لماذا تتوالى الويلات على «سويسرا الشرق» منذ نصف قرن ؟

أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
TT

لماذا تتوالى الويلات على «سويسرا الشرق» منذ نصف قرن ؟

أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)

قيل الكثير حول أسباب الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت عام 1975 ولا تزال مستمرة حتى الآن، وبأشكال مختلفة منها ما هو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو غيره. وعلى رأس هذه الأسباب التكسر المجتمعي الذي خلق من لبنان فسيفساء وموازييك متعدد الاتجاهات والولاءات والنظرات إلى الدولة أو الانتماء أو حتى الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلد، حيث تلعب الولاءات التقليدية والاجتماعية، أكانت عشائرية أو طائفية أم عائلية – قبلية، دوراً مهماً في الحياة السياسية والاجتماعية في هذا العالم.
في البداية لا بد لنا أن نتساءل: لماذا استطاع هذا البلد الصغير، غير المرئي على خريطة العالم تقريباً، أن يجذب انتباه معظم بلدان المعمورة؟ لماذا لبنان تحديداً؟!
يقيناً، البدايات الأولى للمشكلة تعود إلى زمن بعيد، إلى مشكلة «بنك أنترا» عام 1966، وربما إلى قبل ذلك في بداية الستينات. فالازدهار التدريجي الهائل للبنان بعد اكتشاف النفط في البلدان العربية (الخليج) قد جذب انتباه معظم الدول، وتحديداً أوروبا وأميركا، وبخاصة بعد تسميته «سويسرا الشرق». فقد بدأت هذه البلدان تتساءل: هل يجب أن تؤخذ هذه التسمية في الاعتبار أم لا؟
إن تنافس لبنان مع سويسرا في حقل الصناعة المصرفية قد شكل تهديداً خطيراً للعالم بأسره، خصوصاً عندما حل مكان المصارف الأوروبية والأميركية في جذب الاستثمارات والأموال العربية الخليجية. لذا، تجب إزالة لبنان الخطير هذا كبلد منافس ومهدد، لا سيما أنه مجرد نقطة صغيرة على الخريطة الدولية.
وتسللت المؤامرة عبر نقاط الضعف اللبنانية، من الأديان ومسائل ثانوية أخرى شكّلت على الدوام التربة الخصبة والصالحة لكل أولئك الذين أرادوا إلحاق الأذى بالقطاع المصرفي، وبالتالي الازدهار الاقتصادي للبلد بمجمله لا بالسكان اللبنانيين تحديداً.
هكذا بدأت المؤامرة، ولسوء الحظ، كلما أصبح لبنان قادراً على دحر هذا المخطط ظهرت مشكلة جديدة أمعنت في البلد تدميراً وتحطيماً يبدوان أبديين، والله وحده يعلم متى سينتهيان.
يجب أن نأخذ في الاعتبار الجوانب والمظاهر المتعددة للحرب اللبنانية، ولكن وبالمقارنة مع الأسباب المتعددة للحرب اللبنانية، شكّلت مصالح الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية الأخرى السبب الأكثر أهمية في دمار لبنان ومحنته، حيث كان التدخل الدولي العامل المساعد والمحرك لبداية الحرب الأهلية داخل البلد واستمراريتها.

