لماذا تتوالى الويلات على «سويسرا الشرق» منذ نصف قرن ؟

أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
TT

لماذا تتوالى الويلات على «سويسرا الشرق» منذ نصف قرن ؟

أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)

قيل الكثير حول أسباب الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت عام 1975 ولا تزال مستمرة حتى الآن، وبأشكال مختلفة منها ما هو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو غيره. وعلى رأس هذه الأسباب التكسر المجتمعي الذي خلق من لبنان فسيفساء وموازييك متعدد الاتجاهات والولاءات والنظرات إلى الدولة أو الانتماء أو حتى الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلد، حيث تلعب الولاءات التقليدية والاجتماعية، أكانت عشائرية أو طائفية أم عائلية – قبلية، دوراً مهماً في الحياة السياسية والاجتماعية في هذا العالم.
في البداية لا بد لنا أن نتساءل: لماذا استطاع هذا البلد الصغير، غير المرئي على خريطة العالم تقريباً، أن يجذب انتباه معظم بلدان المعمورة؟ لماذا لبنان تحديداً؟!
يقيناً، البدايات الأولى للمشكلة تعود إلى زمن بعيد، إلى مشكلة «بنك أنترا» عام 1966، وربما إلى قبل ذلك في بداية الستينات. فالازدهار التدريجي الهائل للبنان بعد اكتشاف النفط في البلدان العربية (الخليج) قد جذب انتباه معظم الدول، وتحديداً أوروبا وأميركا، وبخاصة بعد تسميته «سويسرا الشرق». فقد بدأت هذه البلدان تتساءل: هل يجب أن تؤخذ هذه التسمية في الاعتبار أم لا؟
إن تنافس لبنان مع سويسرا في حقل الصناعة المصرفية قد شكل تهديداً خطيراً للعالم بأسره، خصوصاً عندما حل مكان المصارف الأوروبية والأميركية في جذب الاستثمارات والأموال العربية الخليجية. لذا، تجب إزالة لبنان الخطير هذا كبلد منافس ومهدد، لا سيما أنه مجرد نقطة صغيرة على الخريطة الدولية.
وتسللت المؤامرة عبر نقاط الضعف اللبنانية، من الأديان ومسائل ثانوية أخرى شكّلت على الدوام التربة الخصبة والصالحة لكل أولئك الذين أرادوا إلحاق الأذى بالقطاع المصرفي، وبالتالي الازدهار الاقتصادي للبلد بمجمله لا بالسكان اللبنانيين تحديداً.
هكذا بدأت المؤامرة، ولسوء الحظ، كلما أصبح لبنان قادراً على دحر هذا المخطط ظهرت مشكلة جديدة أمعنت في البلد تدميراً وتحطيماً يبدوان أبديين، والله وحده يعلم متى سينتهيان.
يجب أن نأخذ في الاعتبار الجوانب والمظاهر المتعددة للحرب اللبنانية، ولكن وبالمقارنة مع الأسباب المتعددة للحرب اللبنانية، شكّلت مصالح الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية الأخرى السبب الأكثر أهمية في دمار لبنان ومحنته، حيث كان التدخل الدولي العامل المساعد والمحرك لبداية الحرب الأهلية داخل البلد واستمراريتها.

