ماذا بعد تصعيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطواته التي وصفتها واشنطن بالعدوانية، جراء ضمه للمناطق الأوكرانية الأربع، وتهديده باستخدام السلاح النووي «دفاعاً عن روسيا الجديدة»؟
بعيداً عن المواقف الفورية التي صدرت عن المسؤولين الأميركيين، في إدانتهم خطابه «المقلق» خلال حفل توقيعه أوراق الضم، يدعو البعض إلى مراقبة ردود فعل الروس على التغيير العميق الذي أعاد بلادهم إلى حقبات اعتقدوا أنها اختفت. ومع إحراق الجسور مع أوروبا، والعزلة الشديدة التي وجدت روسيا ومواطنوها أنفسهم فيها، والصور عن قوافل «المهاجرين» الروس، بعد إعلان التعبئة «الجزئية»، يبدو أن بوتين قد كسر العقد الاجتماعي والسياسي معهم.
يقول تقرير في «فورين أفيرز»، يبدو أن بوتين نسي أن المصدر الحقيقي للخطر على نظامه قد لا يكون المعارضة السياسية التي تم سجنها أو إسكاتها، أو ممثلي المجتمع المدني الذين تم إغلاق منظماتهم بشكل منهجي وقمع أصواتهم؛ بل هم الروس العاديون الذين ضمنوا منذ فترة طويلة أسس حكمه مقابل الاستقرار الاقتصادي. وعلى الرغم من أنهم لم يشاركوا عن كثب في «العملية الخاصة»، فإنه يمكن الاعتماد عليهم للموافقة عليها، أو على الأقل عدم معارضتها. لكن الآن ومع قرار التعبئة والقطيعة المتزايدة مع الغرب، وخطر التدهور الاقتصادي القادم، تغير ذلك. وهو ما قد تكون له تداعيات بعيدة المدى، على الرغم من أن لا أحد يتوقع انهياراً فورياً.
وبدا أن الرهانات الجديدة الأخرى لإفشال خطط بوتين، تقوم على عدة محاور: أولاً، تحويل المعارك المستمرة في الأراضي التي «ضمها»، إلى أمر واقع يقوّض ادعاءاته عن «روسيتها» إلى الأبد. وهو ما تُرجم أمس السبت عبر الإعلان عن دخول القوات الأوكرانية بلدة ليمان الاستراتيجية، في ظل تدهور استراتيجي للقوات الروسية. ويرى البعض أنه على المدى المباشر، وفي حال لم ينجح بوتين في تخويف الغرب والأوكرانيين، وفي حال قررت الولايات المتحدة وحلفاؤها مواصلة مد أوكرانيا بالسلاح والمساعدات المالية، فهناك احتمال أن ينهار الجيش الروسي. بيد أن صدور مواقف حاسمة من قبل قادة «البنتاغون» أكدت على تقديم مزيد من الدعم «طويل الأمد» لأوكرانيا، وتوحيد أنظمة الذخائر بين الحلفاء وقوات كييف، بحسب وكيل وزارة الدفاع لشؤون الاستحواذ ويليام لابالانت، عزز من هذا الاعتقاد. كما عُدّ مؤشراً على أن المواجهة مع روسيا ستطول سنوات عدة، ورسالة غير مباشرة من واشنطن حول مستقبل علاقة حلف «الناتو» مع أوكرانيا، على الرغم من الرد الأولي «البارد»؛ بلسان مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، على طلب الرئيس الأوكراني الانضمام الفوري إلى عضوية حلف «الناتو»، على الرغم من أهميته من الناحية الرمزية والنفسية.
وترى أوساط أميركية عدة أنه لا حاجة لتعقيد الوضع الآن، لناحية قبول عضوية أوكرانيا في الحلف؛ خصوصاً أن الميدان العسكري لا يزال يكشف عن مزيد من الإخفاقات الروسية. كما أن كل المؤشرات لا توحي حتى الآن بأن تهديدات بوتين النووية قد تكون داهمة، على الرغم من تعامل واشنطن معها بجدية.