لما سُمي لبنان «سويسرا الشرق»؟
قبل التوسع، لا بد لنا من ذكر شيء عن سويسرا التي تقع وسط أوروبا، حيث يحيط بها كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا. وفي بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939، حارب أدولف هتلر، مستشار ألمانيا الغربية، وغزا أوروبا بمجملها من دون أن يمس حتى حدود سويسرا، ليس بسبب خوفه من الجيش السويسري (الذي لم يتجاوز عدد أفراده أصابع اليد آنذاك)، بل لأن لسويسرا دوراً مهماً تلعبه في تمويل العالم بأسره، لأن كل أموال الأثرياء في بقاع الأرض قد وُضعت في البنوك السويسرية. وإذا ما أخذنا ذلك في الاعتبار، فسيكون من السهل علينا فهم النتيجة.
من المفيد أن نذكر في هذا المجال أن أمم الأرض قد عبّرت عن شكرها وامتنانها لما فعلته وقدمته سويسرا للعالم بأسره إبان الحرب العالمية الأولى، وذلك بجعل عَلَمها ذي اللونين الأحمر والأبيض رمزاً لما يسمى «الصليب الأحمر».
وهكذا، ولأكثر من قرن مضى، كانت سويسرا الرائدة والسباقة في مجال الصناعة المصرفية وصناعة الساعات حتى ظهر اليابانيون على المسرح يحاولون اجتذاب المستهلكين نحو ساعاتهم الكوارتز الزهيدة الثمن والصغيرة والأكثر دقة على التوقيت وتعمل على البطارية بدلاً من التعبئة اليدوية أو الأوتوماتيكية والتي تميزت بآلات حاسبة وألعاب تسلية وإشارات تنبيه وغيرها من الأشياء، تاركين لسويسرا الصناعة المصرفية تقريباً. وبدأت سويسرا تخسر سوق الساعات العالمية ودخلت اليابان في هذا المجال بكل ما فيها من تطوير وتجديد.
مجمل القول إنه تُرك لسويسرا اختصاص الصناعة المصرفية إلى أن تحرك لبنان إلى الأمام ليصبح منافساً مهماً ووحيداً لسويسرا في اختصاصه وسيرته المصرفية. ففي أواخر الستينات كان في لبنان أكثر من ثمانين مصرفاً (هذا إذا لم نعدد الفروع)، بينما لم يكن لدى سويسرا أكثر من خمسة مصارف كبيرة، مما دفع العالم بأسره إلى التساؤل عما سيحصل للبنوك السويسرية في ظل لبنان كمنافس عملاق لها! هنا نشأت كيفية تخليص ما تبقى من التخصيص السويسري في مجال الصناعة المصرفية، لأن سويسرا كانت مركز المصارف الرائدة، خصوصاً بعد اكتشاف النفط في البلدان العربية عام 1950.
لذا كان جوهر المؤامرة ضد لبنان العمل على جعل المصارف الأجنبية تبتعد عنه، إما بالنزوح عن لبنان وإما بجعلها تستثمر أموالها في مجال آخر غير القطاع المصرفي. وحيث إن «بنك أنترا» كان يتمتع بمكانة عالية في القطاع المصرفي، فقد تدفقت الأموال العربية، كما ذكرنا سابقاً، عليه محدثةً فائضاً مالياً هائلاً في هذا المصرف الذي يستثمر في فرنسا وفي غيرها من البلدان، وفي قطاع التملك تحديداً، مما جعله أحد أهم المؤسسات المالية في العالم القديم (أوروبا، آسيا، أفريقيا) والجديد (أميركا).
كان الاعتقاد السائد أنه إذا تم تدمير «بنتك أنترا» فإن الودائع العربية لن تتوقف عن التدفق على لبنان فحسب، بل إن القطاع المصرفي سيبدأ في الانهيار، تلك كانت بداية المؤامرة بمجملها.
وفي الواقع، لقد خططت السفارات الأجنبية المختلفة لنشر إشاعات ومكالمات هاتفية ورعب اقتصادي في أول يوم (الاثنين) من أسبوع الجمعة الأسود، وذلك لتحذير المودعين وحضهم على سحب ودائعهم من «بنك أنترا» لأن رائحته بدأت تفوح إلى العلن. واستمرت المأساة أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة من عام 1966 (الذي سُمي فيما بعد «الجمعة الأسود»). وعندما فتح المصرف أبوابه في التاسعة والنصف، تدفق جمهور المودعين مطالبين بسحب ودائعهم. ومن الطبيعي أنه لم يكن لدى المصرف السيولة المالية الكافية، فأُعطي المودعون شيكات (حوالات) للبنك المركزي الذي رفضها.