لما سُمي لبنان «سويسرا الشرق»؟
قبل التوسع، لا بد لنا من ذكر شيء عن سويسرا التي تقع وسط أوروبا، حيث يحيط بها كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا. وفي بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939، حارب أدولف هتلر، مستشار ألمانيا الغربية، وغزا أوروبا بمجملها من دون أن يمس حتى حدود سويسرا، ليس بسبب خوفه من الجيش السويسري (الذي لم يتجاوز عدد أفراده أصابع اليد آنذاك)، بل لأن لسويسرا دوراً مهماً تلعبه في تمويل العالم بأسره، لأن كل أموال الأثرياء في بقاع الأرض قد وُضعت في البنوك السويسرية. وإذا ما أخذنا ذلك في الاعتبار، فسيكون من السهل علينا فهم النتيجة.
من المفيد أن نذكر في هذا المجال أن أمم الأرض قد عبّرت عن شكرها وامتنانها لما فعلته وقدمته سويسرا للعالم بأسره إبان الحرب العالمية الأولى، وذلك بجعل عَلَمها ذي اللونين الأحمر والأبيض رمزاً لما يسمى «الصليب الأحمر».
وهكذا، ولأكثر من قرن مضى، كانت سويسرا الرائدة والسباقة في مجال الصناعة المصرفية وصناعة الساعات حتى ظهر اليابانيون على المسرح يحاولون اجتذاب المستهلكين نحو ساعاتهم الكوارتز الزهيدة الثمن والصغيرة والأكثر دقة على التوقيت وتعمل على البطارية بدلاً من التعبئة اليدوية أو الأوتوماتيكية والتي تميزت بآلات حاسبة وألعاب تسلية وإشارات تنبيه وغيرها من الأشياء، تاركين لسويسرا الصناعة المصرفية تقريباً. وبدأت سويسرا تخسر سوق الساعات العالمية ودخلت اليابان في هذا المجال بكل ما فيها من تطوير وتجديد.
مجمل القول إنه تُرك لسويسرا اختصاص الصناعة المصرفية إلى أن تحرك لبنان إلى الأمام ليصبح منافساً مهماً ووحيداً لسويسرا في اختصاصه وسيرته المصرفية. ففي أواخر الستينات كان في لبنان أكثر من ثمانين مصرفاً (هذا إذا لم نعدد الفروع)، بينما لم يكن لدى سويسرا أكثر من خمسة مصارف كبيرة، مما دفع العالم بأسره إلى التساؤل عما سيحصل للبنوك السويسرية في ظل لبنان كمنافس عملاق لها! هنا نشأت كيفية تخليص ما تبقى من التخصيص السويسري في مجال الصناعة المصرفية، لأن سويسرا كانت مركز المصارف الرائدة، خصوصاً بعد اكتشاف النفط في البلدان العربية عام 1950.
لذا كان جوهر المؤامرة ضد لبنان العمل على جعل المصارف الأجنبية تبتعد عنه، إما بالنزوح عن لبنان وإما بجعلها تستثمر أموالها في مجال آخر غير القطاع المصرفي. وحيث إن «بنك أنترا» كان يتمتع بمكانة عالية في القطاع المصرفي، فقد تدفقت الأموال العربية، كما ذكرنا سابقاً، عليه محدثةً فائضاً مالياً هائلاً في هذا المصرف الذي يستثمر في فرنسا وفي غيرها من البلدان، وفي قطاع التملك تحديداً، مما جعله أحد أهم المؤسسات المالية في العالم القديم (أوروبا، آسيا، أفريقيا) والجديد (أميركا).
كان الاعتقاد السائد أنه إذا تم تدمير «بنتك أنترا» فإن الودائع العربية لن تتوقف عن التدفق على لبنان فحسب، بل إن القطاع المصرفي سيبدأ في الانهيار، تلك كانت بداية المؤامرة بمجملها.
وفي الواقع، لقد خططت السفارات الأجنبية المختلفة لنشر إشاعات ومكالمات هاتفية ورعب اقتصادي في أول يوم (الاثنين) من أسبوع الجمعة الأسود، وذلك لتحذير المودعين وحضهم على سحب ودائعهم من «بنك أنترا» لأن رائحته بدأت تفوح إلى العلن. واستمرت المأساة أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة من عام 1966 (الذي سُمي فيما بعد «الجمعة الأسود»). وعندما فتح المصرف أبوابه في التاسعة والنصف، تدفق جمهور المودعين مطالبين بسحب ودائعهم. ومن الطبيعي أنه لم يكن لدى المصرف السيولة المالية الكافية، فأُعطي المودعون شيكات (حوالات) للبنك المركزي الذي رفضها.
