الأمم المتحدة... المسرح التراجيدي العقيم

الأمين العام للأمم المتحدة يخاطب الجمعية العامة الثلاثاء (رويترز)
الأمين العام للأمم المتحدة يخاطب الجمعية العامة الثلاثاء (رويترز)
TT

الأمم المتحدة... المسرح التراجيدي العقيم

الأمين العام للأمم المتحدة يخاطب الجمعية العامة الثلاثاء (رويترز)
الأمين العام للأمم المتحدة يخاطب الجمعية العامة الثلاثاء (رويترز)

يقول الكاتب الأميركي هال برندز في كتابه «الدروس في التراجيديا» إن هدف المسرح الإغريقي التراجيدي لم يكن للتسلية مطلقاً، بل كان للتذكير بأن التراجيديا في حياة الأمم هي القاعدة، والاستثناء هو السلام والاستقرار والرخاء.
هكذا يمر الموعد السنوي لتراجيديا الأمم المتحدة، وهي منبر للتذكير بمشاكل ومآسي العالم، وتعكس موازين القوى بين القوى العظمى والكبرى، والتي كانت سبب وعلة وجودها، وفيها يسعى الكل إلى «تجريد» المفاهيم، من حقوق الإنسان، إلى السلام، إلى الحرب العادلة، إلى القيم الأخلاقية، وإلى النماذج السياسية الأفضل لحكم الإنسان. لكن في العمق، هي وحش الفيلسوف هوبز (Leviathan). ففي الأمم المتحدة تنتظم وتنضبط «ما دون الأنا الإنسانية»، لكن لفترة وجيزة لا تتعدى مدة انعقاد الاجتماع السنوي. وهو موعد مهم وضروري، لأنه يمنح المتقاتلين والمتصارعين فترة استراحة، ومنها يخرج الكل منتصراً. فالغازي يبرر غزوه، والضحية تعرض مآسيها على المسرح الكوني. وفي هذا الاجتماع يقال ويفعل ما لا يقال ويفعل. ففي العام 1960، ضرب الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف منبر الأمم المتحدة بحذائه، اعتراضاً على خطاب ممثل وفد الفلبين الذي اتهم الاتحاد السوفياتي بالاستعمار (هناك الكثير من الروايات حول هذه الحادثة).
وفي العام 1962، في بداية الأزمة الكوبية، كمن الدبلوماسي الأميركي أدلاي ستيفنسون لممثل الاتحاد السوفياتي عندما سأله: «هل لديكم صواريخ نووية في كوبا؟» فكان الرد بـ«كلا». وكرر ستيفنسون السؤال، وكان الرد السوفياتي أيضاً بـ«كلا». عندها، عرض ستيفنسون الصور الجوية للصواريخ السوفياتية في كوبا. وبررت هذه الحادثة كل السياسات التي اعتمدها الرئيس كيندي للخروج من الأزمة.
- اجتماع هذا العام
يعاني العالم اليوم من الكوارث التالية: الجائحة وما خلفته، أزمة المناخ، والحرب الروسية على أوكرانيا. ولأن الجيوسياسة تحتل دائماً مركز الصدارة في اهتمامات الدول، فمن البديهي أن تأخذ الحرب على أوكرانيا الحيز الأكبر من «كوريوغرافيا» المسرح الأممي. في هذا الاجتماع، قدم الرئيس الفرنسي نفسه على أنه صانع سلام، فانتقد الحرب على أوكرانيا لأنها تعني العودة إلى «الإمبريالية».
وتعكس الأمم المتحدة في تركيبتها موازين القوى العالمية. فإن تبدلت هذه الموازين، يختل عمل هذه المرجعية. إذ كيف يمكن تفسير حق «الفيتو» لخمس دول عالمية فقط؟ فهل بريطانيا أو فرنسا أقدر وأكبر من الهند أو اليابان؟
في هذه المنظومة، إذا اتفق الكبار يدفع من تبقى من العالم الثمن بطريقة نسبية. وإذا اختلفوا، يدفع العالم أيضاً الثمن. ألا يدفع العالم اليوم ثمن الحرب على أوكرانيا في الغذاء والطاقة والاستقرار؟ ما يقرره الكبار بين بعضهم البعض، يترجم عادة في المؤسسات الدولية بطريقة مباشرة ودون اعتراض ممن ليس لديهم القدرة على الاعتراض.
فخلال الحرب الباردة، أرادت الولايات المتحدة الخروج من المستنقع الفيتنامي، وفي نفس الوقت أرادت شرذمة العالم الشيوعي، فكانت زيارة نيكسون وكيسنجر إلى الصين للقاء ماو تسي تونغ، الزعيم الصيني المتسبب بمقتل الملايين من الصينيين، فحدث الشرخ الشيوعي، وكانت المكافأة الأميركية لماو بمنحه مقعداً دائماً في مجلس الأمن بدل تايوان (فورموزا).
تبدل العالم بعد هذه الزيارة، وأصبح، كما قال البعض، عالما ثلاثي الأقطاب.
بعد ماو، أتى الزعيم الصيني دينغ تشاو بينغ خلفاً له، فاعتمد سياسة الانفتاح على العالم. وأوصلت هذه السياسة الصين إلى ما هي عليه اليوم، أي ثاني اقتصاد في العالم، والمنافس الأساسي للولايات المتحدة الأميركية.
- عامل الخوف
عالم اليوم هو استمرار لعالم الأمس، مع الكثير من التعديلات. فنحن لسنا في عالم جديد، لأن معالمه لم تتضح بعد، كما لا يوجد توافق على ملامحه من الجبابرة. فهناك قوى تغيير جذري في العالم، مقابل قوى تريد الحفاظ على «الستاتيكو». إذاً، ما الذي يجبر القوى العظمى والكبرى على الجلوس إلى الطاولة لرسم قواعد النظام الجديد، أو تعديل قواعد النظام القديم؟
قد يكون الجواب بسيطاً ومن كلمة واحدة هي «الخوف». الخوف من الدمار الشامل، الخوف من نهاية العالم، الخوف من خسارة الدور، الخوف من الإبادة. فهل وصل العالم إلى هذه الدرجة من الخوف؟ الجواب «كلا». لكننا حتماً في مسار يراكم مسببات كثيرة وخطيرة ستؤدي حتماً إلى «الخوف». لكن مهلاً، وبالانتظار، من سيدفع الأثمان؟


