الإيطاليون يدخلون «عصر ميلوني»... وحنينه السياسي

أمام تداعيات الداخل وردات فعل أوروبا

ميلوني... بعد انتصارها (أ.ب)
ميلوني... بعد انتصارها (أ.ب)
TT

الإيطاليون يدخلون «عصر ميلوني»... وحنينه السياسي

ميلوني... بعد انتصارها (أ.ب)
ميلوني... بعد انتصارها (أ.ب)

منذ مطالع القرن الماضي وإيطاليا أشبه بمختبر سياسي لأوروبا، تنشأ فيها حركات وتعتمل تيارات وتجارب للمرة الأولى، ولا تلبث أن تنكفئ وتتلاشى حتى تظهر مجدداً في أماكن أخرى بحلة جديدة... وغالباً أكثر تطوراً ورسوخاً.. من الفاشية التي كانت مصدر الإلهام الأول للنازية، إلى الديمقراطية المسيحية التي انتشرت لاحقاً في عدد من الدول الأوروبية. ومن ثم، من الحركة الأورو - شيوعية التي أخرجها أنريكو برلينغوير من دائرة التبعية للاتحاد السوفياتي لتصبح الحزب الشيوعي الأقوى والأقرب للحكم في أوروبا الغربية، ولاحقاً، من اندثار الأحزاب التقليدية - وفي طليعتها اليسارية والديمقراطية المسيحية... حتى الوصول إلى الرائد الأول للشعبوية اليمينية الحديثة سيلفيو برلوسكوني والصعود السريع لحركات مناهضة النظام القائم والخروج عن الأعراف وقواعد اللعبة السياسية الكلاسيكية. وها هي اليوم تقدّم للاتحاد الأوروبي أولى تجارب وصول اليمين المتطرف إلى الحكم بعد الفوز الذي حققه الائتلاف الذي يقوده حزب الفاشيين الجدد «إخوان إيطاليا» بقيادة «المرأة الحديدية الجديدة» جيورجيا ميلوني التي ستصبح أول امرأة تتولّى رئاسة الحكومة في تاريخ إيطاليا، والمرآة التي تتهيّب أوروبا النظر فيها إلى مستقبلها السياسي.
بعدما تولّت مارغريت ثاتشر رئاسة الحكومة البريطانية وأنجيلا ميركل منصب المستشارة في ألمانيا، وكذلك تكرار التجربة مرات عدة في البلدان الإسكندينافية، ومع وجود أورسولا فون در لاين على رأس المفوضية الأوروبية، لم يعد وصول امرأة إلى قمة السلطة الإجرائية في أوروبا الغربية يشكّل حدثاً بارزاً في المشهد السياسي القاري. غير أن وصول جيورجيا ميلوني إلى رئاسة الحكومة الإيطالية بعد الفوز الساحق الذي حققه حزبها «إخوان إيطاليا» في انتخابات الأحد الفائت، كان من أبرز التحولات السياسية التي شهدتها أوروبا خلال السنوات الأخيرة. لقد كان نقطة تحوّل تستدعي التوقف عندها لاستشراف صورة المستقبل السياسي الذي قد يكون يعتمل في بلدان الاتحاد الأوروبي، وربما في الدول الغربية.
إذ إن الحزب الذي تتزعمه ميلوني هو وليد «ارتقاء» فلول الحركة الفاشية، التي كان قد حظرها الدستور الإيطالي بعد سقوط بنيتو موسوليني وولادة «الجمهورية الثانية»، والدليل القاطع على أن «الطوق الأخلاقي» الذي حاولت الأحزاب التقليدية في أوروبا الغربية فرضه حول اليمين المتطرف طوال عقود لم يمنع هذا اليمين من الانخراط في المسار السياسي والصعود إلى قمة هرم السلطة. ويضاف إلى ذلك، أن هذه الاستراتيجية التي تبنّتها أحزاب اليسار واليمين المعتدل لم تكن حائلاً دون الانهيار المطّرد لهذه الأحزاب واندثار معظمها.

