مر 11 يوماً من الحزن والحداد على وفاة الملكة إليزابيث الثانية، ليأتي يوم الجنازة الذي يشكل تحولاً ومنعطفاً في تدوين التاريخ بعدما طوت بريطانيا صفحة وحقبة ملكية تجلت بتربع الملكة إليزابيث الثانية على عرش المملكة لمدة سبعين عاماً وهبت خلالها حياتها في خدمة الشعب.
وعلى الرغم من التحضير المسبق للجنازة، وسن الملكة الطاعن، فإن للموت رهبته، فبمجرد أن خرج نعش الملكة من قصر ويستمنستر، شعر الناس بأنها هذه هي اللحظة المفصلية الحقيقية التي تودع فيها بريطانيا ملكتها. الأجراس قرعت أثناء عبور الموكب المهيب الطريق المؤدي إلى كاتدرائية ويستمنستر. ورافق النعش، الذي وضع على عربة مدفع حمل عليها في الماضي جثمان الملك جورج والد الملكة، الملك تشارلز الثالث الذي كان يحبس دموعه وهو يمشي وراء العربة إلى جانب ولي العهد الأمير وليام، والأمير هاري والأمير أندرو والأمير إدوارد والأميرة آن. ولوحظ أن الأمير هاري وعمه الأمير أندرو لم يرتديا البدلة العسكرية والسبب يعود كونهما لم يعودا من ضمن أفراد العائلة المالكة العاملة.
الفترة التي تربعت فيها الملكة على عرش بريطانيا كانت الأطول، وانتظار الملك تشارلز لتولي العرش كان الأطول، فهو الأكبر سناً بين ملوك بريطانيا، في حين شارك في الجنازة أيضاً أفراد من العائلة المالكة الأصغر سناً، وهما الأمير جورج والأميرة شارلوت ابنا الأمير وليام وزوجته كيت أميرة ويلز. وظهر الطفلان وهما يسيران خلف النعش وسط أفراد العائلة المالكة، في غياب أخيهما لويس الصغير، البالغ من العمر 4 سنوات.
وقالت الصحف البريطانية إن الأميرة كيت والأمير وليام، قد فكرا كثيراً بشأن إمكانية مشاركة أطفالهما في الجنازة، قبل أن يقررا بأن جورج وشارلوت قادران على توديع الملكة، وفي مرحلة عمرية تسمح لهما بفهم طبيعة العزاء والموت. ولفّ نعش الملكة براية الملكية أو ما يعرف باسم «Royal Standard»، ووضعت عليه الكرة الذهبية، والصولجان والتاج.
وتميزت الفترة الطويلة لعهد الملكة إليزابيث الثانية بإخلاصها اللامتناهي لدورها وبعزيمتها الصلبة في تكريس حياتها للعرش ولشعبها. ونظراً لعمرها الطويل، فقد عاصرت كثيراً من الأحداث العالمية والمحلية، وبعضها كان مفصلياً وأثر مباشرة في مسار حياتها.
القسم الأول من الجنازة التي أقيمت في كاتدرائية ويستمنستر كان بمثابة صلاة وقراءات جاء معظمها من الكتاب المقدس، فالملكة كانت معروفة بإيمانها المترسخ فيها، فأنشد المشاركون في الجنازة الترنيمة التي تم غناؤها وعزفها في حفل زفاف الملكة الذي حصل داخل الكاتدرائية نفسها عام 1947.
وتلا رئيس أساقفة كانتربري، جاستن ويلبي، موعظة دينية مع بداية مراسم جنازة الملكة إليزابيث الثانية. واستهل الأسقف موعظته بالقول إن «النمط الذي تتميز به سير كثير من الزعماء هو التعظيم في حياتهم والنسيان بعد موتهم. أما بالنسبة لمن يخدمون الرب، سواء كانوا مشهورين ويحظون بالاحترام أو غير معروفين ومجهولين، فإن الموت هو الباب المؤدي للمجد».
وأضاف الأسقف: «إن جلالة الملكة قالت أثناء عيد ميلادها الحادي والعشرين إنها ستكرس حياتها لخدمة البلاد والكومنولث، لتلتزم بذلك الوعد الذي نادراً ما يلتزم به من يقطعه على نفسه».
وحمل النعش عناصر من البحرية الملكية مع الإشارة إلى وزنه الثقيل الذي يبلغ نحو 250 كلغ، لأنه مصنوع من خشب البلوط الإنجليزي من الخارج، في حين أنه مبطن بالرصاص، وهو تصميم تقليدي لأفراد العائلة المالكة، وفقاً للتقارير. كما يشار إلى أنه تم التحضير لهذا النعش مسبقاً، أي عندما كانت الملكة لا تزال على قيد الحياة. والسبب في استخدام الرصاص لأنه يمنع تسرب الهواء والرطوبة إلى داخل النعش، ما يساعد في الحفاظ عليه.
يقول الخبراء إن التوابيت محكمة الإغلاق لها أهمية خاصة عندما توضع فوق الأرض.
ويبدو أن تصميم نعش الملكة قد تم تأكيده من قبل أندرو ليفرتون، من شركة «Leverton & Sons»، الشركة التي تعمل لصالح العائلة المالكة. وعادة ما تقام الجنازات الملكية في كنيسة القديس جورج بقصر ويندسور، ولكن لم يكن من الممكن بأن تستوعب الحضور الذي بلغ عدده ألفي شخص، ولذا جرت مراسم الصلاة الأولية في ويستمسنتر، ليقام فترة المساء قداس الجنازة التقليدي بحضور 800 شخص فقط من المقربين من أفراد العائلة المالكة وبعض العاملين في قصور الملكة.
ولقلعة ويندسور مكانة خاصة في قلب الملكة، ولو أنها تملك 40 مسكناً ملكياً في البلاد. فعندما كانت الملكة في سن المراهقة تم إرسالها إلى القلعة خلال سنوات الحرب، حيث واجهت لندن خطر القصف، ومؤخراً جعلتها مسكنها الدائم خلال جائحة فيروس كورونا. كما تربطها علاقة جميلة بسكان المنطقة الذين يطلقون عليها اسم الـ«جارة»، لأنهم اعتادوا على رؤيتها في بعض الأحيان، خصوصاً عندما كانت تمطي حصانها في محيط القصر.
كنيسة سانت جورج هي الكنيسة التي تختارها العائلة المالكة بانتظام لحفلات الزفاف والتعميد والجنازات. وهناك تزوج دوق ودوقة ساسكس، الأمير هاري وميغان، في عام 2018، وحيث أقيمت جنازة زوج الملكة الراحل الأمير فيليب. وعندما يُبعد المسؤول عن المجوهرات الملكية التاج والكرة الملكية والصولجان من أعلى التابوت، لتوضع على وسائد مخصصة لها، تكون هي اللحظة التي تفصل الملكة عن تاجها للمرة الأخيرة. وفي نهاية الترنيمة الأخيرة، يضع الملك علم حراس «غرينادير» على التابوت. وهم أكبر حراس المشاة الذين يقومون بواجبات احتفالية للملك. لينزل بعدها التابوت إلى القبو الملكي لتجتمع الملكة مجدداً بزوجها وحب حياتها الأمير فيليب الذي توفي العام الماضي.