تحذير صارم من صندوق النقد الدولي، سياسات مالية ونقدية متناقضة، ذعر في الأسواق وتراجع كبير للعملة. لا... هذه ليست مؤشرات أزمة مالية في اقتصاد ناشئ، بل نتيجة ميزانية طارئة أقرّتها حكومة عضو في مجموعة الاقتصادات السبع الكبرى رغم تحفّظات بنكها المركزي. مهندس هذه السياسة، والمدافع الأكبر عنها، هو وزير الخزانة (المالية) البريطاني الجديد كواسي كوارتنغ الذي تسلّم مفاتيح «11 داونينغ ستريت» - حيث المقر الرسمي لشاغل هذا المنصب - قبل ثلاثة أسابيع، ضمن إحدى أكثر الحكومات تنوّعاً عرقياً ودينياً في تاريخ بريطانيا بقيادة ليز تراس. ولكن ما فتئ كوارتنغ أن تسلّم أهم حقيبة وزارية في الحكومة حتى بدأ يفقد ثقة زملائه في حزب المحافظين، وأخذت تسري همهمات وتكهنات مبكّرة حول قدرته على الصمود في وجه الفوضى التي عمّت الأسواق نتيجة سياساته المالية. فمن هو كوارتنغ؟ وهل تنجح سياساته الجريئة في استعادة النمو وإنعاش الاقتصاد، أم تنقلب عليه وتتسبب في سقوط مبكّر لحكومة تراس؟
ثمة مَن يقول، إنه لولا جذوره المهاجرة، لكانت مسيرة كواسي كوارتنغ التعليمية والمهنية نسخة من مسيرة غالبية كبار المحافظين البريطانيين منذ الحرب العالمية الثانية: تعليم ثانوي في كلية إيتون، أرقى مدارس بريطانيا وأعرقها، ودراسة جامعية حتى الدكتوراه في جامعتي كمبردج وهارفارد الشهيرتين، ومقالات رأي في صحيفة «الديلي تلغراف» المحافظة، وطموح سياسي مبكّر قاده إلى أعلى المناصب الوزارية قبل بلوغه سن الخمسين.
وُلد كواسي كوارتنغ في لندن عام 1975، لوالدين مهاجرين من غانا. وكان والده ألفريد خبيراً اقتصادياً في مكتب منظمة الكومنولث الرئيس في العاصمة البريطانية، في حين عملت والدته شارلوت محامية.
تميّز كوارتنغ بذكائه وتفوقه الدراسي منذ الطفولة. وبعد التحاقه بمدرسة إعدادية خاصة في لندن، فاز بمنحة دراسية أهّلته للانضمام إلى كلية إيتون. وبعد التفوق في إيتون، التحق بكلية «ترينيتي» أغنى كليات جامعة كمبردج وأشهرها، وتخرّج فيها بدرجة البكالوريوس. وفي أعقاب حصوله على درجة ماجستير من جامعة هارفارد إثر فوزه بمنحة «كنيدي»، قرّر العودة إلى كمبردج، حيث حصل على الدكتوراه في تاريخ الاقتصاد عام 2000.
العمل والسياسة
جاءت بداية كوارتنغ العملية مع توظيفه محللاً مالياً في بنك «جي بي مورغان» الأميركي، وكتابته مقالات رأي في صحيفة «الديلي تلغراف» القريبة جداً من فكر حزب المحافظين وقادته.
أما على صعيد ممارسة السياسة، فإنه انطلق في تجربته الانتخابية، كمعظم المرشحين الشباب الجددّ، عبر معركة في دائرة غير مضمونة الغاية، منها تدريبه واختباره في مواجهة الناخبين وعرض البرنامج الحزبي، والتمرس في تحمّل الجدل والتعامل مع الرأي الآخر. وبالفعل، خسر كوارتنغ معركتيه الانتخابيتين المبكرتين، قبل أن يضمن ترشيحه في معقد مضمون يُعد من معاقل المحافظين. إذ خسر في الانتخابات النيابية عام 2005 عن دائرة برنت إيست (في شمال غربي العاصمة)، ثم خسر في انتخابات مجلس لندن في عام 2008، لكن بعد هاتين التجربتين، حظي بترشح حزبه عن دائرة سبيلثورن في مقاطعة ساري - التي تعدّ من أبرز معاقل المحافظين في الطوق الريفي الأخضر المحيط بلندن وضواحيها - عام 2010، وبالفعل، حقق فوزه السهل المأمول.
القناعات اليمينية الصلبة عند النائب الجديد لم تتأخر في الظهور، بمجرّد دخول كوارتنغ، البالغ من العمر 35 سنة آنذاك مجلس العموم، هاجم سياسات حكومة غوردن براون العمالية، وحمّلها مسؤولية اقتصاد بريطانيا الهشّ عقب أزمة 2007 - 2009 المالية. لكن مع هذا لم يتسلّم كوارتنغ سوى منصبين وزاريين بارزين، قبل إعطائه حقيبة الخزانة. فكان أول منصب وزاري تسلّمه هامشياً في وزارة شؤون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي (بريكست) بين عامي 2018 و2019. بيد أنه حصل بعد ذلك على ترقية من طرف رئيس الحكومة (آنذاك) بوريس جونسون في يوليو (تموز) 2019، ليصبح وزير دولة للأعمال والطاقة والنمو الاقتصادي النظيف. ولاحقاً، تولّى بعد ذلك حقيبة وزير الدولة للأعمال والطاقة والاستراتيجية الصناعية، بين يناير (كانون الثاني) 2021 وحتى سبتمبر (أيلول) 2022.