عِبَر كثيرة
كثيرة هي العِبَر التي ينبغي استخلاصها من هذه القفزة الإيطالية الجديدة نحو المجهول، خاصة أنها تأتي بعد أيام من الفوز الذي حقّقه النازيّون الجدد في السويد ودخولهم الحكومة الجديدة لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية في واحدة من أكثر الدول الأوروبي اعتدالاً. ولا يغيب عن البال أن هذا التطور، الذي يحصل في دولة أوروبية وازنة اقتصادياً وسياسياً وديمغرافياً، يتزامن مع مرحلة دقيقة جداً من التاريخ الأوروبي الحديث تعتمل فيها أزمات عدة عميقة ومفتوحة على احتمالات يصعب التكهن بمآلها. فقد تبيّن هذه التجربة، أن «تركيز» الحملات الانتخابية على الإدانة الأخلاقية، والتحذير من العواقب الكارثية لوصول القوى المتطرفة إلى السلطة، يضع هذه القوى في موقع «البديل الفعلي» مهما كانت برامجها السياسية خاوية من الاقتراحات والحلول العملية لمعالجة الأزمات.
نعم، عكفاً على ما سبق، فوز اليمين المتطرف في الانتخابات الإيطالية سبقه منذ أسابيع قليلة فوز كتلة المحافظين في السويد، حيث نال حزب النازيين الجدد ما يزيد على 20 في المائة من الأصوات. إلى جانب ذلك، يتضّح أن حكومات «الوحدة الوطنية» أو الائتلافية، التي غالباً ما يستهدف تشكيلها تهميش أو عزل القوى المتطرفة، تساهم في نهاية المطاف في توسيع دائرة التحرك أمام هذه القوى التي لا تعود مُحتاجة إلى طرح برامج سياسية بديلة، بل تكتفي بمعارضة السلطة الحاكمة العاجزة عن معالجة المشاكل اليومية الملحة للمواطنين.
الحقيقة، أنه تميّزت الأحزاب اليمينية المتطرفة خلال السنوات الأخيرة بنجاحها في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتسويق صورة معتدلة لها، ومنزّهة عن العقم والفساد الذي كانت تقع فيه الأحزاب المشاركة في الحكم؛ الأمر الذي سمح لها باستقطاب نسبة كبيرة من التأييد الذي كانت تحظى به الأحزاب التقليدية، وبخاصة منها المحافظة. وتفيد الدراسات بأن القوى اليمينية المتطرفة تسخّر نسبة كبيرة من مواردها في حملات واسعة على وسائل التواصل، قبل الانتخابات وخلالها وبعدها، وتوكلها إلى أفضل الاختصاصيين في هذا المجال.
ومن العوامل الأخرى التي تفسّر هذا الصعود للقوى اليمينية المتطرفة، إلى جانب مهارتها في نقل الأفكار الهامشية إلى واجهة النقاش العام - والتي تجلّت بوضوح في التجربة الإيطالية - هي الروابط التي نسجتها مع القوى اليمينية المؤسّسية، التي أصبحت تشكّل خطراً وجودياً على الأحزاب والقوى المحافظة التقليدية. فالتحالف الذي بناه حزب أنطونيو تاجاني، الرئيس السابق للبرلمان الأوروبي والمرشح لخلافة برلوسكوني، مع «إخوان إيطاليا»، كان له أكبر الأثر في التخفيف من حدة الصورة المتطرفة لحزب ميلوني، ما يحمل على التساؤل حول ما إذا كانت التجربة الإيطالية - مرة أخرى - نافذة تطل على المشهد السياسي المقبل في أوروبا.