وسرعان ما امتد هذا الوضع بسرعة إلى كل أرجاء العالم، متسبباً بسحوبات من الودائع لا نهاية لها، وبخاصة ودائع الأثرياء العرب. واتصلت إدارة «بنك أنترا» بالبنك المركزي عارضةً رهن كل استثمارات مصرفها في فرنسا، إضافةً إلى سندات الملكية لديه كحصته في شركة «طيران الشرق الأوسط»... إلخ، إلا أن البنك المركزي رفض بصراحة تامة العرض المقدم له. وهكذا لم يكن «بنك أنترا» قادراً على حل هذه المعضلة، فوجد نفسه ملزماً بأن يقفل أبوابه نهائياً. وفعلاً توقف المصرف عن الوجود عند الساعة الحادية عشرة وكانت تلك الخطوة الأولى على طريق نجاح المؤامرة المدبرة ضد لبنان.
الهدف الثاني ضد المصارف كان البنك البريطاني للشرق الأوسط، ثاني أكبر مصرف في لبنان بعد «أنترا». وبدأ مودعوه، بعد تأثير الرعب الذي سببه «أنترا» يطالبون بسحب ودائعهم منه، إلا أن إدارة البنك اكتشفت اللعبة وأوعزت إلى مكتبها الرئيسي في هونغ كونغ فسارع إلى إرسال الأموال وأعلن المصرف أن أبوابه ستُفتح 24 ساعة يومياً بما فيه السبت والأحد. لكنه حذر المودعين بأن كل من يسحب ودائعه سيتوقف إلى الأبد عن كونه زبوناً لدى البنك البريطاني للشرق الأوسط. ومن البدهيّ القول إنه نتيجة لانهيار «أنترا» تم حث الاستثمارات الأجنبية والمحلية على ترك لبنان والذهاب إلى أي مكان آخر، أكانت المصارف السويسرية أو الأجنبية أو غيرها.
وهكذا نجح المخططون في مخططهم. لكن الزمن كان كفيلاً ببلسمة الجراح. ونتيجة لذكاء اللبنانيين، بدأ العرب يتناسون الأزمة التي سبّبها «بنك أنترا» وعادت الأموال تتدفق وتصب في المصارف اللبنانية ثانية. على مر سبعة وأربعين عاماً، استمر التدخل الأجنبي واستمر المخطط في مؤامراته على المصارف في لبنان منذ الحرب الأهلية 1975، كما ذكرنا سابقاً، حتى تاريخه، بأشكال مختلفة وطرق متنوعة حتى تمكن من تحقيق الهدف أخيراً ونجاح المؤامرة ولكن، ويا للأسف، ليس على يده بل على يد سياسيين ومسؤولين وموظفين ومتواطئين لبنانيين، فانهار القطاع المصرفي بسرعة فائقة وبكل سهولة وتم تدميره بالكامل تقريباً ما أدى إلى سحب المودعين الأجانب والعرب وحتى اللبنانيين ودائعهم إلى المصارف الأجنبية. والآن يبحث المسؤولون في الدولة اللبنانية موضوع «الكابيتال كونترول» المنقوص والسرية المصرفية الملتوية بعد أن خسر لبنان ثقة العالم أجمع بنظامه المصرفي وهو الآن يتخبط بفوضى عارمة ويُظهر عدم معرفة، أو بالأحرى عدم إرادة في كيفية إدارة هذا القطاع.
إن الوضع الراهن، وبسبب الأحداث والظروف المؤلمة من ضائقة اقتصادية ومعيشية خانقة وفقدان أبسط سبل العيش الكريم للبنانيين من ماء وكهرباء واتصالات وبنى تحتية وفقدان القيمة الشرائية لليرة اللبنانية (حيث كانت 2. 25 ل.ل توازي دولاراً أميركياً قبل الحرب الأهلية، أصبح الآن الدولار الواحد الأميركي يوازي أكثر من 35000 ل.ل) وغيرها من المشكلات الاجتماعية والصحية والتربوية، لا يزال البنانيون يعانون ويتحملون ويعملون جاهدين كي تكون فترة الانتظار قصيرة حتى يتقدموا نحو الحل النهائي، ومَن يدري؟! ربما تتغير تسمية «سويسرا الشرق» إلى «هونغ كونغ الشرق».
يقول البوذيون: «إن الثيران بطيئة الحركة، لكن الأرض صبورة جداً».
* باحثة لبنانية



