على مسافة قريبة من مدينة الرياض، العاصمة السعودية، تم الانتهاء أخيراً من بناء موقع يضم مزرعة تجريبية على مساحة 6 هكتارات، قد يقدم حلاً لمشكلتي الأمن الغذائي والأمن المائي التي يواجهها العالم. وسوف ينتج هذا المشروع - التجربة، مجموعة مختارة من المحاصيل، وذلك باستخدام تقنية تعتمد على المياه المالحة بدلاً من المياه العذبة.
هذا التوجه الذي تعمل عليه جامعة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (كاوست)، عبر شركتها الناشئة، التي تحمل اسم «مزارع البحر الأحمر»، يوضح أن الزراعة بالمياه المالحة لم تعد مستحيلة، وقد تكون خياراً لا بد منه من أجل تأمين الغذاء للبشرية في المستقبل.
يشار إلى أن «كاوست» منذ إنشائها عام 2009 تعمل على وضع حلول للمشكلات العالمية المتعلقة بتوفير الغذاء، الذي يعتبر أحد مجالات أبحاث الجامعة الاستراتيجية الأربعة، التي منها الماء والطاقة والبيئة. وكذلك ترجمتها إلى حلول حقيقية تعود بالنفع للمملكة ولمنطقة الخليج العربي وما بعدها. وتمتلك الجامعة تراثاً من الأبحاث الرائدة والمؤثرة في مجموعة من المجالات ذات الصلة بالزراعة الصحراوية، وبيولوجيا وجينوم النباتات، وأبحاث الميكروبات، ومكافحة الآفات، والاستزراع المائي، وغيرها.
تم بناء موقع لتطوير تقنية الشركة على نطاق تجاري تصل مساحته إلى 6 هكتارات
ويؤكد رئيس الجامعة الدكتور توني تشان على التزام «كاوست» بدعم استراتيجيات الأمن الغذائي الوطني للسعودية بقوله: «يرتبط التصحر والظروف القاحلة في المملكة بمشكلات ندرة المياه، والاعتماد على الواردات الغذائية، وتآكل التربة، وما يرتبط بها من قضايا الحياة على الأرض، ما يؤدي إلى تفاقم التحديات التي تواجه الأمن الغذائي. وهو ما نحاول تسليط الضوء عليه، وطرح الحلول والمساهمات المتميزة التي يقدمها باحثونا في هذا المجال».
بداية التجربة
البداية كانت من مجمع «كاوست للأبحاث والتقنية»، حينما اجتمعت رؤية أستاذ علوم النبات في الجامعة، البروفسور مارك تيستر، وزميله خبير الهندسة الزراعية، الدكتور رايان ليفرز، على التصدّي لحل واحدة من أكثر التحديثات الحرجة في المنطقة؛ تأمين الأمن الغذائي بالمناطق التي تعاني من ندرة المياه كالسعودية والشرق الأوسط.
في عام 2018، قادت تلك الرؤية إلى تأسيس شركة ناشئة من «كاوست» متخصصة في تقنية طوّرتها الجامعة، تستخدم المياه المالحة مصدراً أساسياً لإنتاج المحاصيل الزراعية التجارية. في البداية، أمّنت الشركة الناشئة تمويلاً أولياً بقيمة 1.9 مليون دولار، تبعه تمويل استثماري ناجح بنحو 16.5 مليون دولار في عام 2021. وفي أبريل (نيسان) من هذا العام، حصلت الشركة على رأس مال استثماري يُقدّر بـ18.5 مليون دولار، من قِبل مجموعة رائدة من المستثمرين السعوديين، والشرق أوسطيين، والأميركيين، ما يعد أحد أكبر الاستثمارات في تاريخ المنطقة - حتى وقتنا هذا - في تقنية الزراعة. وجاء التمويل عن طريق الاكتتاب، الذي عكس الاهتمام الخيالي من قِبل المستثمر بتقنية شركة «مزارع البحر الأحمر». كما سيسهم هذا الاستثمار في إلهام المجتمع المحلّي للتوصُّل إلى حلول زراعية مستدامة، تعالج أزمة انعدام الأمن الغذائي في المناطق التي تعاني من ندرة المياه.