الأبعاد الأوروبية المستقبلية
وإذا كان وصول اليمين المتطرف إلى الحكم في إيطاليا «مرآة» يستشرف الأوروبيون من خلالها ما قد ينتظرهم في السنوات المقبلة، فهو أيضاً يطرح علامات استفهام حول مستقبل المواجهة الأوروبية مع روسيا وموقع الاتحاد في المعادلة الدولية التي ستسفر عنها الحرب الدائرة في أوكرانيا. إذ من المعروف أن معظم الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا تقيم منذ سنوات علاقات وثيقة مع موسكو، وهي أعربت مراراً عن معارضتها للعقوبات المفروضة على روسيا بذريعة أنها تضرّ بالمصالح الأوروبية أكثر من المصالح الروسية؛ ولذا عارضت إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا.
وهنا، مع أن جيورجيا ميلوني حرصت منذ بداية الحرب في أوكرانيا على تأكيد موقف حزبها الداعم للمحور الأطلسي وللعقوبات على موسكو، فإن حليفيها اليمينيين البارزين سيلفيو برلوسكوني وماتّيو سالفيني لا يفوّتان فرصة للتمايز والابتعاد عن الموقف الأوروبي الموحّد من موسكو، لا، بل إلى محاولة تبرير الغزو الروسي لأوكرانيا... كما فعل برلوسكوني عشيّة الانتخابات الأخيرة.
للعلم، كان زعيم حزب «إخوان إيطاليا» قد أدلى بتصريحات قال فيها، إن العملية العسكرية الخاصة التي أطلقتها روسيا في أوكرانيا كانت تستهدف الوصول إلى كييف في غضون أسبوع واحد، وتعويض حكومة زيلينسكي بأخرى من «أشخاص صالحين»، والعودة بعد أسبوع إلى قواعدها. وأردف «لكن الضغوط التي تعرّض لها فلاديمير بوتين من وزرائه وحزبه، دفعته إلى الإقدام على هذه الخطوة... وما حصل هو أن القوات الروسية واجهت مقاومة غير متوقعة تعززت بفضل إمدادات بكل أنواع الأسلحة من الغرب».
من جهة ثانية، كان برلوسكوني، الذي التزم الصمت التام طوال شهرين قبل شجبه الغزو الروسي لأوكرانيا، قد صرّح منذ أسابيع بأن «على الدول الغربية أن تحاول إقناع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي بالإصغاء إلى مطالب بوتين». ويُذكر، أن برلوسكوني، زعيم حزب «فورتسا إيطاليا»، تربطه صداقة شخصية وطيدة بالرئيس الروسي الذي استضافه مرات عديدة في رحلات ترفيهية... اعتاد برلوسكوني على التباهي بسرد تفاصيلها في مجالسه الخاصة. وكان أيضاً أول زعيم أوروبي رافق بوتين في زيارة إلى شبه جزيرة القرم بعدما ضمتها موسكو عام 2014.
جدير بالذكر، أنه، منذ بداية الحرب في أوكرانيا دأب الاتحاد الأوروبي على تكرار التحذيرات الموجهة إلى حكومات الدول الأعضاء من محاولات موسكو التأثير على مواقفها وسياساتها الداخلية عن طريق المعلومات المزيفة والأنباء المضللة واستخدام حلفائها في هذه الدول. وكان من الطبيعي أن توجّه هذه التحذيرات بشكل خاص إلى إيطاليا، ولو من غير تسميتها، لسببين رئيسيين:
الأول، لأن موسكو نسجت منذ سنوات علاقات تجارية واقتصادية وثيقة مع روما، ومدّت جسوراً وطيدة مع بعض القوى السياسية الصاعدة مثل حزب الرابطة اليميني المتطرف. وفي الوقت نفسه، أخذت تترسّخ العلاقات الشخصية بين بوتين وبرلوسكوني الذي رغم أفول نجمه السياسي ما زال يتمتع بقدرة كبيرة على التأثير في الرأي العام بفضل إمبراطوريته الإعلامية الضخمة.
والآخر، لأن إيطاليا دولة وازنة في الاتحاد الأوروبي، إلا أنها تعاني من وضع اقتصادي حرج يجعلها تتردد كثيراً قبل الإقدام على خطوات من شـأنها أن تساهم في مفاقمة هذا الوضع.
بناءً عليه؛ لم يكن مستغرباً أن الانتخابات الإيطالية استأثرت باهتمام واسع في الأوساط الأوروبية والأميركية، نظراً للتداعيات المحتملة لنتائجها على «وحدة الصف الأطلسية» من المواجهة مع موسكو. ويجدر التذكير في هذا الصدد بأن أصابع الاتهام الأوروبية وجّهت إلى موسكو مطلع هذا الصيف عندما قرّر برلوسكوني وحليفه اليميني المتطرف سالفيني سخب الثقة من حكومة ماريو دراغي. وكان دراغي قد تحوّل، بفضل علاقاته الوثيقة بالإدارة الأميركية، إلى «رأس حربة» في الدعم الأوروبي لأوكرانيا. يضاف إلى ذلك، أن سالفيني، الذي يطالب منذ فترة بإنهاء العقوبات المفروضة على موسكو وبناء تحالف اقتصادي وسياسي بين أوروبا وروسيا، سبق له أن دخل البرلمان الأوروبي مرة وهو يرتدي قميصاً يحمل صورة لفلاديمير بوتين.
وحقاً، لم تنفع التطمينات المتكررة على لسان ميلوني وتأييدها للعقوبات والمساعدات العسكرية لأوكرانيا، في تهدئة خواطر الحلفاء الغربيين. والسبب أنها مضطرة إلى التحالف مع سالفيني وبرلوسكوني لتشكيل الحكومة الجديدة. وهذا، بينما يرتبط حزبها بتحالف وثيق مع رئيس الوزراء المجري اليميني المتطرف فيكتور أوربان الذي يقود حملة إنهاء العقوبات على روسيا داخل الاتحاد الأوروبي. وكانت ميلوني قد سعت أخيراً، عبر حلفائها في الحزب الجمهوري الأميركي، إلى «طمأنة» واشنطن حول موقفها من الحرب في أوكرانيا في حال وصولها إلى الحكومة. غير أن إدارة الرئيس بايدن ردّت بأنها ستبقي على حذرها في انتظار المواقف التي ستعلنها الحكومة الإيطالية الجديدة.

