لم ينشغل الدكتور حسن مدن أحد أبرز الأصوات النقدية على الساحة الثقافية الخليجية بالتنظير النقدي البحت، الذي «قد يتحول معه المثقف إلى سجين أبراج عاجية تعزله عن الواقع الذي يفور بتغيرات متلاحقة». وقد حقق ذلك في مؤلفاته، ومنها «لا قمر في بغداد»، و«الكتابة بحبر أسود»، و«يوميات التلصص»، التي تناول فيها مختلف القضايا الراهنة في الساحة الثقافية العربية. هنا حوار معه بمناسبة صدور كتابه الجديد «حداثة ظهرها إلى الجدار»...
> حدثنا عن أهم التحولات في المشهد الثقافي الخليجي التي يرصدها كتابك «حداثة ظهرها إلى الجدار»؟
- حاولتُ في الكتاب تتبع التحولات الثقافية في مجتمعات الخليج والجزيرة العربية، بدءاً من مساعي النخب الثقافية الأولى في مطالع القرن العشرين للتغلب على العزلة الثقافية التي فرضتها الهيمنة الأجنبية، خاصة البريطانية منها على إمارات الخليج العربي، وحالت دون تواصلها مع محيطها العربي بالصورة المرجوة، وتوقفت عند روافع الحداثة الثقافية والاجتماعية في المنطقة كبدء التعليم الحديث بمبادرات أهلية في المقام الأول، وأثر الصحافة العربية الصادرة في الحواضر المتقدمة في مصر وبلاد الشام والعراق، ورحلات رواد النهضة العربية إلى بلدان المنطقة، وما تركته من أثر مهم في التفاعل مع الفكر النهضوي العربي بتجلياته المختلفة، ثم نشوء الصحافة المحلية في مختلف البلدان الخليجية، على ما في ذلك من تفاوت زمني بين بلد وآخر، والتي أصبحت منابر للمنتج الأدبي والثقافي في هذه البلدان.
سعيت كذلك إلى توضيح الفرق بين الحداثة والتحديث، وهو أمر تناوله مفكرون عرب بارزون، في نطاق تحليلهم لوضع الثقافة العربية الراهن، وأيضاً لمسار الحداثة العربية منذ بدايات ما تعارفنا على وصفه بـ«النهضة العربية» على يد روادها الأوائل، مثل رفاعة رافع الطهطاوي وشبلي شميل وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي وسلامة موسى وطه حسين وسواهم.
> إلى أي حد يعد كتابك «ترميم الذاكرة» محاولة لاستعادة صورة البحرين الثقافية التي غادرتها ما يقرب من 3 عقود... وماذا عن ملابسات المغادرة والعودة؟
- يندرج «ترميم الذاكرة» في أدب السيرة الذاتية، وفيه سعيت لتناول صورة الوطن بعد غيبة طويلة عنه تجاوزت 25 عاماً، للمقارنة بين الصورة الباقية في الذاكرة لهذا الوطن، وما آل إليه بعد مضي كل هذه السنوات، التي شهدت تحولات كثيرة على مختلف الصعد؛ حيث وجدتني أبحث عن صورة الوطن التي حملتها عنه عند مغادرتي له في مطالع الشباب، فلم أجد كثيراً من ملامحها. وكانت هذه مناسبة لاستعادة المحطات التي مررت بها طوال سنوات الغربة، وجانب من ذكرياتي عن المدن التي عشت فيها، وانطوى الكتاب على حمولة من الأفكار والتداعيات والتأملات من وحي التجربة التي عشتها قبل العودة إلى الوطن.
هي تجربة حياتية طويلة في الغربة، أظهرت لي أننا نحمل الوطن أينما ذهبنا، وكلما طال زمن بعدنا عنه ترسخت صورة هذا الوطن التي كانت عندما غادرناه آخر مرة، حتى نخال أن تلك الصورة هي نفسها باقية سنراها عندما نعود إليه، ولكننا سنفاجئ أنها تغيرت كثيراً، لنقع في شيء من الحيرة ونحن نبحث عن الصورة العالقة في الذهن، التي لم يعد لها أو لكثير من ملامحها وجود.
