لماذا تتوالى الويلات على «سويسرا الشرق» منذ نصف قرن ؟

أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
TT

لماذا تتوالى الويلات على «سويسرا الشرق» منذ نصف قرن ؟

أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)

قيل الكثير حول أسباب الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت عام 1975 ولا تزال مستمرة حتى الآن، وبأشكال مختلفة منها ما هو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو غيره. وعلى رأس هذه الأسباب التكسر المجتمعي الذي خلق من لبنان فسيفساء وموازييك متعدد الاتجاهات والولاءات والنظرات إلى الدولة أو الانتماء أو حتى الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلد، حيث تلعب الولاءات التقليدية والاجتماعية، أكانت عشائرية أو طائفية أم عائلية – قبلية، دوراً مهماً في الحياة السياسية والاجتماعية في هذا العالم.
في البداية لا بد لنا أن نتساءل: لماذا استطاع هذا البلد الصغير، غير المرئي على خريطة العالم تقريباً، أن يجذب انتباه معظم بلدان المعمورة؟ لماذا لبنان تحديداً؟!
يقيناً، البدايات الأولى للمشكلة تعود إلى زمن بعيد، إلى مشكلة «بنك أنترا» عام 1966، وربما إلى قبل ذلك في بداية الستينات. فالازدهار التدريجي الهائل للبنان بعد اكتشاف النفط في البلدان العربية (الخليج) قد جذب انتباه معظم الدول، وتحديداً أوروبا وأميركا، وبخاصة بعد تسميته «سويسرا الشرق». فقد بدأت هذه البلدان تتساءل: هل يجب أن تؤخذ هذه التسمية في الاعتبار أم لا؟
إن تنافس لبنان مع سويسرا في حقل الصناعة المصرفية قد شكل تهديداً خطيراً للعالم بأسره، خصوصاً عندما حل مكان المصارف الأوروبية والأميركية في جذب الاستثمارات والأموال العربية الخليجية. لذا، تجب إزالة لبنان الخطير هذا كبلد منافس ومهدد، لا سيما أنه مجرد نقطة صغيرة على الخريطة الدولية.
وتسللت المؤامرة عبر نقاط الضعف اللبنانية، من الأديان ومسائل ثانوية أخرى شكّلت على الدوام التربة الخصبة والصالحة لكل أولئك الذين أرادوا إلحاق الأذى بالقطاع المصرفي، وبالتالي الازدهار الاقتصادي للبلد بمجمله لا بالسكان اللبنانيين تحديداً.
هكذا بدأت المؤامرة، ولسوء الحظ، كلما أصبح لبنان قادراً على دحر هذا المخطط ظهرت مشكلة جديدة أمعنت في البلد تدميراً وتحطيماً يبدوان أبديين، والله وحده يعلم متى سينتهيان.
يجب أن نأخذ في الاعتبار الجوانب والمظاهر المتعددة للحرب اللبنانية، ولكن وبالمقارنة مع الأسباب المتعددة للحرب اللبنانية، شكّلت مصالح الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية الأخرى السبب الأكثر أهمية في دمار لبنان ومحنته، حيث كان التدخل الدولي العامل المساعد والمحرك لبداية الحرب الأهلية داخل البلد واستمراريتها.