وسرعان ما امتد هذا الوضع بسرعة إلى كل أرجاء العالم، متسبباً بسحوبات من الودائع لا نهاية لها، وبخاصة ودائع الأثرياء العرب. واتصلت إدارة «بنك أنترا» بالبنك المركزي عارضةً رهن كل استثمارات مصرفها في فرنسا، إضافةً إلى سندات الملكية لديه كحصته في شركة «طيران الشرق الأوسط»... إلخ، إلا أن البنك المركزي رفض بصراحة تامة العرض المقدم له. وهكذا لم يكن «بنك أنترا» قادراً على حل هذه المعضلة، فوجد نفسه ملزماً بأن يقفل أبوابه نهائياً. وفعلاً توقف المصرف عن الوجود عند الساعة الحادية عشرة وكانت تلك الخطوة الأولى على طريق نجاح المؤامرة المدبرة ضد لبنان.
الهدف الثاني ضد المصارف كان البنك البريطاني للشرق الأوسط، ثاني أكبر مصرف في لبنان بعد «أنترا». وبدأ مودعوه، بعد تأثير الرعب الذي سببه «أنترا» يطالبون بسحب ودائعهم منه، إلا أن إدارة البنك اكتشفت اللعبة وأوعزت إلى مكتبها الرئيسي في هونغ كونغ فسارع إلى إرسال الأموال وأعلن المصرف أن أبوابه ستُفتح 24 ساعة يومياً بما فيه السبت والأحد. لكنه حذر المودعين بأن كل من يسحب ودائعه سيتوقف إلى الأبد عن كونه زبوناً لدى البنك البريطاني للشرق الأوسط. ومن البدهيّ القول إنه نتيجة لانهيار «أنترا» تم حث الاستثمارات الأجنبية والمحلية على ترك لبنان والذهاب إلى أي مكان آخر، أكانت المصارف السويسرية أو الأجنبية أو غيرها.
وهكذا نجح المخططون في مخططهم. لكن الزمن كان كفيلاً ببلسمة الجراح. ونتيجة لذكاء اللبنانيين، بدأ العرب يتناسون الأزمة التي سبّبها «بنك أنترا» وعادت الأموال تتدفق وتصب في المصارف اللبنانية ثانية. على مر سبعة وأربعين عاماً، استمر التدخل الأجنبي واستمر المخطط في مؤامراته على المصارف في لبنان منذ الحرب الأهلية 1975، كما ذكرنا سابقاً، حتى تاريخه، بأشكال مختلفة وطرق متنوعة حتى تمكن من تحقيق الهدف أخيراً ونجاح المؤامرة ولكن، ويا للأسف، ليس على يده بل على يد سياسيين ومسؤولين وموظفين ومتواطئين لبنانيين، فانهار القطاع المصرفي بسرعة فائقة وبكل سهولة وتم تدميره بالكامل تقريباً ما أدى إلى سحب المودعين الأجانب والعرب وحتى اللبنانيين ودائعهم إلى المصارف الأجنبية. والآن يبحث المسؤولون في الدولة اللبنانية موضوع «الكابيتال كونترول» المنقوص والسرية المصرفية الملتوية بعد أن خسر لبنان ثقة العالم أجمع بنظامه المصرفي وهو الآن يتخبط بفوضى عارمة ويُظهر عدم معرفة، أو بالأحرى عدم إرادة في كيفية إدارة هذا القطاع.
إن الوضع الراهن، وبسبب الأحداث والظروف المؤلمة من ضائقة اقتصادية ومعيشية خانقة وفقدان أبسط سبل العيش الكريم للبنانيين من ماء وكهرباء واتصالات وبنى تحتية وفقدان القيمة الشرائية لليرة اللبنانية (حيث كانت 2. 25 ل.ل توازي دولاراً أميركياً قبل الحرب الأهلية، أصبح الآن الدولار الواحد الأميركي يوازي أكثر من 35000 ل.ل) وغيرها من المشكلات الاجتماعية والصحية والتربوية، لا يزال البنانيون يعانون ويتحملون ويعملون جاهدين كي تكون فترة الانتظار قصيرة حتى يتقدموا نحو الحل النهائي، ومَن يدري؟! ربما تتغير تسمية «سويسرا الشرق» إلى «هونغ كونغ الشرق».
يقول البوذيون: «إن الثيران بطيئة الحركة، لكن الأرض صبورة جداً».
* باحثة لبنانية



أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

TT

أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)
مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)

في الحروب يحرص عادة كل طرف على نصب الكمائن للطرف الآخر. أما اليوم، في الحرب الدائرة بين إسرائيل و«حزب الله»، فيبدو أن كل طرف يوقع نفسه في الكمائن. فعلى رغم أن كلا الطرفين يؤكد أنه غير معني بتوسيع نطاق الحرب، فإنهما يندفعان بشكل جارف إلى توسعتها. وعلى الجانب الإسرائيلي، تجري تدريبات حربية متواصلة على كيفية توسيعها، في حين تشير الاستطلاعات إلى أن الجمهور يؤيد هذه التوسعة. قبل شهرين فقط كان 64 في المائة من المستطلعين الإسرائيليين يؤيدون حرباً مع «حزب الله» حتى لو كان الثمن حرباً إقليمية واسعة. وفي الشهر الأخير هبطت هذه النسبة إلى 46 في المائة وهي لا تزال نسبة مرتفعة إلى حد بعيد. هذا التأييد أفزع القيادات العسكرية في تل أبيب، وجعلها تشعر بأن الجمهور لا يدرك تماماً ما قد تعنيه هذه الحرب.

أيال حولتا، المستشار الأسبق للأمن القومي في الحكومة الإسرائيلية، يقول إن حرباً كهذه ستؤدي إلى تدمير مناطق شاسعة من لبنان، ولكنها أيضاً ستلحق أضراراً كبيرة في إسرائيل، وقد توقع نحو 15 ألف قتيل فيها.

فتاة تعبر قرب دكان مغلق كتب عليه "لقد مات 4 من رفاقي. منطقة حرب" في تل أبيب (رويترز)

معهد أبحاث الإرهاب في جامعة رايخمان، أجرى دراسة حول سيناريوهات حرب مع «حزب الله» بمشاركة 100 خبير عسكري وأكاديمي، خرجوا فيها باستنتاجات مفزعة؛ إذ قالوا إن من شأن حرب كهذه أن تتسع فوراً لتصبح متعددة الجبهات، بمشاركة ميليشيات إيران في سوريا والعراق واليمن وقد تنضم إليها حركتا «حماس» و«الجهاد» في الضفة الغربية.

ورجّحت الدراسة أن يطلق «حزب الله» طيلة 21 يوماً كمية هائلة من الصواريخ بمعدل 2500 إلى 3000 صاروخ في اليوم ويركز هجومه على إحدى القواعد العسكرية أو المدن في منطقة تل أبيب، وكذلك على مناطق حساسة أخرى، مثل محطات توليد الكهرباء وآبار الغاز ومفاعل تحلية المياه والمطارات ومخازن الأسلحة. وبالإضافة إلى الدمار الذي سيحدثه هذا القصف، ستنفجر فوضى لدى الجمهور الإسرائيلي.

كذلك، سيحاول «حزب الله» الدفع بخطته القديمة، في إرسال فرق «الرضوان» لتخترق الحدود الإسرائيلية وتحتل بلدات عدة، كما فعلت «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وأكثر.

تدمير على نسق غزة

هذا السيناريو المخيف، جاء أولاً وبالأساس لكي يصبّ بعض الماء البارد على الرؤوس الحامية التي راحت تمارس ضغوطاً على الجيش لكي يجتاح الأراضي اللبنانية. والجيش، إذ يدرك بأن القيادات السياسية اليمينية الحاكمة تحرّض عليه وتظهره متردداً وخائفاً من الحرب، ينشر في المقابل خططاً تظهر أنه جاد في الإعداد للحرب. وبحسب التدريبات والتسريبات التي يمررها، يتضح أنه يعدّ لاجتياح بري واسع يحتل فيه الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني، وربما حتى نهر الزهراني أيضاً. وهو يقول إنه في حال رفض «حزب الله» اتفاقاً سياسياً يبعده عن الحدود، فإن الجيش سيسعى لفرض هذا الابتعاد بالقوة.