مقالات ذات صلة

ترمب: إيفانكا رفضت أن تصبح سفيرة لدى الأمم المتحدة وفضّلت توفير فرص عمل للملايين

الولايات المتحدة​ دونالد ترمب وابنته إيفانكا (إ.ب.أ)

ترمب: إيفانكا رفضت أن تصبح سفيرة لدى الأمم المتحدة وفضّلت توفير فرص عمل للملايين

قال الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب، إن ابنته إيفانكا كان ينبغي أن تكون سفيرة للأمم المتحدة، و«القادة الأكثر روعة» يأتون من أسكوتلندا مثل والدته.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي برّي يتحدّث في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر (رئاسة البرلمان)

برّي يؤكد تمسّك لبنان بالـ«1701»: الطرف المطلوب إلزامه به هو إسرائيل

أكد رئيس البرلمان اللبناني نبيه برّي التزام لبنان بنود ومندرجات القرار الأممي رقم 1701، وتطبيقه حرفياً، مشيراً إلى أن الطرف الوحيد المطلوب إلزامه به هو إسرائيل.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي جندي من قوات «يونيفيل» يراقب من مرجعيون الحدودية في جنوب لبنان بلدتي الخيام اللبنانية والمطلة الإسرائيلية (إ.ب.أ)

ارتياح بعد تمديد ولاية «يونيفيل»: لبنان تحت المظلة الدولية

أرخى تمديد مجلس الأمن لمهمة قوات حفظ السلام الدولية العاملة في جنوب لبنان (يونيفيل) ارتياحاً لبنانياً؛ كونه يؤشر إلى أن الغطاء الدولي لا يزال موجوداً فوق لبنان.

نذير رضا (بيروت)
أوروبا ممثل الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل (د.ب.أ)

الاتحاد الأوروبي ملتزم بتوفير المساعدات لأوكرانيا من الأصول الروسية المجمَّدة

كشف الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية أن الاتحاد الأوروبي سيمضي في تعهده بتوفير المساعدات لأوكرانيا من أصول البنك المركزي الروسي.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
شمال افريقيا صورة أرشيفية لمتطوع يوزّع الطعام في أحد أحياء أم درمان بالسودان (رويترز)

«الأغذية العالمي» يحقق في «شبهة تحايل» لعملياته بالسودان

شرع برنامج الأغذية العالمي في التحقيق مع اثنين من كبار مسؤوليه بالسودان في مزاعم بالتحايل وإخفاء معلومات على المانحين حول قدرته على توصيل المساعدات الغذائية.