لما سُمي لبنان «سويسرا الشرق»؟
قبل التوسع، لا بد لنا من ذكر شيء عن سويسرا التي تقع وسط أوروبا، حيث يحيط بها كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا. وفي بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939، حارب أدولف هتلر، مستشار ألمانيا الغربية، وغزا أوروبا بمجملها من دون أن يمس حتى حدود سويسرا، ليس بسبب خوفه من الجيش السويسري (الذي لم يتجاوز عدد أفراده أصابع اليد آنذاك)، بل لأن لسويسرا دوراً مهماً تلعبه في تمويل العالم بأسره، لأن كل أموال الأثرياء في بقاع الأرض قد وُضعت في البنوك السويسرية. وإذا ما أخذنا ذلك في الاعتبار، فسيكون من السهل علينا فهم النتيجة.
من المفيد أن نذكر في هذا المجال أن أمم الأرض قد عبّرت عن شكرها وامتنانها لما فعلته وقدمته سويسرا للعالم بأسره إبان الحرب العالمية الأولى، وذلك بجعل عَلَمها ذي اللونين الأحمر والأبيض رمزاً لما يسمى «الصليب الأحمر».
وهكذا، ولأكثر من قرن مضى، كانت سويسرا الرائدة والسباقة في مجال الصناعة المصرفية وصناعة الساعات حتى ظهر اليابانيون على المسرح يحاولون اجتذاب المستهلكين نحو ساعاتهم الكوارتز الزهيدة الثمن والصغيرة والأكثر دقة على التوقيت وتعمل على البطارية بدلاً من التعبئة اليدوية أو الأوتوماتيكية والتي تميزت بآلات حاسبة وألعاب تسلية وإشارات تنبيه وغيرها من الأشياء، تاركين لسويسرا الصناعة المصرفية تقريباً. وبدأت سويسرا تخسر سوق الساعات العالمية ودخلت اليابان في هذا المجال بكل ما فيها من تطوير وتجديد.
مجمل القول إنه تُرك لسويسرا اختصاص الصناعة المصرفية إلى أن تحرك لبنان إلى الأمام ليصبح منافساً مهماً ووحيداً لسويسرا في اختصاصه وسيرته المصرفية. ففي أواخر الستينات كان في لبنان أكثر من ثمانين مصرفاً (هذا إذا لم نعدد الفروع)، بينما لم يكن لدى سويسرا أكثر من خمسة مصارف كبيرة، مما دفع العالم بأسره إلى التساؤل عما سيحصل للبنوك السويسرية في ظل لبنان كمنافس عملاق لها! هنا نشأت كيفية تخليص ما تبقى من التخصيص السويسري في مجال الصناعة المصرفية، لأن سويسرا كانت مركز المصارف الرائدة، خصوصاً بعد اكتشاف النفط في البلدان العربية عام 1950.
لذا كان جوهر المؤامرة ضد لبنان العمل على جعل المصارف الأجنبية تبتعد عنه، إما بالنزوح عن لبنان وإما بجعلها تستثمر أموالها في مجال آخر غير القطاع المصرفي. وحيث إن «بنك أنترا» كان يتمتع بمكانة عالية في القطاع المصرفي، فقد تدفقت الأموال العربية، كما ذكرنا سابقاً، عليه محدثةً فائضاً مالياً هائلاً في هذا المصرف الذي يستثمر في فرنسا وفي غيرها من البلدان، وفي قطاع التملك تحديداً، مما جعله أحد أهم المؤسسات المالية في العالم القديم (أوروبا، آسيا، أفريقيا) والجديد (أميركا).
كان الاعتقاد السائد أنه إذا تم تدمير «بنتك أنترا» فإن الودائع العربية لن تتوقف عن التدفق على لبنان فحسب، بل إن القطاع المصرفي سيبدأ في الانهيار، تلك كانت بداية المؤامرة بمجملها.
وفي الواقع، لقد خططت السفارات الأجنبية المختلفة لنشر إشاعات ومكالمات هاتفية ورعب اقتصادي في أول يوم (الاثنين) من أسبوع الجمعة الأسود، وذلك لتحذير المودعين وحضهم على سحب ودائعهم من «بنك أنترا» لأن رائحته بدأت تفوح إلى العلن. واستمرت المأساة أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة من عام 1966 (الذي سُمي فيما بعد «الجمعة الأسود»). وعندما فتح المصرف أبوابه في التاسعة والنصف، تدفق جمهور المودعين مطالبين بسحب ودائعهم. ومن الطبيعي أنه لم يكن لدى المصرف السيولة المالية الكافية، فأُعطي المودعون شيكات (حوالات) للبنك المركزي الذي رفضها.
