هل تتحول بوركينا فاسو إلى موطئ قدم جديد لروسيا في غرب أفريقيا؟

متظاهرون يرفعون العلم الروسي في واغادوغو أمس (أ.ف.ب)
متظاهرون يرفعون العلم الروسي في واغادوغو أمس (أ.ف.ب)
TT

هل تتحول بوركينا فاسو إلى موطئ قدم جديد لروسيا في غرب أفريقيا؟

متظاهرون يرفعون العلم الروسي في واغادوغو أمس (أ.ف.ب)
متظاهرون يرفعون العلم الروسي في واغادوغو أمس (أ.ف.ب)

في الساعات الأولى من صباح الأحد، وأمام ثكنة عسكرية في واغادوغو؛ عاصمة بوركينا فاسو، صعد جندي شاب من الموالين لزعيم الانقلاب العسكري النقيب إبراهيم تراوري، على ظهر مدرعة عسكرية، وأخرج من جيبه العلم الروسي وبدأ يلوح به وسط هتافات مؤيدة لموسكو، يرددها عشرات الشبان المتحمسين للتوجه نحو التعاون العسكري مع روسيا، وإنهاء الشراكة مع فرنسا؛ القوة الاستعمارية السابقة.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تُرفع فيها الأعلام الروسية في المظاهرات الشعبية المؤيدة للانقلاب العسكري الذي نفذه ضباط شباب فجر الجمعة الماضي، فمن الواضح أن الانقلابيين الجدد لا يخفون ميولهم نحو المعسكر الروسي، وعلاقتهم المتوترة بالمجموعة الغربية، خصوصاً فرنسا.
النفوذ الروسي في بوركينا فاسو يزداد بشكل ملحوظ، رغم أنه حتى أشهر قليلة كان مجرد نفوذ إعلامي وشعبي، فظهرت شخصيات وحركات تدعم بشكل صريح أن يسلك بلدهم طريق مالي المجاورة، التي أنهت علاقاتها مع فرنسا وطردت قواتها وأنهت اتفاق التعاون العسكري معها، وعقدت شراكات قوية مع موسكو، بل إنها استعانت بمجموعة «فاغنر» الروسية الخاصة في حربها على الإرهاب.
روسيا التي أصبحت تتمتع بنفوذ مُزداد في القارة الأفريقية؛ بدأ في ليبيا، ثم جمهورية أفريقيا الوسطى، وصولاً إلى دولة مالي، يبدو أنها في طريقها نحو إيجاد موطئ قدم جديد في غرب القارة، يتمثل في بوركينا فاسو، التي رغم فقرها وصغر مساحتها، ورغم أنها دولة حبيسة لا تملك أي إطلالة على المحيطات، فإن لديها موقعاً استراتيجياً حيوياً؛ إذ تحد العديد من الدول المهمة في المنطقة، ولها مكانة ثقافية واجتماعية محورية في غرب أفريقيا، وسبق أن تمتعت بنفوذ دبلوماسي معتبر في القارة.
استفادت روسيا في تعزيز نفوذها من التاريخ السياسي لهذه الدولة الصغيرة؛ فبوركينا فاسو التي استقلت عن فرنسا عام 1960، عاشت كثيراً من الانقلابات العسكرية والتقلبات السياسية، إلا إن الحقبة التي لا تزال تثير حنين الشارع، تلك التي حكم فيها توماس سانكارا (1983 – 1987)، وهو عسكري وصل إلى السلطة إثر انقلاب عسكري، فتبنى الفكر الشيوعي وربطته علاقات قوية بالاتحاد السوفياتي حينها، وتمتع بشخصية قوية وثورية فلقبه أنصاره «شي غيفارا الأفريقي».
عمل سانكارا خلال حكمه البلاد على إنهاء «الهيمنة الفرنسية» ومعاداة «الإمبريالية الغربية»، ولكنه دفع حياته ثمناً لسياساته حين قتل في انقلاب عسكري، فتحول إلى رمز للثورة، وبقي جزء من شعب بوركينا فاسو يرددون عبارته الشهيرة: «يمكن قتل الثوار ولكن أفكارهم لا تموت»؛ وهكذا أصبحت الشعارات نفسها التي رفعها الرجل قبل أكثر من 3 عقود حاضرة بقوة في خطاب أنصار تعزيز النفوذ الروسي في بوركينا فاسو.
من أبرز مؤيدي التعاون مع روسيا، حركة تطلق على نفسها «بوركينا - روسيا»، ينشط فيها مثقفون وسياسيون وحقوقيون وصحافيون، ينظمون أنشطة موالية لروسيا ويطالبون بعقد شراكة «جيو - استراتيجية» مع موسكو، وتقدم الحركة نفسها على أنها معارضة للسياسات الفرنسية وتدعو إلى «إلغاء الاتفاقيات السرية مع باريس».