> بماذا تفسر ظاهرة «خليج ما قبل النفط» التي يجسدها كثير من الروائيين وكتاب القصة والشعراء الخليجيين في أعمالهم...؟
- لا أعتقد أن كل الأدب في بلدان الخليج منشغل بصورة المنطقة قبل النفط، على الأقل في اللحظة الراهنة. ربما يصح ذلك في مجال السرد، سواء اندرج في جنس القصة القصيرة أو الرواية، خاصة في البدايات، ويبدو لي هذا مفهوماً جداً، كون الرواية، تحديداً، جنساً أدبياً حديث النشأة في المنطقة، بالمفهوم النسبي طبعاً، لذا توجهت أعمال روائية خليجية كثيرة للذاكرة المنجزة، أي للمرحلة السابقة للنفط، كون المرحلة التالية ما زالت في حالة صيرورة وتشكل، ولم تستقر بعد على حال.
وليس بعيداً اليوم الذي سنطالع فيه سرداً روائياً يتناول تحوّلات الحاضر، بل إن مثل هذا التناول بدأ يظهر في بعض الروايات والقصص الكثيرة لأدباء من بلدان الخليج.
ربما يكون مناسباً لفت النظر إلى أن التحولات الجارية في بلداننا الآن تتسم بسرعة كبيرة، تتغير خلالها ملامح المدن كثيراً، ما يجعل من الإمساك بصورة المكان صعباً، أو يحتاج إلى تأنٍ، على خلاف ما كانت عليه الحال قبل اكتشاف النفط؛ حيث كان التطور رتيباً وبطيئاً، وما تبع ذلك من اكتشاف آباره وتسويقه، وهناك أعمال أدبية مختلفة تناولت ذلك، من أهمّها على الإطلاق ما فعله عبد الرحمن منيف في خماسية «مدن الملح».
> يعد كتابك «الثقافة في الخليج... أسئلة برسم المستقبل» من أوائل المؤلفات التي طرحت مبكراً سؤال «المستقبل»، بينما انشغل كثيرون بسؤال الماضي، كيف ترى الأمر؟
- الأسئلة التي برسم المستقبل انطلقت من قراءة للتحديّات التي يواجهها المشهد الثقافي في مجتمعاتنا الخليجية، والكتاب عبارة عن 7 أوراق تناولت قضايا الثقافة في الخليج من منطلق الرغبة في فحص ونقد الظواهر السلبية التي يفرزها شيوع نمط الثقافة الاستهلاكية واختراقه لبنى الوعي والسلوك، وتسليط الضوء على إشكالات الراهن الثقافي في الخليج، وتسوده حرقة إثارة الأسئلة المفصلية حول القضايا التي يطرحها، وهي مبثوثة في ثنايا الأوراق السبع التي حواها، ولعلّ هذا كان باعث اختياري هذا العنوان، لكني أكدّت في مقدمة الكتاب أنه ليس أكثر من مدخل لمناقشة أكثر استفاضة وتفصيلا وعمقاً للقضايا التي يطرحها، وهذا ما سعيت لتحقيقه، أو تحقيق جزء منه على الأقل، في كتابي الأخير «حداثة ظهرها إلى الجدار».
> كنت تعقد الأمل على بلوغك سن التقاعد حتى تتفرغ لكثير من المشروعات النقدية والفكرية والقراءات المؤجلة، كيف الحال بعد أن بلغت تلك المرحلة العمرية؟ وهل الحياة يمكن أن تبدأ ثقافياً بعد الستين؟
- تقاعدت في العام 2016، وخلال السنوات المنقضية من ذلك الوقت صدرت لي 4 كتب، هي «الكتابة بحبر أسود»، «للأشياء أوانها»، «يوميّات التلصص»، «حداثة ظهرها إلى الجدار»، وأرى ذلك إنجازاً معقولاً، وأتمنى في التالي من السنوات أن أنجز مشروعات أخرى تمور في الذهن، وأخرى يمكن أن تتبلور في السنوات المقبلة.
ومن واقع تجربتي الشخصية خلال السنوات المنقضية منذ أن تقاعدت بوسعي القول إن متعة التقاعد كفرصة ذهبية بالنسبة للكاتب هي في أن ينصرف، وقد بات حراً من قيود الوظيفة، لإنجاز ما اعتمل في ذهنه من مشروعات، والتفكير في مشروعات أخرى جديدة، وهذا ما أحسّه وأعيشه الآن.