وسرعان ما امتد هذا الوضع بسرعة إلى كل أرجاء العالم، متسبباً بسحوبات من الودائع لا نهاية لها، وبخاصة ودائع الأثرياء العرب. واتصلت إدارة «بنك أنترا» بالبنك المركزي عارضةً رهن كل استثمارات مصرفها في فرنسا، إضافةً إلى سندات الملكية لديه كحصته في شركة «طيران الشرق الأوسط»... إلخ، إلا أن البنك المركزي رفض بصراحة تامة العرض المقدم له. وهكذا لم يكن «بنك أنترا» قادراً على حل هذه المعضلة، فوجد نفسه ملزماً بأن يقفل أبوابه نهائياً. وفعلاً توقف المصرف عن الوجود عند الساعة الحادية عشرة وكانت تلك الخطوة الأولى على طريق نجاح المؤامرة المدبرة ضد لبنان.
الهدف الثاني ضد المصارف كان البنك البريطاني للشرق الأوسط، ثاني أكبر مصرف في لبنان بعد «أنترا». وبدأ مودعوه، بعد تأثير الرعب الذي سببه «أنترا» يطالبون بسحب ودائعهم منه، إلا أن إدارة البنك اكتشفت اللعبة وأوعزت إلى مكتبها الرئيسي في هونغ كونغ فسارع إلى إرسال الأموال وأعلن المصرف أن أبوابه ستُفتح 24 ساعة يومياً بما فيه السبت والأحد. لكنه حذر المودعين بأن كل من يسحب ودائعه سيتوقف إلى الأبد عن كونه زبوناً لدى البنك البريطاني للشرق الأوسط. ومن البدهيّ القول إنه نتيجة لانهيار «أنترا» تم حث الاستثمارات الأجنبية والمحلية على ترك لبنان والذهاب إلى أي مكان آخر، أكانت المصارف السويسرية أو الأجنبية أو غيرها.
وهكذا نجح المخططون في مخططهم. لكن الزمن كان كفيلاً ببلسمة الجراح. ونتيجة لذكاء اللبنانيين، بدأ العرب يتناسون الأزمة التي سبّبها «بنك أنترا» وعادت الأموال تتدفق وتصب في المصارف اللبنانية ثانية. على مر سبعة وأربعين عاماً، استمر التدخل الأجنبي واستمر المخطط في مؤامراته على المصارف في لبنان منذ الحرب الأهلية 1975، كما ذكرنا سابقاً، حتى تاريخه، بأشكال مختلفة وطرق متنوعة حتى تمكن من تحقيق الهدف أخيراً ونجاح المؤامرة ولكن، ويا للأسف، ليس على يده بل على يد سياسيين ومسؤولين وموظفين ومتواطئين لبنانيين، فانهار القطاع المصرفي بسرعة فائقة وبكل سهولة وتم تدميره بالكامل تقريباً ما أدى إلى سحب المودعين الأجانب والعرب وحتى اللبنانيين ودائعهم إلى المصارف الأجنبية. والآن يبحث المسؤولون في الدولة اللبنانية موضوع «الكابيتال كونترول» المنقوص والسرية المصرفية الملتوية بعد أن خسر لبنان ثقة العالم أجمع بنظامه المصرفي وهو الآن يتخبط بفوضى عارمة ويُظهر عدم معرفة، أو بالأحرى عدم إرادة في كيفية إدارة هذا القطاع.
إن الوضع الراهن، وبسبب الأحداث والظروف المؤلمة من ضائقة اقتصادية ومعيشية خانقة وفقدان أبسط سبل العيش الكريم للبنانيين من ماء وكهرباء واتصالات وبنى تحتية وفقدان القيمة الشرائية لليرة اللبنانية (حيث كانت 2. 25 ل.ل توازي دولاراً أميركياً قبل الحرب الأهلية، أصبح الآن الدولار الواحد الأميركي يوازي أكثر من 35000 ل.ل) وغيرها من المشكلات الاجتماعية والصحية والتربوية، لا يزال البنانيون يعانون ويتحملون ويعملون جاهدين كي تكون فترة الانتظار قصيرة حتى يتقدموا نحو الحل النهائي، ومَن يدري؟! ربما تتغير تسمية «سويسرا الشرق» إلى «هونغ كونغ الشرق».
يقول البوذيون: «إن الثيران بطيئة الحركة، لكن الأرض صبورة جداً».
* باحثة لبنانية



الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
TT

الربيع العربي... تكاليف السلطة وعوائد الحكم

القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)
القذافي يتوسط مبارك (يمين) وعلي عبد الله صالح (يسار) ويظهر عمرو موسى ضاحكاً بعد «قمة سرت» عام 2010 (رويترز)

ما لم يكن أكثرها أهمية، فإن الربيع العربي أحد أهم أحداث الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في الشرق الأوسط. الذكريات السلبية التي يثيرها حديث الربيع تزيد كثيراً عما يثيره من مشاعر إيجابية. هناك بهجة الحرية المرتبطة بمشهد آلاف المحتشدين في الميادين؛ احتجاجاً ضد حكام طغاة، أو احتفالاً بسقوطهم. لكن هذا المشهد يكاد يكون لقطة خاطفة تبعها شريط طويل من المناسبات المحزنة. فما الذي سيبقى في ذاكرة التاريخ من الربيع العربي: لقطة الحرية القصيرة، أم شريط المعاناة الطويل؟

بين ديسمبر (كانون الأول) 2010 ومارس (آذار) التالي، اشتعلت نيران العصيان في عدة بلاد عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. انفجار الثورة بشكل متزامن في عدة بلاد لا يكفي لافتراض التجانس بينها. للمشرق العربي خبراته التاريخية وتركيبته الاجتماعية المختلفة عن شمال أفريقيا.

في المشرق فسيفساء عرقية ودينية وقومية لا يشبهها شيء في شمال أفريقيا التعددي، لكن غير المفتت. تاريخياً، أدى قرب المشرق من مركز الحكم الإمبراطوري العثماني إلى حرمانه من تكوين خبرة خاصة مع السلطة ذات الأساس المحلي. البعد الجغرافي عن مركز السلطة العثماني سمح بظهور سلطات ذات منشأ محلي، لها علاقة ما بالمحكومين في الشمال الأفريقي.

لقاء جمع بشار الأسد بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك في القاهرة عام 2000 (أ.ف.ب)

مصر بين مركزين

وقوع مصر في منتصف المسافة بين مركز الحكم العثماني والمغرب البعيد، أسس لعلاقة مراوحة مترددة بين السلطة في مصر ومركز السلطنة، حتى جاء محمد علي باشا الكبير ليحسم التردد. الصحراء الليبية المحرومة من تجمعات سكانية كبرى، والمنجذبة إلى مراكز متعددة للسلطة شرقاً وغرباً، تأخر قيام السلطة المحلية وظهور تقاليد السياسة والحكم فيها.

الأفكار والآيديولوجيات والمشاعر والخيالات والأوهام تنتقل بين الجمهوريات على لغة جامعة ووسائل إعلام يجري استهلاكها بشكل مشترك، وإن كانت تَصنَع في كل «جمهورية» أثراً مختلفاً طبقاً لطبيعته الخاصة المميزة. لهذا انتقل الربيع من مكان إلى آخر، ولم تنتقل مؤثرات الموجة الديمقراطية الثالثة قبل ذلك. لهذا أيضاً أنتج الربيع نتائج مختلفة في كل بلد. التركيز هنا سيكون على بلاد الشمال الأفريقي، خاصة مصر وتونس، مع ملاحظات وتعريجات على خبرات أخرى بغرض الإيضاح.