وبرزت هذه الحركة بقوة خلال الأيام الأخيرة، وكان ناشطون فيها يتصدرون المظاهرات المؤيدة للانقلاب العسكري، يرتدون قمصاناً تحمل علمي بوركينا فاسو وروسيا، ويرفعون لافتات مناهضة للوجود الفرنسي والغربي في بلدهم، بل إن بعض هؤلاء الناشطين استهدف لافتة إشهارية تحمل شعار شركة فرنسية في أحد شوارع واغادوغو.
إلى جانب الحضور الصاعد لروسيا في الشارع والحركات الشعبية، كانت دوماً هنالك مواقف رسمية مؤيدة لتعزيز العلاقات مع روسيا. على سبيل المثال، وقّع البلدان عام 2018 اتفاقية تمهد لحصول الجيش وقوات الأمن في بوركينا فاسو على «دعم فني» من روسيا، بالإضافة إلى إطلاق برنامج للتكوين العسكري والاستخباراتي يشرف عليه عسكريون روس، ولكن الأهم هو أن الاتفاقية الموقعة قبل أكثر من 4 سنوات لمحت لإمكانية حصول بوركينا فاسو على «معدات عسكرية وأسلحة» روسية.
بقيت هذه الاتفاقية مجرد حبر على ورق حتى انقلاب يناير (كانون الثاني) الماضي، حين بدأت أصوات داخل الجيش تدعو إلى تفعيلها وتعزيز التعاون مع روسيا، في إطار ما سموه «تنويع الشراكات» من أجل إيجاد حلول فعالة في مواجهة خطر الإرهاب، ولكن يبدو أن العقيد بول هنري داميبا الذي عينه الانقلابيون رئيساً للبلاد لم يكن متحمساً لهذا التحول السريع.
داميبا التقى قبل أسبوع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وأعلنت رئاسة بوركينا فاسو أن الاجتماع خصص للتباحث حول آليات تعزيز التعاون بين البلدين، وهو تعاون قالت الرئاسة إنه «قديم، يعود لأكثر من 50 عاماً، واليوم يسعى البلدان لتعزيزه من أجل مواجهة تحديات اللحظة الراهنة»... بل إن وزيرة خارجية بوركينا فاسو، التي حضرت المباحثات، قالت في تصريح صحافي: «الآن؛ لدينا رغبة كبيرة في تعزيز هذا التعاون، ونقله إلى مستوى مربح للبلدين».
كان من الواضح في تصريحات مسؤولي بوركينا فاسو خلال الأشهر الأخيرة أن هنالك استراتيجية جديدة تقوم على البحث عن شركاء جدد في الحرب على الإرهاب، بعد ازدياد النقمة الشعبية على الفرنسيين، وكانت روسيا جاهزة لتكون هذا الشريك الجديد.
نهاية شهر أغسطس (آب) الماضي، أعلن الوزير الأول في حكومة بوركينا فاسو الانتقالية ألبيرت أوديراغو أن بوركينا فاسو تحتفظ لنفسها بالحق في تنويع شركائها، حتى ولو كان ذلك قد يزعج الشركاء التاريخيين، في إشارة إلى القوة الاستعمارية السابقة فرنسا، التي تعد أكبر شريك عسكري وأمني للبلاد. بل إن الوزير الأول كان أكثر صراحة حين قال إن «هنالك علامات استفهام على الشراكة التي تربطنا بفرنسا».
إن أكثر ما تعاني منه بوركينا فاسو في حربها على الإرهاب هو نقص المعدات والأسلحة والتكوين، وتلك هي الذريعة التي برر بها الانقلابيون عزل الرئيس بول هنري داميبا يوم الجمعة الماضي، وموسكو جاهزة لسد هذا النقص في إطار صفقات شبيهة بتلك التي أبرمت مع منفذي الانقلاب العسكري في دولة مالي المجاورة قبل عامين. ولكن موسكو التي تتجه للهيمنة على بوركينا فاسو، لا تملك أي سفارة في واغادوغو، بل إن بوركينا فاسو تدخل في إطار مهام السفير الروسي المقيم في أبيدجان؛ العاصمة الاقتصادية لدولة كوت ديفوار المجاورة، إلا إن موسكو في المقابل لديها «قنصلية شرفية» في واغادوغو، تديرها آنا راتشينا كوليبالي، وهي سيدة بوركينابية من أصل روسي، لديها شبكة علاقات قوية في الأوساط السياسية والثقافية، وفي المجتمع المدني أيضاً.