أحمد يونس (نيروبي)

كندا: نساء من السكان الأصليين يسعين لتفتيش موقع اختبارات سابق لـ«سي آي إيه»

عالم الأنثروبولوجيا فيليب بلوين والناشطتان من أقلية الموهوك كاهنتينثا وكويتييو أمام مسبح هنري ويليام مورغان في معهد ألين التذكاري في 17 يوليو 2024 في مونتريال - كندا (أ.ف.ب)
عالم الأنثروبولوجيا فيليب بلوين والناشطتان من أقلية الموهوك كاهنتينثا وكويتييو أمام مسبح هنري ويليام مورغان في معهد ألين التذكاري في 17 يوليو 2024 في مونتريال - كندا (أ.ف.ب)
TT

كندا: نساء من السكان الأصليين يسعين لتفتيش موقع اختبارات سابق لـ«سي آي إيه»

عالم الأنثروبولوجيا فيليب بلوين والناشطتان من أقلية الموهوك كاهنتينثا وكويتييو أمام مسبح هنري ويليام مورغان في معهد ألين التذكاري في 17 يوليو 2024 في مونتريال - كندا (أ.ف.ب)
عالم الأنثروبولوجيا فيليب بلوين والناشطتان من أقلية الموهوك كاهنتينثا وكويتييو أمام مسبح هنري ويليام مورغان في معهد ألين التذكاري في 17 يوليو 2024 في مونتريال - كندا (أ.ف.ب)

تأمل مجموعة من النساء من السكان الأصليين في وقف أعمال البناء في موقع مستشفى سابق في مونتريال بكندا، يعتقدن أنه قد يكشف حقيقة ما جرى لأبنائهن المفقودين عقب تجارب لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قبل نصف قرن.

وتسعى تلك النسوة منذ عامين لتأخير مشروع البناء الذي تقوم به جامعة ماكغيل وحكومة كيبيك، وفق ما نقلته «وكالة الصحافة الفرنسية».

وتعتمد الناشطات على محفوظات وشهادات تشير إلى أن الموقع يحتوي على قبور مجهولة لأطفال كانوا في مستشفى رويال فيكتوريا ومعهد آلان ميموريال، مستشفى الأمراض النفسية المجاور له.

في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وخلف جدران المعهد القديم الباهتة، قامت الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) بتمويل برنامج أطلق عليه الاسم الرمزي «إم كي ألترا».

خلال الحرب الباردة كان البرنامج يهدف إلى تطوير الإجراءات والعقاقير لغسل أدمغة الناس بطريقة فعالة.

أُجريت التجارب في بريطانيا وكندا والولايات المتحدة على أشخاص، من بينهم أطفال من السكان الأصليين في مونتريال، أُخضعوا لصدمات كهرباء وعقاقير هلوسة وحرمان من الأحاسيس.

ورأت كاهنتينثا الناشطة البالغة 85 عاماً من سكان موهوك بكاناواكي جنوب غربي مونتريال، وهي شخصية رائدة في حركة حقوق السكان الأصليين سافرت إلى بريطانيا والولايات المتحدة للتنديد بالاستعمار، أن هذه الحرب «أهم شيء في حياتها».

وقالت: «نريد أن نعرف لماذا فعلوا ذلك ومن سيتحمل المسؤولية».

أعمال أثرية

في خريف 2022، حصلت الناشطات على أمر قضائي بتعليق أعمال بناء حرم جامعي جديد ومركز أبحاث في الموقع، مشروع تبلغ كلفته 870 مليون دولار كندي (643 مليون دولار أميركي).

وقالت الناشطة كويتييو (52 عاماً) إن نساء المجموعة يصررن على أن يرافعن في القضية بأنفسهن من دون محامين؛ «لأن بحسب طرقنا، لا أحد يتحدث نيابة عنا».

في الصيف الماضي، أُحضرت كلاب مدربة ومجسّات للبحث في المباني المتداعية في العقار الشاسع. وتمكنت الفرق من تحديد ثلاثة مواقع جديرة بإجراء عمليات حفر فيها.

لكن بحسب ماكغيل ومؤسسة كيبيك للبنى التحتية التابعة للحكومة، «لم يتم العثور على بقايا بشرية».

وتتهم الأمهات من شعب الموهوك الجامعة ووكالة البنى التحتية الحكومية بانتهاك اتفاقية من خلال اختيار علماء آثار قاموا بعملية البحث قبل إنهاء مهمتهم في وقت مبكر جداً.

وقال فيليب بلوان، وهو عالم أنثروبولوجيا يتعاون مع الأمهات: «أعطوا أنفسهم سلطة قيادة التحقيق في جرائم يحتمل أن يكون قد ارتكبها موظفوهم في الماضي».

ورغم رفض الاستئناف الذي قدمته الأمهات، في وقت سابق هذا الشهر، تعهدن بمواصلة الكفاح.

وقالت كويتييو: «على الناس أن يعرفوا التاريخ؛ كي لا يعيد نفسه».

تنبهت كندا في السنوات القليلة الماضية لفظائع سابقة.

فقد أُرسل أجيال من أطفال السكان الأصليين إلى مدارس داخلية حيث جُرّدوا من لغتهم وثقافتهم وهويتهم، في إطار ما عدّه تقرير الحقيقة والمصالحة في 2015 «إبادة ثقافية».

بين 1831 و1996 أُخذ 150.000 من أطفال السكان الأصليين من منازلهم ووُضعوا في 139 من تلك المدارس. وأُعيد بضعة آلاف منهم إلى مجتمعاتهم.