السقوط السريع لأنظمة حكمت لعقود في شمال أفريقيا مستخدمة قبضة أمنية قوية، برهن على وجود أخطاء جسيمة غير قابلة للاستمرار. التفاوت الاجتماعي، وبطالة الشباب والجامعيين، واحتكار السلطة، وانتهاك الحقوق، واستباحة المال العام، وخواء مؤسسات التمثيل السياسي، وتجريف الحياة السياسية والفكرية في جمهوريات عدة؛ كل هذا أفقد الطبقة الحاكمة الأساس الأخلاقي المبرر لأحقيتها وجدارتها بالسلطة، وهو أمر ضروري في مجتمع «الجماهير الغفيرة» الحديث.

سقوط النظام القديم

هذا هو الفارق بين الهيمنة والسيطرة. كلما تآكل الأساس الأخلاقي للسلطة، ازدادت الحاجة للقمع، وارتفعت تكلفة ممارسة الحكم، حتى نصل إلى لحظة تزيد فيها تكلفة السلطة على عوائدها، فينهار النظام. هذا بالضبط ما حدث في الربيع، فعندما تراخت القبضة الأمنية، أو تعرضت لتعطل مفاجئ عجزت السلطة عن الاستمرار.

سقوط النظام القديم لم يتبعه ظهور نظام جديد بروعة الشعارات المرفوعة في الميادين. لقد تعلمنا بالطريقة الصعبة أن ما كان لدينا من عناصر التمرد على النظام القديم أكبر بكثير مما كان لدينا من عناصر بناء النظام الجديد، وأن النجاح في هدم الجمهوريات القديمة لا يضمن النجاح في إقامة جمهوريات جديدة.

خلال أسابيع قليلة تحرَّرت دول شرق أوروبا الشيوعية، وأسست ديمقراطيات فعالة. عقد ونصف العقد بعد الربيع العربي، وما زالت حروبه مستمرة في بعض البلاد، وأسئلته الكبرى مُعلَّقة بلا إجابات في كل البلاد، أسئلة الديمقراطية، ونظام الحكم المناسب، والإسلام السياسي، والاستمرارية والتغير.

سقطت أنظمة، وتم إطلاق الوعد الديمقراطي. تأسست ديمقراطية عرجاء وانشغل القائمون عليها بالمكايدات والانقسامات، فلم تعمل سوى لفترة قصيرة، عادت بعدها أشكال من النظام القديم إلى الحكم. هذه جمهوريات لا تعيش فيها دولة الاستبداد الأمني، ولا تعيش فيها الديمقراطية أيضاً. إنها محيرة، فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني، لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية مستدامة.

لدى المصريين تعبير بليغ عن الراقصين على السلم، لا شاهدهم سكان الطابق الأعلى ولا سمع بهم سكان الطابق الأسفل. هذا هو حال بلاد الشمال الأفريقي مع الديمقراطية.

إخفاق المحاولات الديمقراطية في منطقتنا يدعونا لنقاش جدّي حول شروط الديمقراطية. النشطاء المتحمسون لا يحبون النقاش الجدي في هذه المسألة؛ لأنها في نظرهم تهرُّب من الاستحقاق الديمقراطي الصالح لكل مكان وزمان. ما نعرفه هو أن الديمقراطية الحديثة بدأت في الظهور في القرن الثامن عشر، وليس قبله، عندما نضجت الظروف اللازمة لقيامها. حدث ذلك في بعض البلاد أسبق من غيرها؛ لأن المجتمعات لا تتطور بشكل متكافئ.

هذه جمهوريات محيرة... فيها ما يكفي لتقويض الاستبداد الأمني لكن ليس لديها ما يلزم لقيام ديمقراطية

يحدث التحول الديمقراطي في موجات تعكس عملية تاريخية، نطاقها النظام الدولي كله، لإنضاج شروط التحول الديمقراطي في البلاد المختلفة. محاولة دول الربيع تحقيق الديمقراطية جاءت منفصلة عن أي موجة عالمية للتحول الديمقراطي.

