أوروبا تراهن على «شتاء معتدل» لمواجهة أزمة الطاقة

تقرير داخلي: دول الاتحاد لا تملك إمكانات كافية لتحويل الغاز المسيَّل

ألمان تظاهروا احتجاجاً على ارتفاع فواتير الطاقة في مدينة فرانكفورت أمس (رويترز)
ألمان تظاهروا احتجاجاً على ارتفاع فواتير الطاقة في مدينة فرانكفورت أمس (رويترز)
TT

أوروبا تراهن على «شتاء معتدل» لمواجهة أزمة الطاقة

ألمان تظاهروا احتجاجاً على ارتفاع فواتير الطاقة في مدينة فرانكفورت أمس (رويترز)
ألمان تظاهروا احتجاجاً على ارتفاع فواتير الطاقة في مدينة فرانكفورت أمس (رويترز)

إنه الشتاء الأخير الذي ستكون فيه أوروبا تحت رحمة ابتزاز موسكو، بوقف إمدادات الطاقة واحتمال افتعالها أزمة اقتصادية واجتماعية على نطاق واسع في بلدان الاتحاد الأوروبي؛ لكنه الشتاء الذي يرتعد الأوروبيون منه خوفاً لما يمكن أن يحمله، إذا جاء قاسياً، أو إذا فشلت جهود التعبئة والاستعداد لتأمين الاحتياجات الاستهلاكية حتى مطالع الربيع المقبل. هذا ما يُستفاد من تقرير داخلي وضعته المفوضية الأوروبية، واطلعت عليه «الشرق الأوسط»، وسيُعرض على الاجتماع الاستثنائي الذي سيعقده المجلس الأوروبي للطاقة أواخر الشهر الحالي في بروكسل، لوضع استراتيجية مشتركة من أجل مواجهة النقص الحاد في إمدادات الغاز واحتواء تداعياته التي بدأت تهدد بإقفال مئات الشركات والمصانع، وتسريح مئات الآلاف من العمال، في بلدان الاتحاد الأوروبي.
ويشير التقرير إلى أن المشكلة الرئيسية ليست كامنة في قلة الإمدادات البديلة، بقدر ما هي ناجمة عن عدم كفاية القدرة على إعادة تحويل المادة المسيّلة إلى غاز جاهز للاستهلاك بعد استيرادها وتخزينها. ويقدّر خبراء المفوضية أنه حتى في حال بلوغ المخزون الأوروبي كامل قدرته الاستيعابية مطلع الشهر المقبل -وهو التاريخ الذي يبدأ فيه موسم التدفئة في بلدان أوروبا الوسطى والشمالية- فإنه لن يكفي لتلبية الاحتياجات المتوقعة حتى نهاية السنة الجارية، علماً بأن هذه التقديرات تنسحب على المتوسط الأوروبي وتتفاوت بين دولة وأخرى.
بعض البلدان الأوروبية تملك قدرة كافية على تحويل الكميات اللازمة لاستهلاكها الصناعي والمنزلي، بينما يتفاوت الطلب على الغاز بين الدول الأعضاء بتفاوت مناخها، أو بنسبة اعتمادها عليه لإنتاج الكهرباء، ما يستدعي تنسيقاً وتضامناً لا تبدو جميع العواصم الأوروبية مستعدة له في الوقت الراهن.
وتفيد البيانات الحالية بأن بلداناً مثل بلجيكا والبرتغال والسويد بلغت مؤخراً أقصى قدراتها على تخزين الغاز المسيّل؛ لكنها ليست قادرة على تلبية احتياجاتها أبعد من الأسابيع الثلاثة المقبلة. أما بلدان أخرى، مثل سلوفاكيا والنمسا وهولندا والمجر، فهي قادرة على سدّ احتياجاتها لأربعة أشهر، حتى في حال الوقف التام لتدفق الغاز من روسيا أو من أي مصدر آخر. لكن النمسا وسلوفاكيا والمجر والجمهورية التشيكية لا منافذ لها على البحر، وبالتالي فهي تعتمد كلياً على تضامن الدول الأعضاء الأخرى. أما هولندا التي بوسعها استقبال بواخر الشحن الكبرى، فهي تستورد كميات محدودة من الغاز المسيّل مقارنة بالدول الأخرى، نظراً لضعف قدراتها على تحويله جاهزاً للاستهلاك، علماً بأنها تعوّض هذا الضعف عن طريق ربطها بخط أنابيب مع النرويج التي أصبحت اليوم المصدّر الأول للغاز إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، بعد وقف الإمدادات الروسية.