ويوضح أنه سيبدأ توسيع الحرب بقصف جوي ساحق يدمر عدداً من البلدات اللبنانية على طريقة غزة، وبعدها يأتي الاجتياح. وبحسب مصادر عسكرية، فإن إسرائيل استعادت الأسلحة المتأخرة من الولايات المتحدة، بما فيها القنابل الذكية، وستستخدمها في قصف الضاحية الجنوبية في بيروت ومنطقة البقاع على الأقل.

طائرة إطفاء إسرائيلية تلقي مواد لإخماد النيران المشتعلة في الجليل الأعلى جراء صواريخ أطلقها «حزب الله» (أ.ف.ب)

ويبعد نهر الليطاني عن الحدود 4 كيلومترات في أقرب نقطة و29 كيلومتراً في أبعد نقطة، ليشكل شريطاً مساحته 1020 كيلومتراً مربعاً يشمل ثلاث مدن كبيرة، صور (175 ألف نسمة) وبنت جبيل ومرجعيون. ويعيش في تلك المنطقة نصف مليون نسمة، تم تهجير أكثر من 100 ألف منهم، حتى الآن. لذا؛ فإن الحديث عن احتلال هذه المنطقة كلها لن يكون سهلاً. فـ«حزب الله» أقوى بكثير من «حماس» ولديه أنفاق أكبر وأكثر تشعباً من أنفاق غزة، كما أنه يملك أسلحة أفضل وأحدث وأكثر فتكاً، وهو مستعد لهذه الحرب منذ فترة طويلة. وإذا كانت إسرائيل تخطط لحرب قصيرة من 21 يوماً، فإن أحداً لن يضمن لها ذلك وقد تغرق في الوحل اللبناني مرة أخرى.

جدوى الحرب ومستوطنات الشمال

بدأ الجيش الإسرائيلي في إعداد الجبهة الداخلية لمواجهة حرب طويلة، فجرى إنعاش أوامر الاحتياط الأمني في أوقات الطوارئ في المستشفيات والمصانع والمؤسسات الحكومية والرسمية والملاجئ. وهو يضع في الحسبان احتمال أن يستطيع «حزب الله» إطلاق آلاف الصواريخ والمسيّرات وضرب البنى التحتية من محطات توليد كهرباء وتحلية مياه وآبار غاز. وفي التدريبات التي جرت في الشهرين الماضيين، وضع في الحسبان أيضاً احتمال أن تتدخل إيران مباشرة. عندها ستتفاقم فوضى الملاحة في البحر الأحمر وقد يتم ضرب قبرص. وهذا يعني أن الأراضي الإسرائيلية، كلها، ستتحول إلى جبهة مشتعلة.

ويقول معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب في دراسته: «حتى الآن أطلق (حزب الله) أكثر من 5000 ذخيرة مختلفة، معظمها من لبنان، على أهداف مدنية وعسكرية في إسرائيل؛ ما أدى إلى مقتل 33 مدنياً وعسكرياً، وإحداث أضرار جسيمة. فهناك شعور قوي بعدم جدوى الحرب بالنسبة لمستقبل المنطقة الشمالية، والمستوطنات الـ28 التي تم إخلاؤها ومدينة كريات شمونة وسكانها، الذين يتساءلون متى وتحت أي ظروف سيتمكنون من العودة إلى بيوتهم».