                                                                                      سالفيني
نحو إعادة تشكّل المشهد السياسي الإيطالي... في أعقاب «زلزال» الانتخابات الأخيرة
> على الصعيد الإيطالي الداخلي، أعادت الانتخابات الأخيرة خلط الأوراق مرة أخرى في المشهد السياسي، وفتحت الباب مجدداً أمام إعادة تشكيل التحالفات وظهور قوى سياسية جديدة أو اندثار بعضها. فالحزب الديمقراطي (يسار الوسط)، الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق إنريكو ليتّا، والمفترض أن يكون حزب المعارضة الرئيس ضد حكومة ميلوني، يجد نفسه أمام أزمة وجودية جديدة بعد الهزيمة التي مني بها في الانتخابات.
وفعلاً، دفعت الهزيمة الأمين العام إلى الدعوة لعقد مؤتمر استثنائي بهدف تجديد قيادته، والإعلان عن أنه لن يترشّح للمنصب مرة أخرى. ويذكر، أن هذا الحزب قام من ركام الحزب الشيوعي الإيطالي - الذي كان أقوى الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية قبل أن يندثر من المشهد السياسي – إلا أنه ما زال يعيد تشكيل ذاته تحت تسميات وشعارات مختلفة، ويبدّل تحالفاته مع قوى الوسط واليسار. ولقد شارك هذا الحزب في كل الحكومات التي تعاقبت على إيطاليا منذ سقوط حكومة برلوسكوني الرابعة والأخيرة في العام 2011. ومن ناحية أخرى، يعاني الحزب منذ سنوات من صراعات داخلية عميقة بين قياداته، أدت إلى انشقاق بعضهم نحو الوسط ونحو أقصى اليسار، في حين استقطبت «حركة النجوم الخمس» الشعبوية الناشئة نسبة كبيرة من شعبيته مكنتها من الفوز في الانتخابات الماضية عام 2018 حين حصلت على 33 في المائة من الأصوات.
غير أن «حركة النجوم الخمس» تعرّضت هي أيضاً للانقسام أخيراً عند سقوط حكومة ماريو دراغي، وانشقّ عنها زعيمها السابق ووزير الخارجية لويجي دي مايو... الذي خسر مقعده البرلماني في الانتخابات الأخيرة. ولكن رغم التوقعات التي كانت تشير إلى انهيار «الحركة»، فإنها تمكّنت من الصمود في وجه «إعصار ميلوني»، وحلّت في المرتبة الثالثة بعد «إخوان إيطاليا» والحزب الديمقراطي. وهذا واقع يفتح الباب أمام تشكّل التحالف الذي كان من المفترض أن يحصل مع الديمقراطيين، والذي كان السبيل الوحيد لانتزاع الانتصار من التحالف اليميني في الانتخابات.

