجربة الشاعر، بل أذهب إلى القول إن قصيدة النثر تتيح للشاعر أن «يؤسس» إيقاعاته وفق تجربته. وكما أوضح عدد من النقاد الغربيين المعاصرين؛ فإن إيقاع القصيدة من إيقاع الجسد، وتجربتها من تجربته...
وأستحضر في هذا السياق قصيدة كتبها أحد رواد قصيدة النثر العربية هو جبرا ابراهيم جبرا، يؤكد فيها هذا المعنى، معنى تأسيس الشاعر إيقاعاته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد. ومما جاء في هذه القصيدة قوله:
وإيقاعاتي لا تنتمي لقواعد غيري
وقد درّبت عيني
على ما ينسجه نول
من صنع يدي في مسكني
المفتوح كخيمة في البادية
فالشاعر في قصيدة النثر يضع لقصائده إيقاعات جديدة لا تخضع لقواعد غيره، فالإيقاع هو في المقام الأول إنجاز فرديّ يستجيب لإيقاع التجربة والحياة.
> ماذا تعني لك الحداثة الشعرية؟
- الحداثة، كما أحبّ أن أعرّفها، هي «الإنصات إلى إيقاع الزمن»، لكن هذا الإنصات ليس أمراً مفروغاً منه، فلسنا جميعاً قادرين على سماع ذلك الإيقاع حتى وإن أرهفنا السمع. فساعة الزمن قد تقرع عالياً، ولا أحد يسمعها، أو قد يسمعها عدد قليل من المبدعين. لهذا نجد كثيراً من الشعراء ينتمون إلى زمن، بينما نصوصهم تنتمي إلى زمن آخر. فالبعض يعيش بيننا بينما نصوصه تنتمي إلى زمن مضى وانقضى، فالشخص ينتمي إلى عصر؛ بينما النص ينتمي إلى عصر ثان.
سبب هذا الانفصام يرتدّ إلى عجز البعض عن سماع هذا الإيقاع، فسكنوا عصوراً أخرى غير عصورهم، وكتبوا بلغات أخرى غير لغاتهم، واجترحوا أسئلة غير أسئلتهم.
هكذا نجد شعراءنا العرب المعاصرين ينتمون إلى أزمنة كثيرة، والحال أنهم يعيشون في وقت واحد، وفي مكان واحد...
لكن هل توجد مواصفات للحداثة يمكن أن نسترفدها؟
من غير شكّ لا وجود لمواصفات ثابتة للحداثة، يمكن استدعاؤها، والاستئناس بها، فالحداثة متحوّلة، متغيرة، وكل عصر، وربما كلّ شخص، يخلق حداثته التي تختلف، بالضرورة، عن الحداثات الأخرى...


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.