> تؤكد مراراً أن الافتنان بالرواية لا يعني نهاية الشعر، لكن بماذا تفسر انصراف القراء والناشرين عن القصيدة حتى إن شعراء كباراً باتوا يعانون لمجرد أن تظهر دواوينهم الجديدة إلى النور؟
- أعتقد أن الترويج لـ«زمن الرواية» ظلم كثيراً من الشعر العربي المهم الذي كُتب ويكتب في هذا الزمن، ونظرة على خريطة الرواج في معارض الكتب العربية تشير إلى هذه الحقيقة المؤسفة، ما يضع على عاتق المشتغلين بالنقد مسؤولية لفت الأنظار إلى كثير من الشعر المهم الذي ينشر.
وعلينا أن نتساءل؛ ألا يكشف هذا الإقبال الكبير على تجريب كتابة الرواية حدّ الاستسهال في كثير من الحالات عن صعوبة الشعر كفنٍ لا يقوى على ولوج عالمه كل من يخطر في باله أن يجرب، لأن الكشف عن انعدام أو ضحالة من يغامر باقتحام عالم الشعر، وهو ليس من أهله، أيسر بكثير من كشف من يفعلون ذلك في أجناس أخرى من الكتابة، بينها الرواية.
> تستلفت نظرك الرواية الشهيرة «الخبز الحافي» للمغربي محمد شكري باعتبارها نموذجاً نادراً لشجاعة البوح ضمن أدب السيرة الذاتية، ألا يوجد ما يلفت نظرك في هذا السياق بعد 40 عاماً على نشر تلك الرواية؟
- ما زلت أعتقد أن «الخبز الحافي» من أكثر السير الروائية العربية جرأة في المكاشفة والبوح، فالكاتب تحرر من كل الحسابات والاعتبارات التي يجد كثيرون أنفسهم محمولين على مراعاتها، وهو يكتب سيرته على شكل رواية، لكن هذا لا ينفي أن هناك سيراً ذاتية لكتّاب عرب هي أدب بامتياز، شأنها في ذلك شأن القصة القصيرة والرواية. ويمكن أن تُحكى السيرة الذاتية بصور مختلفة، أو للدقة نقول، إن بعض أشكال الكتابة يمكن أن تدخل في خانة السيرة الذاتية، بصورة من الصور، كاليوميات مثلاً، ولنا في كتاب الكاتب المغربي عبد الله العروي «خواطر الصباح» بأجزائها المختلفة مثالاً.
> كيف ترى الانقسام الذي باتت تثيره الجوائز الأدبية في المشهد الروائي العربي ما بين متحمس وناقم؟
- بعيداً عن هذا السجال، أرى أن الجوائز الأدبية والثقافية هي وجه من وجوه تقدير إبداع المبدعين، وهي تلفت القراء إلى أعمال أدبية كثيرة ما كان القراء العرب في كل مكان سيعرفون بأمرها، لولا تأهلها للقوائم الطويلة والقصيرة لهذه الجوائز، أو فوزها بها.
في ندوة أقيمت بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة قبل شهور بالمشاركة مع مؤسسة سلطان بن علي العويس تكريماً للمفكر والناقد الراحل جابر عصفور، اقترحت أن تسمى جائزة مقترحة تحمل اسمه «جائزة جابر عصفور للتنوير»، من أجل تشجيع وتحفيز الدراسات التنويرية التي نحتاجها في زمننا العربي الراهن، ولكي لا ينحصر الاهتمام بالجوائز الأدبية فقط.
> إلى أي حد يتحمل النقاد المسؤولية عن عدم القدرة على متابعة وإضاءة الإنتاج الروائي العربي، ما يصيب كثيراً من المبدعين بخيبة الأمل والإحباط؟
- النقد الأدبي في حال تراجع للأسف في بلداننا، وكثير من الأسماء التي ابتدأت بالنقد الأدبي انصرفت نحو الدراسات الثقافية أو ما يسمى النقد الثقافي، وهذا الأخير مهم جداً، لكنه لا ينفي الحاجة إلى الدراسات النقدية التي أوشكت أن تنحصر في الجامعات، على شكل أطروحات للماجستير أو الدكتوراه، إضافة إلى تراجع دور الصحافة الثقافية، ففي كثير من بلداننا اختفت الصفحات والملاحق الثقافية، التي كانت روافع إبداعية ونقدية مهمة، مع أن الإنصاف يقتضي توجيه التحية للصحف العربية، خاصة في بعض بلدان الخليج، التي ما زالت تولي العناية بصفحاتها الثقافية اليومية والأسبوعية.