على العكس، فقد حدثت المحاولة العربية للتحول الديمقراطي عندما كان العالم يشهد موجة عكسية للانحسار الديمقراطي. وصلت الديمقراطية الليبرالية إلى ذروة ازدهارها بعد نهاية الحرب الباردة. في عام 2006 كان 60 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تحكمها نظم ديمقراطية ليبرالية، لكن طوال الثمانية عشر عاماً التالية، وفقاً لمؤسسة «بيت الحرية» التي ترصد وتقيس حالة الحرية في بلاد العالم المختلفة، فإن عدد الدول التي تناقص مستوى الحرية المتاح فيها زاد عن عدد الدول التي زاد مستوى الحرية المتاح فيها، بمعدل اثنين إلى واحد. هناك أيضاً تراجع في جودة الديمقراطية.

فبعد أن شهدت الدول والمجتمعات الغربية ما بدا أنه إجماع على القيم الليبرالية واقتصاد السوق والعولمة خلال العقد التالي لانتهاء الحرب الباردة، تزايدت خلال العقدين الأخيرين الشكوك حول القيم الليبرالية، وتآكل الإجماع حول المقصود بالقيم الديمقراطية، وانكمشت اتجاهات الوسط الآيديولوجي والسياسي. في ظل هذه الشروط غير المواتية حدثت محاولة الربيع الفاشلة لتحقيق الديمقراطية.

عتبة قيام الديمقراطية

للديمقراطية شرط اقتصادي. الدراسات الجادة تبين أن هناك عتبة معينة يكون قيام ديمقراطية فعالة ومستدامة تحتها أمراً غير مرجح. ستة آلاف دولار لمتوسط دخل الفرد هي العتبة التي رصدها الدارسون، فعند هذا المستوى تحقق الطبقات الاجتماعية درجة مناسبة من التبلور، وتظهر طبقة وسطى تلعب دوراً مركزياً في التحول الديمقراطي.

تحدث التمردات الديمقراطية حتى قبل الوصول إلى هذه العتبة، لكنها نادراً ما تقود إلى تأسيس ديمقراطية مستدامة. لم تشهد كل البلاد التي اجتازت العتبة الاقتصادية تحولاً ديمقراطياً، ولا كل البلاد الواقعة تحتها تعاني من الاستبداد. الشرط الاقتصادي لا يختزل التاريخ والواقع الاجتماعي والسياسي المعقد في عامل واحد، إلا أن العلاقة بين الديمقراطية والثروة تظل قائمة، فالحديث هنا عن نمط واتجاه واحتمالات، لا عن حالات بعينها. في كل الأحوال ليس من بين دول الشرق الأوسط التي جربت حظها في أثناء الربيع من اجتاز العتبة الاقتصادية للديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب إخفاق المحاولة.

للديمقراطية شرط ثقافي - سياسي. قيام الديمقراطية يحتاج إلى قدر مناسب من الإجماع والتوافق الآيديولوجي والقيمي بين قوى المجتمع الرئيسية. الديمقراطية نظام فعال لحل الخلافات الآيديولوجية، لكن فقط ضمن حدود معينة.

عندما انقسم الأميركيون بين أنصار العبودية وأنصار التحرير، توقف النظام عن العمل، ووقعت الحرب الأهلية. الجمهورية الثانية في إسبانيا انتهت بحرب أهلية بالغة الفظاعة بين اليمين واليسار. الانقسام الآيديولوجي المتزايد في الولايات المتحدة وبلاد أوروبا الغربية يهدد بتراجع جودة الديمقراطية. في الديمقراطية يسلم الطرف الخاسر في الانتخابات السلطة طواعية، أولاً لأنه يدرك أن لديه فرصة أخرى للمنافسة، وثانياً لانتمائهما معاً، الخاسر والرابح، لنفس عائلة الأفكار والقيم.