                                                                                  برلوسكوني
وتشاء مفارقات المشهد السياسي الإيطالي، أن اللغز الأكبر يدور حول مصير تحالف الأحزاب اليمينية الذي حقق هذا الانتصار التاريخي في انتخابات الأحد الماضي. فالرابطة تشهد غلياناً في قواعدها المطالبة بتنحية سالفيني بعد تراجع شعبيتها والخسائر التي منيت بها في معظم معاقلها الشمالية على يد حلفائها في «إخوان إيطاليا»، في حين يتنامى التيار الذي يدعو للعودة إلى الجذور الإقليمية، حيث إن هذا الحزب كان قد تأسس كحركة انفصالية لأقاليم الشمال قبل أن يتسلّم سالفيني زمامه ويقرر توسيع امتداده على الصعيد الوطني، مستغلاً المشاعر المناهضة للهجرة التي سادت إيطاليا.
في هذه الأثناء، كان من المفاجآت التي حملتها الانتخابات الأخيرة أيضاً صمود حزب برلوسكوني الذي تنزف شعبيته منذ سنوات، والذي كان قد انشقّ عنه أخيراً عدد من قياداته البارزة بسبب مشاركته في مؤامرة إسقاط حكومة دراغي. وليس واضحاً بعد الموقع الذي سيحتله هذا الحزب في الحكومة الجديدة والخط الذي سينهجه برلوسكوني، الذي دأب على تسخير حزبه لتحقيق مآربه والدفاع عن مصالحه الشخصية.
وهكذا، يبقى حزب «إخوان إيطاليا» وزعيمته جيورجيا ميلوني المنكبّة على تهدئة خواطر الشركاء الأوروبيين، وعلى تشكيل الحكومة الجديدة التي من المفترض إلا يواجه عقبات كبيرة في ظل الغالبية البرلمانية التي حصل عليها الائتلاف اليميني. إلا أن السياسة الإيطالية سخيّة دائماً بالمكائد والمؤامرات التي جعلت من منصب رئيس الحكومة الأسرع زوالاً في أعصى البلدان الأوروبية على الحكم وأغناها بالمفاجآت.
وقبل أن ينقضي أسبوع واحد على الانتخابات التي بايعت ميلوني وحدها «ملكة غير متوجّة» على إيطاليا، ظهرت أمامها أولى العقبات من حليفها ماتّيو سالفيني، الذي أعلن أنه في حال عدم حصوله على حقيبة وزارة الداخلية ومنصب نائب الرئيس، لن يشارك في الحكومة، بل سيكتفي بتأييدها من الخارج، فاتحاً بذلك موسماً جديداً في «البازار السياسي» الإيطالي العريق.
ويبقى أيضاً، أن لغزاً كبيراً ما زال يحيط بمسار حزب «إخوان إيطاليا». إذ حرصت زعيمته ميلوني في الفترة الأخيرة على النأي عن تصريحاتها النارية والتأكيد على أنها ستحكم «بمسـؤولية ولكل الإيطاليين»، لكنها في المقابل، ذكّرت بأن الفوز الذي حققه هو نقطة البداية وليس نقطة الوصول. وتابعت أنها لن تخذل الذين انتخبوها «أولئك الذين بعد النصر، سيتمكنون من رفع رؤوسهم والجهر بما كانوا دائماً يفكرون ويـؤمنون به»، كما قالت في المهرجان الذي اختتمت به حملتها الانتخابية.


مقالات ذات صلة

باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

العالم باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

قالت وزارة الخارجية الفرنسية إنها تأمل في أن يُحدَّد موعد جديد لزيارة وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني بعدما ألغيت بسبب تصريحات لوزير الداخلية الفرنسي حول سياسية الهجرة الإيطالية اعتُبرت «غير مقبولة». وكان من المقرر أن يعقد تاياني اجتماعا مع وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا مساء اليوم الخميس. وكان وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان قد اعتبر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني «عاجزة عن حل مشاكل الهجرة» في بلادها. وكتب تاياني على «تويتر»: «لن أذهب إلى باريس للمشاركة في الاجتماع الذي كان مقررا مع الوزيرة كولونا»، مشيرا إلى أن «إهانات وزير الداخلية جيرالد دارمانان بحق الحكومة وإي