وبخلاف عشرات الوزراء والمسؤولين الحكوميين، رفض كوارتنغ الاستقالة من حكومة جونسون التي أسقطتها سلسلة أزمات أخلاقية وسياسية. واختار دعم زميلته المحافظة ليز تراس (وزيرة الخارجية في حينه) إبان السباق الانتخابي لحزب المحافظين الصيف الماضي. وحقاً، كافأت تراس «ولاء» كوارتنغ لها، ومنحته حقيبة الخزانة خلفاً لناظم الزهاوي الذي صمد في هذا المنصب أقل من 3 أشهر.
واليوم، بعد 12 سنة من إلقائه أول كلمة في مجلس العموم، يقف كوراتنغ على الجانب الآخر من الانتقادات. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كوارتنغ هو رابع وزير خزانة على التوالي يتحدّر من جذور مهاجرة، بعد الزهاوي وريشي سوناك وساجد جاويد.
رهان خطير
«بريطانيا المتحرّرة: دروس عالمية للنمو والازدهار»، كتاب حمل توقيع كوارتنغ وتراس وثلاثة من زملائهما المحافظين، ناقش في عام 2012 أهمية تقليص تدخل الحكومة في الاقتصاد، وخفض الضرائب والمساعدات الاجتماعية، وتعزيز الحوافز المالية، كما انتقد «خمول» الموظّف البريطاني بعد دخوله سوق العمل.
أعطى هذا الكتاب، الذي اعتبره البعض مؤشراً مبكّراً على توجّه يميني متشدد جديد داخل حزب المحافظين، لمحة عن النظريات الاقتصادية التي تؤمن بها رئيسة الحكومة الجديدة ووزير خزانتها. ومع أن الاثنين غيّرا رأييهما حول بعض هذه السياسات، وفي طليعتها دور التدخل الحكومي عقب جائحة «كوفيد - 19» والارتفاع التاريخي في أسعار الطاقة، فإن بعض هذه الأفكار تُرجمت عملياً إلى «سياسات» في «الميزانية الطارئة» التي جرى إعلانها في 23 سبتمبر.
وعلى خلاف جميع التوقعات، أولت الميزانية المصغّرة التي استهلّ بها كوارتنغ مهامه الوزارية اهتماماً خاصّاً بتخفيف العبء الضريبي على أصحاب الدخل المرتفع، من دون توفير حوافز مماثلة للطبقات العاملة والمتوسطة التي تتحمل وزر إحدى أسوأ أزمات غلاء المعيشة منذ 4 عقود.
تعتمد هذه السياسة المالية، التي استعرضها كوارتنغ بثقة عالية، مدعوماً بتشجيع رئيسة الوزراء في مجلس العموم، على نظرية إنعاش النمو عبر تحفيز الاستثمار في رأس الهرم الاقتصادي. وبابتسامة تحدٍّ عريضة وصوت جهوري ينافس هتافات عشرات نواب المعارضة في المجلس، فصّل كوارتنغ ميزانيته الطموحة، كاشفاً عن إلغاء الحدّ الأعلى لمكافآت المصرفيين الذي كان قد وضعه رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون في أعقاب الأزمة المالية، وتخفيف ضريبة الدخل على الشريحة العليا من الرواتب؛ ما قد يكلّف بين مائة ومائتي مليار جنيه إسترليني وفق توقعات. كذلك، أعلن عن مساعدات كبيرة على صعيد فواتير الطاقة في خضم أزمة غلاء المعيشة، ستكلف بدورها عشرات المليارات، فضلاً عن تسهيلات عقارية.
إلا أن «الميزانية المصغّرة» الطارئة، التي كان الهدف منها تعزيز ثقة المستثمرين واجتذاب رؤوس الأموال، جاءت حتى الآن بنتائج عكسية، وتسببت في ذعر بالأسواق، وتراجع كبير في قيمة الجنيه أمام اليورو والدولار.
وبعد ساعات معدودة من خطاب كوارتنغ أمام النواب، سارع البنك المركزي إلى توجيه تحذير من تناقض السياسة النقدية الذي يتّبعها مع السياسة المالية للحكومة، مرجّحاً اللجوء إلى رفع أسعار الفائدة للسيطرة على منحى التضخم في البلاد.
صداقة مصلحة وقناعات
يكمن سرّ صعود كواسي كوارتنغ السريع في وستمنستر بعلاقته مع رئيسة الحكومة الحالية تراس التي تجمعه بها صداقة خاصة. فهما وُلدا في العام نفسه ودخلا المعترك السياسي في «دفعة عام 2010» نائبين عن حزب المحافظين، وطرحا نفسيهما نموذجاً لمستقبل الحزب. وإلى جانب توافقهما حول السياسات الاقتصادية والطريق الأمثل لتحقيق الازدهار، يتشارك السياسيان في إعجابهما الشديد بمارغريت ثاتشر؛ إذ قدّمت تراس نفسها نسخة معاصرة لـ«المرأة الحديدية»، في حين خصّص كوراتنغ كتاباً كاملاً للأشهر الستة الأخيرة من حكمها.
وعلى غرار غالبية، إن لم يكن جلّ، السياسيين الذين شغلوا مناصب في حكومات جونسون المتعاقبة، دافع كل من تراس وكوارتنغ عن «بريكست» وروّجا لأهمية تحرير البلاد من قيود الاتحاد الأوروبي واستعادة مكانة بريطانيا في الساحة الدولية.
واليوم، على الرغم من موجة الانتقادات الداخلية والخارجية لسياسات كوارتنغ، أكّدت تراس ثقتها بوزير الخزانة ونجاح الميزانية المصغّرة في إنعاش الاقتصاد. إلا أن بعض دوائر المحافظين بدأت تتساءل عما إذا كان كوارتنغ يهدد فرص الحزب للفوز بالانتخابات التشريعية المرتقبة بعد سنتين. ولقد بدأ أول ملامح «التمرد» على حكومة تراس في الظهور، بعدما أعلن عدد من النواب البارزين «مقاطعة» مؤتمر حزب المحافظين المرتقب في مدينة برمنغهام، وفي مقدّمتهم وزير الخزانة الأسبق ريشي سوناك ووزير «بريكست» السابق ديفيد ديفيس.
«العمال»... الرابح الأكبر؟
لعّل أبرز المستفيدين من التخبط الاقتصادي الحالي هو حزب العمال المعارض، الذي ارتفعت شعبيته إلى أعلى مستوى منذ عقدين. والحق أن السير كير ستارمر، زعيم المعارضة العمالية، لم يتردّد في استغلال الموقف وتقديم نفسه بديلاً لتراس، مبدياً جهوزيته لإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية. واعتبر ستارمر خلال مؤتمر حزبه بمدينة ليفربول هذا الأسبوع أن تراس وكوارتنغ «فقدا السيطرة على الاقتصاد البريطاني»، في ضوء تسارع التضخم ومخاوف الركود وتراجع العملة.
وفي غياب كوارتنغ عن الإعلام منذ إعلانه الميزانية الجمعة الماضية، علّق ستارمر على التراجع التاريخي للعملة، متسائلاً «لماذا (هذا التراجع)؟ من أجل اقتطاعات ضريبية للأثرياء البالغة نسبتهم واحداً في المائة في مجتمعنا»؟ وخاطب الناخبين مستنهضاً هممهم «لا تنسوا، ولا تسامحوا... السبيل الوحيد لوقف ذلك هو مع حكومة عمالية». ثم تابع «ما رأيناه من الحكومة في الأيام القليلة الماضية لا سابق له»، متعهداً في المقابل الاستثمار في الرعاية الصحية والتعليم ووضع «خطة رخاء أخضر» لمكافحة تغير المناخ.
وإلى جانب الاستياء السياسي والشعبي من التداعيات المباشرة للميزانية، تسبب إعلان كوارتنغ في ردود فعل غير مسبوقة من البنك المركزي وصندوق النقد الدولي ووكالات ائتمانية. إذ اضطر بنك إنجلترا (البنك المركزي) إلى التدخل بشكل طارئ في مواجهة «مخاطر فعلية على الاستقرار المالي البريطاني». وقال في بيان نادر الأربعاء، إن «البنك سيقدم على شراء سندات حكومية ذات آجال استحقاق طويلة» بهدف «إعادة الظروف الطبيعية إلى السوق»، موضحاً أن هذه العملية «ستكون ممولة بالكامل من قبل وزارة الخزانة».
وأضاف البنك في معرض تبرير تدخله، أن «حركة السوق تفاقمت منذ يوم (الثلاثاء) وتؤثر بشكل خاص على الدَّين الطويل الأمد. وإذا ما استمر هذا الخلل في عمل السوق أو تفاقم فهذا سيتسبب بخطر فعلي على الاستقرار المالي لبريطانيا».
وفي بيان آخر طبعته لهجة غير مسبوقة، دعا صندوق النقد الدولي حكومة تراس إلى تصحيح المسار. وجاء في البيان «نظرا للضغوط التضخمية المرتفعة في عدة دول، بما يشمل بريطانيا، لا نوصي بإجراءات موازنة كبرى غير مموَّلة، لأنه من المهم ألا تقطع السياسة المالية الطريق على السياسة النقدية». وتابع بيان الصندوق، أن «الموازنة المرتقبة في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) تقدم فرصة للحكومة البريطانية لإعادة تقييم إجراءاتها الضريبية، وخصوصاً تلك التي تستهدف العائدات الأعلى»، والتي من شأنها أن «تزيد التفاوت» الاجتماعي.