شارك في هذه الجولة التمويلية - التي فاق نجاحها كل التوقعات - كل من؛ «واعد»، وهو مركز «أرامكو» لدعم ريادة الأعمال، ومجموعة «صافولا»، المجموعة القابضة الاستراتيجية الأولى للاستثمار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للأغذية والتجزئة، جنباً إلى جنب مع تمويلات صندوق «كاوست للابتكار»، الذي يُعدّ واحداً من المستثمرين الرئيسين في الشركة، بالإضافة إلى «أولسون أوبين»، وهي شركة استثمار مقرّها شيكاغو بالولايات المتحدّة.
د. رايان ليفرز الرئيس التنفيذي لشركة «مزارع البحر الأحمر»
ويبدو أن تقنية الشركة جذبت اهتمام أميركا الشمالية منذ العام الماضي. فنجد شركة AppHarvest، ومقرها ولاية كنتاكي الأميركية، وهي متخصصة في إنشاء المزارع الداخلية، وكذلك شركة بونا فينتشر لرأس المال الاستثماري، ومقرها ألاباما، قد ساهمتا آنذاك بمبلغ استثماري قدره 6 ملايين دولار أميركي.
يقول المهندس فهد العيدي، المدير الإداري لمركز أرامكو لدعم ريادة الأعمال «واعد»: «طورت شركة (مزارع البحر الأحمر) نموذج أعمال مبتكراً ومستداماً لمواجهة تحدي انعدام الأمن الغذائي ومحدودية الموارد الزراعية عالمياً، فضلاً عن كونه يراعي الظروف الإقليمية إلى حد كبير».
«مزارع البحر الأحمر»
للتكيف مع الضغط العالمي على إمدادات المياه العذبة؛ ابتكر الباحثان «تيستر» و«ليفرز» نظاماً زراعياً علمياً اقتصادياً للأغذية المعتمدة على المياه المالحة بدلاً من المياه العذبة. ولقد أثبتت هذه التقنيّة نجاحاً كبيراً؛ حيث قللت من استهلاك المياه العذبة بنسبة تتراوح ما بين 85 إلى 90 في المائة.
وتضم التقنية عناصر هامة من ريادة عالمية لعلوم النبات، كالتبريد المستدام، وإدارة الطاقة والضوء، والذكاء الصناعي.
وعلى سبيل المثال، نجد شركة مثل AppHarvest الأميركية المشار إليها أعلاه، التي تشيّد عدداً من أكبر المزارع الداخلية في العالم (متضمناً ذلك مزرعة تبلغ مساحتها 60 هكتاراً في مدينة مورهيد، بولاية كنتاكي)، تستثمر في تقنية «مزارع البحر الأحمر»، لماذا؟ لأن دفيئاتها الزراعية الخاصة بها تعتمد على مياه الأمطار المعاد تدويرها، التي لا تتاح بسهولة في منطقة الخليج العربي. ولهذا السبب فإن تقنية الشركة الناشئة التي تمنع تبلور الملح، وهو ما يسمح بنظام التبريد للمزارع بالاعتماد على المياه المالحة دون حدوث تصلب، تعد الخيار الأمثل للاستثمار في مثل هذه البيئات.
أضف إلى ذلك، أن الشركة الناشئة تمتلك مجموعة من التقنيات الأخرى، مثل تقنية الطاقة الشمسية لتشغيل المراوح داخل الدفيئات، والذكاء الصناعي ممثلاً في مواد التغطية الذكية لحمايتها من الحرارة. أما بالنسبة لتوفير الطاقة فإن التقنية تستهلك طاقة أقل بمرتين إلى 6 مرات قياساً بالدفيئة العادية المبردة ميكانيكياً. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يمكن تقييم نجاح تلك التقنية بشكل سريع وسهل، في ظلّ المناخات القاسية، وبمناطق تعتبر أساليب الزراعة التقليدية غير ممكنة أو مُكلّفة للغاية.
ونجحت شركة «مزارع البحر الأحمر» بشكل مبدئي في بيع طماطم في أسواقٍ محليّة، بعد زراعتها في الدفيئات المبردة بالمياه المالحة داخل حرم «كاوست»، وتوسّعت في عمليات تشغيلها بشكل سريع.