مقالات ذات صلة

«مذبحة الكرمة» تفاقم الوضع الأمني في بوركينا فاسو

العالم «مذبحة الكرمة» تفاقم الوضع الأمني في بوركينا فاسو

«مذبحة الكرمة» تفاقم الوضع الأمني في بوركينا فاسو

بدأت بوركينا فاسو التحقيق في «مذبحة» وقعت في قرية الكرمة شمال البلاد، أسفرت عن مقتل عشرات المدنيين، بينهم نساء وأطفال، على أيدي مسلحين يرتدون زي القوات المسلحة البوركينابية. وقُتل نحو 136 شخصاً في الهجوم، الذي وقع في 20 أبريل (نيسان) واتَّهم فيه مواطنون قوات الجيش بالمسؤولية عنه، لكنّ مسؤولين قالوا إن «مرتكبي المذبحة إرهابيون ارتدوا ملابس العسكريين»، في حين ندّدت الحكومة بالهجوم على القرية، في بيان صدر في 27 أبريل، دون ذكر تفاصيل عن الضحايا، قائلة إنها «تواكب عن كثب سير التحقيق الذي فتحه المدعي العام للمحكمة العليا في واهيغويا، لامين كابوري، من أجل توضيح الحقائق واستدعاء جميع الأشخاص المعنيين»

محمد عبده حسنين (القاهرة)
العالم الحرب على الإرهاب في بوركينا فاسو... مقتل 33 جندياً و40 إرهابياً

الحرب على الإرهاب في بوركينا فاسو... مقتل 33 جندياً و40 إرهابياً

أعلن الجيش في بوركينا فاسو أن 33 من جنوده قتلوا في هجوم نفذته مجموعة إرهابية على موقع عسكري، يقع في شرق البلاد، وذلك في آخر تطورات الحرب الدائرة على الإرهاب بهذا البلد الأفريقي الذي يعاني من انعدام الأمن منذ 2015. وقال الجيش في بيان صحافي إن مجموعة من المسلحين هاجمت فجر الخميس موقعاً عسكرياً في منطقة أوجارو، شرق البلاد، على الحدود مع دولة النيجر، وحاصروا وحدة من الجيش كانت تتمركز في الموقع، لتقع اشتباكات عنيفة بين الطرفين. وأعلن الجيش أن الحصيلة تشير إلى مقتل 33 جندياً وإصابة 12 آخرين، لكنهم في المقابل قتلوا ما لا يقلُّ عن 40 من عناصر المجموعة الإرهابية التي ظلت تحاصرهم حتى وصلت تعزيزات فكت عن