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم ألمانيا تشن حملة أمنية كبيرة ضد مافيا إيطالية

ألمانيا تشن حملة أمنية كبيرة ضد مافيا إيطالية

في عملية واسعة النطاق شملت عدة ولايات ألمانية، شنت الشرطة الألمانية حملة أمنية ضد أعضاء مافيا إيطالية، اليوم (الأربعاء)، وفقاً لوكالة الأنباء الألمانية. وأعلنت السلطات الألمانية أن الحملة استهدفت أعضاء المافيا الإيطالية «ندرانجيتا». وكانت السلطات المشاركة في الحملة هي مكاتب الادعاء العام في مدن في دوسلدورف وكوبلنتس وزاربروكن وميونيخ، وكذلك مكاتب الشرطة الجنائية الإقليمية في ولايات بافاريا وشمال الراين - ويستفاليا وراينلاند – بفالتس وزارلاند.

«الشرق الأوسط» (برلين)
يوميات الشرق إيطاليا ترفع الحظر عن «تشات جي بي تي»

إيطاليا ترفع الحظر عن «تشات جي بي تي»

أصبح برنامج «تشات جي بي تي» الشهير الذي طورته شركة الذكاء الاصطناعي «أوبن إيه آي» متاحا مجددا في إيطاليا بعد علاج المخاوف الخاصة بالخصوصية. وقالت هيئة حماية البيانات المعروفة باسم «جارانتي»، في بيان، إن شركة «أوبن إيه آي» أعادت تشغيل خدمتها في إيطاليا «بتحسين الشفافية وحقوق المستخدمين الأوروبيين». وأضافت: «(أوبن إيه آي) تمتثل الآن لعدد من الشروط التي طالبت بها الهيئة من أجل رفع الحظر الذي فرضته عليها في أواخر مارس (آذار) الماضي».

«الشرق الأوسط» (روما)
العالم إيطاليا في «يوم التحرير»... هل تحررت من الإرث الفاشي؟

إيطاليا في «يوم التحرير»... هل تحررت من الإرث الفاشي؟

في الخامس والعشرين من أبريل (نيسان) من كل عام تحتفل إيطاليا بـ«عيد التحرير» من النازية والفاشية عام 1945، أي عيد النصر الذي أحرزه الحلفاء على الجيش النازي المحتلّ، وانتصار المقاومة الوطنية على الحركة الفاشية، لتستحضر مسيرة استعادة النظام الديمقراطي والمؤسسات التي أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم. يقوم الدستور الإيطالي على المبادئ التي نشأت من الحاجة لمنع العودة إلى الأوضاع السياسية التي ساهمت في ظهور الحركة الفاشية، لكن هذا العيد الوطني لم يكن أبداً من مزاج اليمين الإيطالي، حتى أن سيلفيو برلوسكوني كان دائماً يتغيّب عن الاحتفالات الرسمية بمناسبته، ويتحاشى المشاركة فيها عندما كان رئيساً للحكومة.

شوقي الريّس (روما)
شمال افريقيا تعاون مصري - إيطالي في مجال الاستثمار الزراعي

تعاون مصري - إيطالي في مجال الاستثمار الزراعي

أعلنت الحكومة المصرية عن عزمها تعزيز التعاون مع إيطاليا في مجال الاستثمار الزراعي؛ ما يساهم في «سد فجوة الاستيراد، وتحقيق الأمن الغذائي»، بحسب إفادة رسمية اليوم (الأربعاء). وقال السفير نادر سعد، المتحدث الرسمي لرئاسة مجلس الوزراء المصري، إن السفير الإيطالي في القاهرة ميكيلي كواروني أشار خلال لقائه والدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء المصري، (الأربعاء) إلى أن «إحدى أكبر الشركات الإيطالية العاملة في المجال الزراعي لديها خطة للاستثمار في مصر؛ تتضمن المرحلة الأولى منها زراعة نحو 10 آلاف فدان من المحاصيل الاستراتيجية التي تحتاج إليها مصر، بما يسهم في سد فجوة الاستيراد وتحقيق الأمن الغذائي». وأ

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.