يضاف إلى ذلك أن معظم منشئات التخزين الأوروبية التي يبلغ عددها 146، ليست مجهزة بالمحوّلات اللازمة، ولا بد من الانتظار سنوات لإنجاز محطات التحويل الكافية لتلبية احتياجات السوق الأوروبية.
وينبّه الخبراء إلى أن العامل المناخي سيكون حاسماً في تحديد مسار هذه الأزمة ومدى خطورتها؛ خصوصاً بعد أن تراجع إنتاج الطاقة الكهربائية من الذرة في فرنسا وألمانيا، وانخفاض إنتاج الطاقة الكهرمائية بسب الجفاف الذي ضرب مناطق كثيرة في أوروبا.
ويفيد تقرير المفوضية بأنه في حال اعتدال فصل الشتاء، يمكن أن يصل المخزون الأوروبي من الغاز إلى الربيع المقبل بما يقارب ربع قدرته الاستيعابية، ومن غير الاضطرار لتقنين الاستهلاك.
لكن نظراً لتعذّر وضع استراتيجية تقوم على التوقعات المناخية، اتجهت الحكومات الأوروبية للإسراع في المراهنة على توفير الطاقة، وفرضت تدابير على المواطنين والقطاع الخاص، مثل إقفال أبواب المتاجر وضبط المنظمات الحرارية، لتفادي الدرجات المرتفعة أو المنخفضة جداً في الصيف وفي الشتاء.
وقد ساعد الارتفاع المطرد في فواتير استهلاك المحروقات على خفض طلب المواطنين والشركات على الغاز والكهرباء.
ومنذ بداية الحرب في أوكرانيا، بلغت واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الروسي 45 مليار متر مكعّب، أي 19 في المائة من إجمالي الواردات الأوروبية، بعد أن كانت قد بلغت 36 في المائة خلال الفترة نفسها من العام الماضي. ولتعويض هذا الفارق، بادرت النرويج إلى رفع صادراتها من الغاز إلى بلدان الاتحاد بنسبة 12 في المائة، بينما كانت واردات الغاز المسيّل من مصادر أخرى تزداد بنسبة 50 في المائة مقارنة بالسنة الماضية.
ومنذ بداية الشهر الجاري تسارعت التطورات في سوق الغاز؛ حيث قررت موسكو القطع الكلي لإمدادات الغاز عبر خط «نورد ستريم» بذريعة وجود عطل فني، بينما الأسعار ترتفع بسرعة، وتتيح لروسيا تصدير كميات أقل من غير أن تنهار عائداتها. ومن المنتظر أن يؤدي قرار قطع الإمدادات مطلع هذا الشهر إلى عرقلة جهود المرحلة الأخيرة من التخزين في بلدان مثل ألمانيا، الحلقة الأضعف بين الدول الأعضاء في حرب الغاز مع روسيا. وبعد 3 أيام على تذرّع موسكو بالعطل الفني لوقف الإمدادات، أعلنت أنها لن تستأنف تصدير الغاز عبر هذا الخط الذي كان يمدّ أوروبا بنصف احتياجاتها الاستهلاكية. وكان انخفاض الإمدادات الروسية والواردات التي تصل من الجزائر عن طريق إسبانيا، قد دفع الاتحاد الأوروبي إلى البحث عن مصادر تموين أخرى في بلدان نائية، مثل الولايات المتحدة وقطر ونيجيريا. وقد أدى ارتفاع تكاليف الشحن نظراً لبعد المسافة، إلى جانب تكلفة تسييل الغاز لشحنه ثم إعادة تحويله للاستهلاك، إلى ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق، بحيث تحوّل ملف الطاقة وما ينشأ عنه من تداعيات اقتصادية واجتماعية، إلى موضوع النقاش الرئيسي في المشهد السياسي الأوروبي، وإلى مصدر قلق كبير بالنسبة للمؤسسات الأوروبية.