الشيخ محمد (نواكشوط)
العالم بوركينا فاسو: العنف يحصد مزيداً من الضحايا رغم «التعبئة العامة»

بوركينا فاسو: العنف يحصد مزيداً من الضحايا رغم «التعبئة العامة»

على الرغم من إعلان المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو «تعبئة عامة» لمنح الدولة «الوسائل اللازمة» لمكافحة الإرهاب، تزايدت الجماعات المسلحة في الأسابيع الأخيرة، والتي يتم تحميل مسؤوليتها عادة إلى مسلحين مرتبطين بتنظيمي «القاعدة» و«داعش». وتشهد بوركينا فاسو (غرب أفريقيا)، أعمال عنف ونشاطاً للجماعات المتطرفة منذ 2015 طالها من دولة مالي المجاورة. وقتل مسلحون يرتدون أزياء عسكرية في بوركينا فاسو نحو 60 شخصاً، بحسب مصدر قضائي، الاثنين، ذكر لوكالة «الصحافة الفرنسية»، نقلاً عن جهاز الشرطة، أن «الهجوم وقع (الخميس) في قرية كارما في شمال إقليم ياتنغا»، مضيفاً أن المسلحين «استولوا» على كميات من البضائع ا

العالم بوركينا فاسو: العنف يحصد مزيداً من الضحايا رغم «التعبئة العامة»

بوركينا فاسو: العنف يحصد مزيداً من الضحايا رغم «التعبئة العامة»

على الرغم من إعلان المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو «تعبئة عامة» لمنح الدولة «الوسائل اللازمة» لمكافحة الإرهاب، تزايدت الهجمات المسلحة في الأسابيع الأخيرة، التي يتم تحميل مسؤوليتها عادة إلى مسلحين مرتبطين بتنظيمي «القاعدة» و«داعش». وتشهد بوركينا فاسو (غرب أفريقيا)، أعمال عنف ونشاطاً للجماعات المتطرفة منذ 2015 طالاها من دولة مالي المجاورة. وقتل مسلحون يرتدون أزياء عسكرية في بوركينا فاسو نحو 60 شخصاً، حسب مصدر قضائي (الاثنين) ذكر لوكالة الصحافة الفرنسية، نقلاً عن جهاز الشرطة، أن الهجوم وقع (الخميس) في قرية كارما شمال إقليم ياتنغا، مضيفاً أن المسلحين «استولوا» على كميات من البضائع المتنوعة خ

أفريقيا مقتل 60 مدنياً بهجوم في شمال بوركينا فاسو

مقتل 60 مدنياً بهجوم في شمال بوركينا فاسو

قال مسؤول من بلدة أواهيجويا في بوركينا فاسو، أمس الأحد، نقلاً عن معلومات من الشرطة إن نحو 60 مدنياً قُتلوا، يوم الجمعة، في شمال البلاد على أيدي أشخاص يرتدون زي القوات المسلحة البوركينية. وأضاف المدعي العام المحلي لامين كابوري أن تحقيقاً بدأ بعد الهجوم على قرية الكرمة في إقليم ياتنجا في المناطق الحدودية قرب مالي وهي منطقة اجتاحتها جماعات إسلامية مرتبطة بـ«القاعدة» وتنظيم «داعش» وتشن هجمات متكررة منذ سنوات. ولم يذكر البيان مزيداً من التفاصيل بشأن الهجوم، وفق ما نقلته وكالة «رويترز» للأنباء. وذكرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» في مارس (آذار) أن هجمات الجماعات المسلحة على المدنيين تصاعدت منذ عام 2022 ب

«الشرق الأوسط» (واغادوغو)

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».