«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

TT

«أكبر اختراق» يطارد «الخدمة السرية» الأميركية

عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)
عناصر من الخدمة السرية يستبقون وصول الرئيس الأميركي جو بايدن في قاعدة أندروز في ماريلاند (أ ف ب)

في الثالث عشر من يوليو (تموز) الحالي، وفي تمام الساعة السادسة والربع مساء بتوقيت واشنطن، تردد طنين الأخبار العاجلة في كل أرجاء البلاد، والعالم: الرئيس السابق دونالد ترمب أُصيب بإطلاق نار في حدث انتخابي في بنسلفانيا.

ترمب المدمَّى الوجه، وقف مُحكماً قبضته أمام الكاميرات، ومشى بثبات برفقة أعضاء الخدمة السرية المسؤولين عن حمايته، فاستقلَّ سيارته متوجهاً إلى مستشفى محلي لتلقي العلاج.

لحظات صدمت الشارعين الأميركي والدولي. فمحاولة اغتيال رئيس أميركي سابق هي لحظة مخيفة، وتاريخية في الولايات المتحدة، تعيد إلى الأذهان مشاهد اغتيال رؤساء سابقين كجون كينيدي وأبراهام لينكولن، ومحاولة اغتيال رونالد ريغان، الرئيس الجمهوري السابق، وتعد تكراراً لسوابق خطيرة من الإخفاقات الأمنية لعناصر الخدمة السرية كادت تودي في هذه الحالة بحياة رئيس سابق ومرشح رئاسي.

فشل أمني «ذريع»

بمجرد اتضاح الصورة بعد مغادرة ترمب ساحة الجريمة، صُعق الجميع لدى رؤية ما جرى: منفّذ الاعتداء، الأميركي البالغ من العمر 20 عاماً ماثيو كروكس، متسللاً بوضوح فوق سطح أحد المباني القريبة من موقع الخطاب، وبيده بندقية «آر 15».

دونالد ترامب مغادراً المنصّة بعد انتهاء مؤتمر الحزب الجمهوري في ملوواكي (أ ف ب)

كروكس تمكن من الاقتراب بشكل مثير للعجب من ترمب الموجود على مسافة 140 متراً منه، وإطلاق النار قبل قنصه من أحد عناصر الخدمة السرية، فيما وُصف بأكبر خرق أمني منذ محاولة اغتيال ريغان.

ويتحدث مارك هيريرا رقيب الشرطة السابق ومدير الأمن المسؤول عن المنشآت التجارية التابعة لوزارة الأمن القومي عن الإخفاقات الأمنية المحيطة بالحادثة، فيقول في حديث مع «الشرق الأوسط» إن أحد أسباب القلق الأساسية هي المحيط الأمني. وأوضح: «لقد تمكن مطلق النار من الوصول إلى موقع مشرف على الحدث، مما يدل على تقصير شديد في حماية المحيط بشكل فعّال».

ويؤكد هيريرا أهمية توسيع المناطق المحمية قدر المستطاع خصوصاً في المناطق المرتفعة التي توفر «موقعاً استراتيجياً»، ويقول محذراً: «مواقع من هذا النوع تسمح لطلقات البندقية بإصابة أهدافها بدقة مدمرة»، على غرار ما حصل في عملية اغتيال الرئيس الـ35 جون كينيدي الذي قضى بعد إصابته بطلقات نارية وهو في سيارته إلى جانب زوجته جاكلين في ولاية تكساس في عام 1963».