وإضافة إلى إكمال بناء الموقع الذي يضم المزرعة التجريبية المشار إليه سابقاً لتطوير هذه التقنية على نطاق تجاري، فقد تم أيضاً إنشاء مرفق للبحث والتطوير داخل حرم الجامعة.
مما سبق، يمكن القول إنه مع تفاقم الأزمة المناخية، وما نشهده من تعرض مناطق كثيرة حول العالم لارتفاع كبير في درجات في الحرارة وموجات الجفاف، يبدو أن تقنيات شركة «مزارع البحر الأحمر» قد أحدثت تغييراً مهماً في مفهوم الزراعة في السعودية وغيرها من المناطق التي تعاني من شحّ المياه ومحدودية الأراضي الصالحة للزراعة. كما قدمت حلولاً لتحديات شح الغذاء، بما ينسجم مع رؤية 2030 في المملكة.
مستقبل الزراعة بالمياه المالحة
في عام 2018، نظمت وزارة البيئة والمياه والزراعة السعودية في الرياض ورشة عمل دولية عن مكافحة التصحر والطرق المبتكرة في إدارة المناطق الجافة. وفي تلك الورشة ناقش عدد من الخبراء المشاركين موضوعاً حيوياً يركز على الابتكارات في إدارة البيئة المالحة واستخدام الموارد المتجددة. وأشاروا إلى أن الدراسات بيّنت أنه بحلول 2050 سوف يحتاج العالم إلى أكثر من «70» مليون هكتار من الأراضي تكون صالحة للزراعة وإنتاج منتجات غذائية مفيدة، وأن «20 في المائة» من الزراعة تعتمد على المياه المالحة، ما سيسهم في طرح استثمارات زراعية تعتمد على المياه المالحة، بقيمة تقدر بنحو «27» مليار دولار. كما تم التركيز على الدفيئات الزراعية، والاعتماد على المياه المالحة في الزراعة حيث من شأنها تقليل استهلاك الطاقة والمياه العذبة.
في هذا الإطار، تستهدف شركة «مزارع البحر الأحمر» في المرحلة التالية تسويق تقنيتها إقليمياً وعالمياً، وتخطط لتطوير أحدث منتجاتها التجارية في منطقة الخليج، ودعم الابتكار الزراعي في المنطقة عبر الشراكات القائمة على التقنيات الزراعية مع شركات في دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي الوقت ذاته فتح أسواق جديدة في مناطق مثل أميركا الشمالية.
ولا تزال الشركة تلتزم بتطوير سلاسل الإمداد الغذائي المستدامة في المملكة، ووقّعت أخيراً اتفاقية مع شركة تطوير البحر الأحمر، التي تقف وراء تطوير أكثر من مشروع سياحي طموح في العالم، لبناء وتشغيل مزرعة تجريبية داخلية، التي ستنمو فيها المحاصيل، لتقديمها إلى الزوار والمقيمين بشكل مستدام.
ومن المخطط له أن ينتج مشروع المزرعة التجريبية الداخلية مجموعة متنوعة من الثمار الخضراء الطازجة، والأعشاب، ومحاصيل العنب والخضراوات والفواكه. وجنباً إلى جنب مع تلك المزرعة؛ فإنَّ شركة «مزارع البحر الأحمر» سيكون لديها الخيار لزيادة مساحتها لأكثر من 100 هكتار، وهو ما سيجعلها أكبر مزرعة مستدامة من نوعها في العالم.
ويعلق الدكتور رايان ليفرز، الرئيس التنفيذي لشركة «مزارع البحر الأحمر» على ما تحقق بقوله: «اقتناع المستثمرين الموقرين برؤيتنا الاستثمارية، يعد بمثابة شهادة مصداقية لتقنيتنا الواعدة، واستراتيجية الشركة التجارية. واليوم يتملكنا الحماس أكثر من أي وقت مضى للاستمرار في مهمتنا، وعلاج الاعتمادية على استهلاك المياه العذبة في إنتاج الأغذية، وتحسين الأمن الغذائي».