يهود متدينون يؤدون صلاة الصباح عند هضبة في الضفة الغربية بعد وعود حكومية بضمن مزيد من الاراضي الفلسطينية (أ ب)

ترسانة «حزب الله»

بحسب التقارير ومنذ حرب لبنان الثانية، يشكّل «حزب الله» التهديد العسكري الرئيسي لإسرائيل؛ نظراً لضخامة قواته المدعومة إيرانياً وبصفته «رأس الحربة في محور المقاومة». وتتكون الترسانة الرئيسية للحزب مما لا يقل عن 150 ألف صاروخ وقذيفة وأسلحة إحصائية أخرى، بالإضافة إلى مئات الصواريخ الدقيقة الموجهة، والمتوسطة والطويلة المدى، التي تغطي المنطقة المأهولة بالسكان في إسرائيل. يكمن الضرر الرئيسي المحتمل لهذا المخزون في الصواريخ الدقيقة، والتي تشمل صواريخ كروز، والصواريخ الباليستية، والصواريخ الدقيقة القصيرة المدى المضادة للدبابات، والصواريخ الساحلية المتقدمة وآلاف الطائرات والمروحيات المُسيّرة. وفي حرب 2006، عندما خاض الجانبان حرباً استمرت 34 يوماً، كان لدى «حزب الله» نحو 15 ألف صاروخ وقذيفة، غالبيتها العظمى لم تكن موجهة ومداها أقل من 20 كيلومتراً؛ مما يعني أنها لم تكن قادرة على الوصول لمدينة حيفا شمالي إسرائيل. وقد أطلق الحزب نحو 120 صاروخاً يومياً في تلك الحرب؛ ما أسفر عن مقتل 53 إسرائيلياً وإصابة 250 وإلحاق أضرار مادية جسيمة.

أما اليوم، فإلى جانب ما ذُكر، هناك أيضاً المنظومات السيبرانية المتقدمة، القادرة على التسبب بأعمال قتل جماعي وأضرار مدمرة للأهداف المدنية والعسكرية، بما في ذلك البنية التحتية الوطنية الحيوية. الموارد العسكرية التي يملكها «حزب الله» كبيرة كمّاً ونوعاً، بما يضاهي عشرات أضعاف القدرات العسكرية لـ«حماس» قبل اندلاع الحرب. والأهمية الاستراتيجية هي أن «حزب الله» يمتلك البنية التحتية والقدرات العسكرية اللازمة لشنّ حرب طويلة، ربما لأشهر عدة، وإلحاق أضرار جسيمة بإسرائيل.

عناصر من «حزب الله» يشيعون في بيروت القيادي في الحزب محمد نعمة ناصر الذي قتل في غارة إسرائيلية (د.ب.أ)

ويضيف التقرير أنه «في حرب واسعة النطاق ضد (حزب الله)، سيتعين على أنظمة الدفاع الجوي التابعة للجيش الإسرائيلي أن تتعامل، مع مرور الوقت - وخاصة في الأسابيع الأولى من الحرب - مع وابل من الأسلحة يصل إلى آلاف يومياً، ولن يكون من الممكن اعتراضها كلها. هذه الهجمات، بما في ذلك من جبهات أخرى، مثل إيران والعراق وسوريا واليمن، يمكن أن تسبب التشبع لطبقات الدفاع الجوي الإسرائيلية، بل وربما نقصاً في وسائل الاعتراض. وهذا تهديد عسكري ومدني لم تعش مثله إسرائيل. في مثل هذا السيناريو، سيكون مطلوباً من الجيش الإسرائيلي تحديد الأولويات، سواء بين ساحات القتال المختلفة أو فيما يتعلق بتوزيع الموارد للدفاع الفعال عن الجبهة الداخلية. من المتوقع أن تعمل القوات الجوية كأولوية أولى لحماية الأصول العسكرية الأساسية، وكأولوية ثانية لحماية البنى التحتية الأساسية، وكأولوية ثالثة فقط لحماية الأهداف المدنية، التي سيكون لسلوك الجمهور فيها، أهمية كبيرة في مواجهة تحذيرات الجبهة الداخلية والحماية السلبية بمختلف أنواع الملاجئ، والتي تعدّ قليلة».

آثار صدمة 7 أكتوبر

ويحذر الدكتور العميد (احتياط) أريئيل هايمان من أن «إسرائيل، في معظمها، لا تزال تعاني صدمة جماعية مستمرة، من جراء هجوم (حماس) في 7 أكتوبر، تضر بشدة بقدرتها على الصمود. ويتجلى هذا الوضع في تقلص مؤشرات الصمود، كما تظهرها استطلاعات الرأي العام التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي. فهناك تراجع كبير في الصمود الوطني للمجتمع الإسرائيلي، مقارنة بالأشهر الأولى للحرب. ويتجلى ذلك في انخفاض واضح في مستوى التضامن والثقة في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش الإسرائيلي، وفي مستوى التفاؤل والأمل لدى غالبية الجمهور. كل هذا، أيضاً في مواجهة ما يُعدّ «تباطؤاً» في الحرب على غزة، والتي كان ينظر إليها في البداية، على أنها حرب مبررة، وأدت في البداية إلى «التقارب حول العلم الوطني». من المشكوك الآن، إلى أي مدى سيكون المجتمع الإسرائيلي مستعداً ذهنياً لحرب صعبة وطويلة الأمد في الشمال أيضاً».

جندي إسرائيلي يتفقد الأضرار في منزل أُصيب بصاروخ أطلقه «حزب الله» على كريات شمونة (أ.ف.ب)

ويقول البروفسور بوعز منور، رئيس جامعة رايخمان، الذي ترأس البحث حول الحرب مع لبنان: «لا تخافوا، إسرائيل لن تُهزم في حرب كهذه. لكن 7 أكتوبر سيبدو صغيراً أمام ما سيحل بنا في حرب مع لبنان. سيحصل ضرر استراتيجي كبير. لكن لن يكون هناك خطر وجودي علينا. وأنا لا أريد أن أخفف وطأة هذه الحرب إلا أنني أضع الأمور في نصابها. والحقيقة أننا لا نحتاج إلى حرب كهذه؛ إذ إنه في حال التوصل إلى اتفاق في غزة سينسحب الأمر على الشمال».

وحذّر البروفسور شيكي ليفي، الباحث في اتخاذ القرارات ورئيس دائرة التمويل في الجامعة العبرية، من حرب لبنان ثالثة عالية، مؤكداً أن «الجميع يتفق على أن مثل هذه الحرب، إذا ما نشبت، ستكون حرباً وجودية، مع إصابات في الأرواح وفي الممتلكات على نطاق لم تشهده دولة إسرائيل أيضاً. هذه حرب ستضع مجرد وجود الدولة في خطر حقيقي». ويضيف، في مقال نشرته «معاريف» أخيراً أن «انعدام ثقة أغلبية الجمهور في إسرائيل بالقيادة السياسية غير مسبوق، كما ينعكس في استطلاع إثر استطلاع. الجيش متآكل حتى الرمق الأخير من الحرب المتواصلة منذ 7 أكتوبر. يوجد حد لما يمكن أن نطلبه من رجال الاحتياط الذين انفصلوا عن عائلاتهم، جمّدوا حياتهم المهنية والتعليمية ويقاتلون منذ أشهر طويلة في غزة وفي الشمال».

على رغم كل ذلك، هناك احتمال كبير في أن تختار إسرائيل فتح هذه الحرب، أو الانجرار إليها على طريق الكمائن الذاتية. فهي تواصل سياسة الاغتيالات لقادة «حزب الله»، مع علمها اليقين بأن مع كل اغتيال يأتي رد تصعيدي. في الوقت الحاضر، يحافظ «حزب الله» على السقف الذي حددته الولايات المتحدة وإيران في بداية الحرب، بمنع الانفجار الأوسع، ملتزماً بسياسة الرد وعدم المبادرة إلى عمليات كبيرة. لكن استمرار هذا الانضباط ليس مضموناً. فيكفي أن يقع أحد الأطراف في خطأ ما حتى تنفجر الأمور وتخرج عن السيطرة. وعندها لا يبقى من كلام سوى ذلك المثل القائل: «مجنون ألقى حجراً في البئر».