عندما ينظر أحد الأطراف للطرف الآخر بوصفه العدو، تتوقف الديمقراطية عن العمل، ويمتنع الخاسر عن تسليم السلطة. اقتحام الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) قبل أربع سنوات كان بروفة محدودة لما يمكن أن يحدث عندما يقع انشقاق آيديولوجي وقيمي في المجتمع. على العرب إيجاد صيغ لتسوية الخلافات الآيديولوجية العميقة السائدة قبل محاولة الديمقراطية، فالأخيرة لم يتم تصميمها لحل الصراعات الآيديولوجية الحادة.

صورة أرشيفية للرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي (غيتي)

صراع المعنى والهوية

صراعات الربيع لم تكن كلها من أجل الوظائف والأجور والخدمات والتمثيل السياسي، بل كانت أيضاً صراعات حول المعنى والهوية، والتي تتفجر في كل البلاد، من الهند وحتى الولايات المتحدة، وما الترمبية والتيارات الشعبوية اليمينية في أوروبا إلا تعبيراً عن هذه الظاهرة. حتى تيارات اليسار في بلاد غربية كثيرة أصبحت أكثر انشغالاً بالهويات المهمشة من انشغالها بالطبقات المحرومة. العرب ليسوا أعجوبة، وليس لديهم شيء يخجلون منه، رغم فجاجة أشكال التعبير عن صراعات الهوية في بلادنا.

الانقسام الآيديولوجي هو أحد أهم أسباب إخفاق الربيع. في كل مكان زاره الربيع في الشرق الأوسط دار صراع عنيف وحاد بين المصدرين الأكبر للمعنى: الوطن والدين. حاول الأصولي تهميش الوطني، فرد عليه الوطني بتهميش مضاد، فيما القوى الأخرى، الليبرالية واليسارية، تكتفي بعزف الموسيقى التصويرية والتشجيع. هذا الاستقطاب الثنائي مدمر، ولا مخرج منه إلا بظهور تيار ثالث يفكك الثنائية، أو بترويض المتطرفين، ليتقدموا بنسخة جديدة مقبولة غير مثيرة للفزع من أنفسهم.

قد تكون الديمقراطية صيغة صعبة المنال في بلاد لها ظروف بلادنا. ربما توافرت الظروف لبناء ديمقراطية كاملة في وقت لاحق. حتى لو لم نكن قادرين على بناء ديمقراطية كاملة، فإن جمهوريات الاستبداد المفرط لم تعد قابلة للحياة.

هذا هو درس الربيع العربي. الاستبداد الوحشي ليس هو البديل الوحيد لدمقرطة الجهوريات، فهناك صيغ تحقق الشرعية، فيما تضمن درجة عالية من الانضباط وفاعلية المؤسسات العامة. النظام السياسي للدولة الوطنية التنموية في سنغافورة يقوم على تعددية، تتنافس فيها الأحزاب السياسية في انتخابات نزيهة تحظى بالاحترام، يفوز بها نفس الحزب الذي حكم البلاد منذ عام 1959. سنغافورة من بين الدول العشر الأقل فساداً في العالم، ومن بين أسرعها نمواً، رغم أنها ليست ديمقراطية كاملة. هناك مساحات واسعة للتقدم حتى في غياب الديمقراطية.

قد تفترض الحكمة السائدة في العلوم السياسية أن الديمقراطية الليبرالية - جدلاً - أفضل نظام للحكم، لكن عملية بناء نظام سياسي لا تشبه في شيء التجول في الأسواق بحثاً عن أفضل نظام سياسي. المجتمعات تبني النظام السياسي الذي يناسبها، وليس النظام السياسي الأفضل. وفي الحقيقة، فإن النظام السياسي المناسب هو النظام السياسي الأفضل ضمن الميراث التاريخي والحقائق الاجتماعية والسياسية لكل مجتمع. هذا ما يجب على العرب مواصلة السعي إليه في ربع القرن المقبل.

* باحث مصري