عناصر من جهاز الخدمة السرية يحيطون المرشح الجمهوري دونالد ترامب وهو يدخل سيارته بعد تعرضه لمحاولة اغتيال (أ ب)

العميلة السابقة في مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) كاثرين شوايت، تلفت إلى وجود «ثغرات» محتملة في خطة عناصر الخدمة السرية لحماية ترمب، وتفسر قائلة في حديث مع «الشرق الأوسط»: «سيتم النظر على وجه التحديد فيما إذا كان المحيط الأمني للمكان ضيقاً بما سمح لمطلق النار من الاقتراب. كما سيتم تقييم التقارير عن رؤيته قبل إطلاق النار لتحديد ما إذا كانت هناك فرصة ضائعة للتدخل قبل ذلك». وذلك في إشارة إلى شهادات شهود عيان في موقع الحادثة قالوا إنهم نبهوا العناصر الأمنية إلى وجود مسلح على سطح المبنى قبل إطلاق النار بدقائق، كهذا الشاهد الذي قال لشبكة (بي بي سي) إنه رأى المسلح قبل أن يطلق النار: «كنت أفكر، لماذا لا يزال ترمب يتكلم؟ لماذا لم يسحبوه من المنصة؟ ثم سمعنا 5 رصاصات...».

ويسلّط هيريرا الضوء على مشكلة أخرى وهي ردة فعل عناصر الخدمة السرية بعد إصابة ترمب، فيرى أن إخراجه من موقع الحادثة كان غير منظم «مما أدى إلى تعريضه للخطر في 3 مناسبات منفصلة»، ويشدد على ضرورة أن يكون الرد على هذه التهديدات سريعاً وحاسماً لضمان سلامة الرئيس، وهو ما لم يظهر في الرد على هذه الحادثة، على حد تعبيره.

تحقيقات واتهامات

على ضوء هذه المعطيات، تواجه الخدمة السرية ومديرتها كيمبرلي تشيتل، المرأة الثانية التي تتسلم هذا المنصب في التاريخ الأميركي، انتقادات حادة بسبب هذه الإخفاقات الأمنية، وصلت إلى حد فتح تحقيقات تشريعية بهذا الخصوص، واستدعاء تشيتل للإدلاء بإفادتها أمام الكونغرس في مواجهة دعوات لاستقالتها. ويقول النائب الجمهوري جايمس كومر، رئيس لجنة المراقبة والإصلاح الحكومي، الذي استدعى تشيتل: «هناك كثير من الأسئلة يطالب الشعب الأميركي بالحصول على أجوبة عنها».

ولا تقتصر هذه الدعوات على الجمهوريين فحسب، بل تتخطاها لتشمل الديمقراطيين على رأسهم الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي أوصى بفتح تحقيق مستقل بشأن الأمن القومي لتقييم ما جرى متعهداً بـ«مشاركة نتائج التحقيق مع الشعب الأميركي».

شرطيان أميركيان يقفان أمام منل توماس ماثيو كروكس المتهم بالتورط في محاولة اغتيال ترامب (رويترز)

وبانتظار هذه التحقيقات المتفرقة، فتح مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) تحقيقه الخاص في عملية الاغتيال، وهذا ما ذكرته شوايت، مشيرةً إلى أن «إف بي آي»، التابع لوزارة العدل، والخدمة السرية، التابعة لوزارة الأمن القومي «سيعملان معاً مع وكالات فيدرالية أخرى للغوص في تفاصيل ما جرى وتشخيص نقاط الضعف». وأضافت: «هذا يتضمن مراجعة الخطط وإجراء مقابلات مع عناصر الأمن وقوات الأمن المحلية».