ثانياً، يقول عديد من الخبراء إن أفضل ما يمكن للولايات المتحدة وحلف «الناتو» القيام به، للرد على الخطوات الروسية، هو مواصلة العقوبات، وشحن مزيد من الأسلحة لإضعاف الجيش الروسي. ويعتقد على نطاق واسع أن الولايات المتحدة ستعمل في الأيام المقبلة بالتنسيق مع حلفائها الغربيين، على وضع اللمسات الأخيرة على خطة لوضع حد أقصى لسعر صادرات الطاقة الروسية وتنفيذها، وتسريع الاستعدادات لتأمين الطاقة للأوروبيين خلال فصل الشتاء.
ومع تصاعد التكهنات الأميركية والأوروبية، بانعدام مستقبل سياسي للعلاقة مع بوتين، تدفع واشنطن حلفاءها أيضاً إلى إنهاء الرهان على أي علاقة ثابتة معه لناحية التزود بالطاقة. ويرى البعض أن هذا الأمر سيكون مادة عمل سياسي، وجهود مديدة بين واشنطن وبروكسل لاستبدال خطوط الطاقة، بعدما «حرق» بوتين بنفسه تلك الخطوط، عبر تفجيرها في البحر، حسب الغربيين. وسيستغرق الأمر بعض الوقت، حتى تبدأ شبكات خطوط الأنابيب الجديدة القادمة من شرق البحر المتوسط، والغاز الطبيعي المسال القادم من الولايات المتحدة وشمال أفريقيا، وكذلك من كازاخستان، بدلاً من الغاز الروسي.
ومع توقيع الكونغرس الأميركي على حزمة مساعدات جديدة بقيمة 12 مليار دولار، وتعهد عديد من الدول الأوروبية «الغنية» بتقديم مزيد من المساعدات لكييف، تبدو قدرات موسكو محدودة في توفير مقومات حربها على المدى المتوسط والبعيد، في ظل صعوبات الإنتاج العسكري، وتضاؤل مخزوناتها من الأسلحة الاستراتيجية التقليدية والذكية معاً، ولجوئها إلى استخدام أسلحة بعض الحلفاء الأقل قيمة. وأكد «البنتاغون» أمس أن روسيا أرسلت جنوداً إلى إيران لتعلم كيفية استخدام مُسيَّراتها التي أظهر استخدامها أخيراً فشلاً كبيراً في ساحة المعركة. وأضاف أن حقيقة سعي روسيا للحصول على مساعدة إيران يوضح حالة اليأس، في الوقت الذي يعانون فيه نقصاً كبيراً في الإمدادات، سواء بسبب العقوبات أو ضوابط التصدير.
ثالثاً، بالنظر إلى خطورة التحدي الذي أطلقه بوتين بضم أراضٍ أوكرانية، بدا واضحاً أن «الأصدقاء» و«الحلفاء»، ليسوا على صفحة واحدة معه. فالصمت الصيني قد يكون بليغاً في التعبير عن مخاوف بكين في كيفية الدفاع عن سياساتها تجاه تايوان، إذا ما قرر سكانها «التصويت» أيضاً للانفصال عن الوطن الأم. والحال أن تلك المخاوف، هي لسان حال دول أخرى، كالهند وتركيا التي رفضت الاعتراف بالخطوة الروسية، فضلاً على التشققات في «الحديقة» الخلفية لروسيا نفسها، وهو ما عبر عنه الموقف الصادم لرئيس كازاخستان، قاسم جومارت توكاييف الذي نأى بنفسه عن الكرملين، ويسعى إلى توثيق علاقاته بأوروبا. ودعت أصوات أميركية عدة لتكثيف الحوار والتواصل الدبلوماسي مع تلك الدول، بما فيها الصين التي لا تلتزم حتى الساعة بعدم تزويد روسيا بمساعدات عسكرية، والضغط عليها من أجل حض الرئيس الروسي على وقف الحرب.
واشنطن تستعد لمواجهة طويلة المدى رداً على تصعيد بوتين
واشنطن تستعد لمواجهة طويلة المدى رداً على تصعيد بوتين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة