مهرجان «غلاستونبري» للموسيقى ينطلق في بريطانيا على مائة مسرح

يستقطب أكثر من 175 ألف شخص على مدى الأيام الخمسة

جانب من الحفل السابق
جانب من الحفل السابق
TT

مهرجان «غلاستونبري» للموسيقى ينطلق في بريطانيا على مائة مسرح

جانب من الحفل السابق
جانب من الحفل السابق

ينطلق الأربعاء المقبل مهرجان غلاستونبري للموسيقى في جنوب بريطانيا وهو من الأهم في العالم، بمشاركة كانييه ويست وفرقة «هو» و«فلورنس أند ذي ماشين» في هذه الدورة التي شهدت انسحاب فرقة «فو فايترز» في اللحظة الأخيرة بسبب إصابة مغنيها بكسر.
وفي دليل على الشعبية الواسعة لهذا المهرجان بيعت في غضون 26 دقيقة فقط البطاقات الـ150 ألفا المخصصة له بسعر 225 جنيها إسترلينيا للبطاقة (315 يورو) في أكتوبر (تشرين الأول) حتى قبل الكشف عن برنامج المهرجان الذي يقام منذ عام 1970 على أراضي مزرعة وورذي في منطقة سمرسيت في جنوب غربي إنجلترا، حسب تقرير لـ«رويترز».
ويتوقع أن يستقطب مهرجان غلاستونبري وهو وريث وودستوك ويعد من أكبر المهرجانات العالمية في الهواء الطلق، من الأربعاء إلى الأحد أكثر من 175 ألف شخص (مع الدعوات والبطاقات الإضافية) لحضور مئات الحفلات والعروض الفنية على نحو مائة مسرح مختلف.
وعلى مدى الأيام الخمسة ينتظر مشاركة ماري جاي بلايدج وموتور هيد وفاريل ويليامز وجورج إيزرا وذي ووتربويز وتكساس وبن هاورد وليونيل ريتشي وذي هو وباتي سميث وهوزيير وكيميال بروذيرز وتريكي وريان آدامز وغيرهم.
وكان مهرجان غلاستونبري أحدث تغييرا كبيرا عام 2008 بدعوته مغني الراب الأميركي جاي زي الذي كان أول نجم من موسيقى الهيب هوب يقدم عرضا رئيسيا في هذا المهرجان المطبوع بأجواء الروك والهيبي.
ويتواصل الانفتاح هذه السنة مع كانييه ويست الذي سيغني على المسرح الرئيسي مساء السبت. إلا أن هذا القرار لا يلقى تأييدا كاملا فقد وقع حتى الآن أكثر من 134 ألف شخص عبر الإنترنت عريضة تدعو إلى سحب مغني الراب من برنامج المهرجان.
وجاء في نص العريضة «يشكل كانييه ويست إهانة لعشاق الموسيقى في العالم بأسره. لقد أنفقنا مئات الجنيهات لحضور حفلات غلاستونبري وكنا نتوقع مستوى معينا»، داعيا إلى منع «هذا الظلم الموسيقي».
وأكدت إحدى منظمات المهرجان إميلي إيفيس أنها تلقت تهديدات بالقتل موضحة «كان الأمر رهيبا ومجرد جنون. وكان الأمر محبطا أيضا لأننا نتحدث عن شيء مثير للحماسة وللاهتمام يضفي نضارة على المهرجان».
وأضافت ابنة مايكل إيفيس المزارع البالغ 79 عاما الذي أسس المهرجان: «يقدم كانييه ويست الموسيقى الأكثر إثارة للحماسة راهنا. بالنسبة لنا التعاقد مع أكبر نجم في العالم كان أمرا رائعا».
ومن المفاجآت الأخرى انسحاب فرقة «فو فايترز» الأسبوع الماضي من الحفلة الرئيسية الجمعة المقبل بسبب إصابة مغنيها ديفيد غرول بكسر في الساق.
سيحل مكان «فو فايترز»، فرقة «فلورنس أند ذي ماشين» مع المغنية فلورنس ويلش.
وكان من المقرر أن تغني هذه الفرقة البريطانية على المسرح نفسه قبل «فو فايترز». وقد تسكت مشاركتها الآن كفرقة رئيسية بعض الأصوات المنتقدة لغياب التمثيل النسائي في الحفلات الرئيسية للمهرجانات الموسيقية الكبرى في العالم.
إلا أن غلاستونبري الذي أسس غداة وفاة جيمي هندريكس وقد جمعت دورته الأولى 1500 شخص بسعر جنيه واحد للبطاقة، لا يكتفي بالموسيقى. فهو على جري العادة حافظ على المنصات المخصصة للعروض المسرحية والشعر والسيرك.
وستكون السياسة والدفاع عن البيئة وقضايا المرأة من محاور المهرجان مع وجود الفرقة الروسية «بوسي رايوت» وفسحات مكرسة لغرينبيس ووتر إيد وأوكسفام وغيرها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)