وتفسر شوايت، التي شمل عملها التنسيق مع الشرطة المحلية للتحقيق في حوادث إطلاق النار والرد عليها، مهمة مكتب التحقيقات الفيدرالي المسؤول عن الحوادث الداخلية في الولايات المتحدة، فتقول: «يعمل عناصر (إف بي آي) مع الخدمة السرية بشكل متواصل لمشاركة الاستخبارات حول التهديدات المحدقة بالأشخاص الذين يتطلبون الحماية، ويشارك المكتب بالتعاون مع عناصر الشرطة المحلية بالتخطيط للأحداث العامة»، لكنها تستطرد مشيرةً إلى أن «إف بي آي» هي الوكالة الوحيدة المسؤولة عن التحقيق في كل مرة يحصل فيها اعتداء على مسؤول فيدرالي، وتعطي مثالاً على ذلك بالتحقيقات في محاولات اغتيال الرئيسين السابقين رونالد ريغان وجيرالد فورد قائلة: «(إف بي آي) تجمع الأدلة وتحللها وعناصرها سيجرون مقابلات مع الحاضرين لوضع جدول زمني وصورة كاملة لمن كان متورطاً في الاعتداء. وفي حال اتضحت ضرورة توجيه تهم جنائية يطلب المكتب من وزارة العدل النظر في توجيه هذه التهم».

توصيات

وبانتظار هذه التحقيقات، تُجري الخدمة السرية تحقيقاتها الخاصة حول الثغرات الأمنية المحتملة، والإصلاحات التي يجب أن تُفرض للحؤول دون تكرار حوادث من هذا النوع. ويقول فيريرا إنه من الضروري جداً تعزيز تدريبات القوى الأمنية في الخدمة السرية المسؤولة عن حماية شخصيات بارزة، معتبراً أنه كان من الواضح من خلال رد فعل العناصر الموجودين حول ترمب أن بعضهم يفتقر للتدريب الكافي. ويفسر ذلك قائلاً: «لقد رأينا فريق الخدمة السرية يتردد عدة مرات ويعرّض الهدف (ترمب) للخطر. يجب تحديد الأدوار والمسؤوليات بوضوح لكل عضو في الفريق. هذا يخفف من التردد ويضمن اطّلاع الجميع على مهامهم المحددة في حال الطوارئ». ويضيف فيريرا، المسؤول عن تأمين الحماية الأمنية لمنشآت وزارة الأمن القومي التجارية: «يجب أن تمر الفرق بتمارين مكثفة، مما يعني إجراء تدريبات منتظمة وواقعية تحاكي مجموعة متنوعة من التهديدات المحتملة لضمان سرعة التصرف. كما يجب التركيز بشكل أساسي على التدريب في أجواء ضاغطة لمساعدة العناصر على الحفاظ على رباطة جأشهم واتخاذ قرارات سريعة تحت الضغط».

إخفاقات سابقة

تكرَّر على لسان الكثيرين مقارنة بين حادثة إطلاق النار على ريغان في العاصمة الأميركية واشنطن في عام 1981 التي أُصيب خلالها بجروح أدت إلى مكوثه في المستشفى لمدة 12 يوماً، وحادثة إطلاق النار على ترمب من حيث الإخفاقات الأمنية. وهذا ما قاله النائب الديمقراطي روبن غاليغو، الذي تحدث عن «أكبر فشل أمني على أعلى المستويات منذ محاولة اغتيال الرئيس ريغان».

يتفق عنصر الخدمة السرية المتقاعد تيم مكارثي مع توصيف ما جرى بـ«الفشل الأمني»، ويقول مكارثي الذي كان ضمن العناصر المكلفين بحماية ريغان، وأُصيب بطلقة نارية في صدره جراء محاولة الاغتيال: «عندما يُصاب شخص تحت حماية الخدمة السرية، فهذا يعد فشلاً لأن هذا يجب ألا يحصل». ويتابع مكارثي في مقابلة مع شبكة (إن بي سي): «قد يكون الأمر فشلاً فردياً أو من نوع آخر، لكنه فشل من دون أدنى شك. إن محاولة اغتيال ريغان كانت فشلاً أمنياً لأنه أُصيب بجراح. وما جرى مع ترمب هو فشل أمني ويجب أن ننظر إلى أسبابه».