مقالات ذات صلة

مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن الدول واستقرارها

شمال افريقيا مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن الدول واستقرارها

مصر: ظاهرة «المقاتلين الأجانب» تهدد أمن الدول واستقرارها

قالت مصر إن «استمرار ظاهرة (المقاتلين الأجانب) يهدد أمن الدول واستقرارها». وأكدت أن «نشاط التنظيمات (الإرهابية) في أفريقيا أدى لتهديد السلم المجتمعي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شؤون إقليمية الاتحاد الأوروبي يطالب طهران بإلغاء عقوبة الإعدام بحق مواطن ألماني - إيراني

الاتحاد الأوروبي يطالب طهران بإلغاء عقوبة الإعدام بحق مواطن ألماني - إيراني

قال الاتحاد الأوروبي إنه «يدين بشدة» قرار القضاء الإيراني فرض عقوبة الإعدام بحق المواطن الألماني - الإيراني السجين جمشيد شارمهد، وفقاً لوكالة «الأنباء الألمانية». وأيدت المحكمة العليا الإيرانية يوم الأربعاء حكم الإعدام الصادر بحق شارمهد.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
الاقتصاد «النقد الدولي» يدعو البنوك المركزية الأوروبية لعدم التوقف عن رفع أسعار الفائدة

«النقد الدولي» يدعو البنوك المركزية الأوروبية لعدم التوقف عن رفع أسعار الفائدة

قال مدير صندوق النقد الدولي لمنطقة أوروبا اليوم (الجمعة)، إنه يتعين على البنوك المركزية الأوروبية أن تقضي على التضخم، وعدم «التوقف» عن رفع أسعار الفائدة، حسبما أفادت «وكالة الصحافة الفرنسية». وأوضح ألفريد كامر، خلال إفادة صحافية حول الاقتصاد الأوروبي في استوكهولم، «يجب قتل هذا الوحش (التضخم).

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)
العالم تقرير: القوات البحرية الأوروبية تحجم عن عبور مضيق تايوان

تقرير: القوات البحرية الأوروبية تحجم عن عبور مضيق تايوان

شجّع مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، (الأحد) أساطيل الاتحاد الأوروبي على «القيام بدوريات» في المضيق الذي يفصل تايوان عن الصين. في أوروبا، تغامر فقط البحرية الفرنسية والبحرية الملكية بعبور المضيق بانتظام، بينما تحجم الدول الأوروبية الأخرى عن ذلك، وفق تقرير نشرته أمس (الخميس) صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية. ففي مقال له نُشر في صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، حث رئيس دبلوماسية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أوروبا على أن تكون أكثر «حضوراً في هذا الملف الذي يهمنا على الأصعدة الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
العالم أوروبا تسجّل في 2022 أعلى إنفاق عسكري منذ الحرب الباردة

أوروبا تسجّل في 2022 أعلى إنفاق عسكري منذ الحرب الباردة

سجّل الإنفاق العسكري في أوروبا عام 2022 ارتفاعاً بوتيرة سريعة غير مسبوقة، حيث وصل بعد الغزو الروسي لأوكرانيا إلى مستويات لم تشهدها القارة منذ الحرب الباردة، وفق ما أفاد باحثون في مجال الأمن العالمي. وأوردت دراسة لـ«معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام» أن ارتفاع الإنفاق الأوروبي على الجيوش ساهم بتسجيل الإنفاق العسكري العالمي رقماً قياسياً للمرة الثامنة توالياً حيث بلغ 2.24 تريليون دولار، أو 2.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وعززت أوروبا انفاقها على جيوشها عام 2022 بنسبة 13 في المائة أكثر مقارنة بالأشهر الـ12 السابقة، في عام طغى عليه الغزو الروسي لأوكرانيا. وهذه الزيادة هي الأكبر م

«الشرق الأوسط» (ستوكهولم)

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