وهذا ما تعهد به النائب غاليغو الذي قال في رسالة إلى مديرة الخدمة السرية: «لا يمكن تكرار ما جرى، وأنا أطالب بتحمل المسؤولية».

وهي ليست المرة الأولى التي تواجه فيها تشيتل انتقادات من هذا النوع، فقد سبق أن تعرضت لموجة من الانتقادات جراء أحداث اقتحام الكابيتول في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وذلك بعد أن أصدر تحقيق فيدرالي تقريراً قال فيه إن الوكالة محت رسائل هاتفية لعناصرها خلال الأحداث، كان من الممكن لها أن تسلّط الضوء على الإخفاقات الأمنية في ذلك اليوم. وبررت الخدمة السرية سبب محو الرسائل بـ«تغيير في تقنيات النظام الهاتفي» في الوكالة.

وواجهت الوكالة انتقادات متكررة كذلك بعد دخول متسلل إلى منزل مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، الذي يتمتع بحماية عناصر الخدمة السرية في عام 2023.

وفي 2021 تأخر عناصر الوكالة 90 دقيقة في إجلاء نائبة الرئيس كامالا هاريس من موقع وجود قنبلة خارج اللجنة الوطنية الديمقراطية.

أما في عام 2014 فقد تمكن متسلل من القفز فوق سور البيت الأبيض والدخول من الباب الأمامي قبل إلقاء القبض عليه في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.

ناهيك بفضيحة دعارة في كولومبيا في عام 2012 على هامش قمة الأميركيتين شملت أكثر من 20 امرأة في فندق في «كارتاخينا» تورط فيها عناصر من الوكالة ولطخت سمعتها.

ما «الخدمة السرية»؟

لم تكن مهمة الوكالة حماية المسؤولين في بداية عهدها، فقد أسَّسها الرئيس السابق أبراهام لينكولن في الخامس من يوليو (تموز) 1865 للتصدي لتزوير العملة، وكانت حينها تحت سلطة وزارة الخزانة.

بعد اغتيال الرئيس السابق ويليام كينلي، عام 1901 وجّه الكونغرس الوكالة إلى توفير الحماية للرؤساء لتصبح الوكالة الاستخباراتية الأولى الداخلية في الولايات المتحدة، قبل أن يتم تجيير مهمة جمع الاستخبارات الداخلية إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي لدى تأسيسه في عام 1908.

وبينما اقتصرت مهمة تأمين الحماية على الرؤساء فقط في بداية الأمر، عاد الكونغرس وطلب توسيع نطاقها بعد اغتيال السيناتور السابق والمرشح الديمقراطي للرئاسة روبرت ف. كينيدي في عام 1968 لتشمل عائلات الرؤساء والمرشحين للرئاسة ونوابهم.

في عام 2003 نُقل الإشراف على الوكالة من وزارة الخزانة إلى وزارة الأمن القومي، وهي تتضمن 8300 عنصر، وتصل موازنتها السنوية إلى 3.2 مليار دولار.

أسماء مشفرة

يستعمل عناصر الخدمة السرية أسماء مشفرة للرؤساء وعائلاتهم والمسؤولين الأجانب والمقرات الفيدرالية الأميركية لدى التواصل فيما بينهم. وقد بدأت هذه السياسة لأسباب أمنية قبل تشفير التواصل الإلكتروني، لتصبح اليوم تقليداً معتمداً لدى الوكالة، وهنا بعض الأسماء المعتمدة:

باراك أوباما: رينيغايد، أو المتمرد.

دونالد ترمب: موغل، أي القطب أو الشخص المهم.

جو بايدن: سيلتيك، أي الشخص من أصول أوروبية – آيرلندية.

البيت الأبيض: القصر.

الكونغرس: بانشبول، أو وعاء العصير.

البنتاغون: كاليكو، في إشارة إلى شكله الخماسي.

وزارة الخارجية: بيردز، أي أو عين الطائر.

الموكب الرئاسي: بامبو.